د.جمال الهاشمي يكتب: المنهجية القومية البراجماتية وثقافة الأسلمة
المنهجية القومية البراجماتية وثقافة الأسلمة
د. جمال الهاشمي
يُقال من الطبيعي أن ينشأ التدين الإسلامي نشأة دفاعية لمواجهة الاستبداد، ومن المنطق أن يتحول إلى ثقافة جهادية .. عسكرية ودفاعية، ومن حقه في قول أخر أن يتشارك مع القوميين في الديمقراطية الغربية لتنقية النظام من وساوس الاستعمار وثقافة الاستحمار، أو يكون معه في الثقافة الاستحمارية والاستعمار.
لا سيما أن الديمقراطية والعلمانية والحوار الحضاري والحزبية التي جاءت بها القومية العربية كانت قضية المعارضة الإسلامية ثم تحولت إلى ثقافة إسلامية حزبية بينما تحولت مع القومين الذين دافعوا عنها إلى معارضة قومية، وهكذا بعد أن كانت ضرورة قومية أصبحت مع فقهاء الأسلمة ضرورة إسلامية، ولما كانت القومية وعاء تاريخي لاستبداد المجتمعات أصبح الإسلام وعاء طائفي لاستعباد المجتمعات.
وقد نشأت فكرة القومية الإسلامية بصبغتها الثورية والفعل المسلح مع السيد جمال الدين الأفغاني في مدوناته العروة الوثقى؛ حيث نشأت معه كفكرة مقاومة للقومية الأوربية ومعارضة للقومية العربية ولم يكن اختياره لهذا المفهوم المركب عبثا بقدر ما استسقاه عن الآخر ووضعه في صياغة أخرى لمواجهة القومية الأوربية التي لم تتخلى عن قيمها الأصولية، فكان أول من أسس لفكرة الصراع بين استبداد القومية العربية التاريخية وحيوية القومية العربية الإسلامية في العصر الحديث.
وفي الجانب الآخر تبنى تلميذه الإمام محمد عبده ثقافة التحفيز العاطفي والتغيير السلمي والتي تبدأ بالمجتمعات على الطريقة الكونفوشيوسية الأخلاقية أو التغلغل الاعتزالي مفاصل الدولة العباسية، كما تبنى ثقافة الفلسفة الغنوصية أو الفلسفة الأسيوية فاشتهرت مع الأديب المتمكن صادق الرافعي في إيحاءات القلم، ومعه أيضا في رسالة الأحزان .. في فلسفتين متضادتين أحدهما ترى أن روح الانتصار يؤسس على ثقافة الانكسار فتأسست بغير ما أرادت مجتمع الرعاع ومجتمعات التشظي والانقطاع.
وفي الجانب الآخر تشكلت ثقافة القدر والمبكيات في كتابات المنفلوطي المنقولة عن الغرب والثقافة الغربية في كتابه العبرات والحسرات بينما كانت هناك مدارس أخرى تبحث عن التنمية الأخلاقية والقوة بأخلاق التقشف على المجتمعات واقتفاء البعرات.
وفي المقابل وضع طه حسين في كتاباته مقارنته السلبية بين مجتمعات الجهل والفقر والمعاناة وبين مجتمعات التقدم الثقافة والحضارة ومقارنته السياسية بين مجتمعات العبودية والاستبداد ومجتمعات الحرية والاستعداد، ومقارنة علمية بين مجتمعات الموارد الطبيعية ومجتمعات الدول الصناعية، وربما مقارنة بيولوجية فلسفية انكسارية بين مجتمعات الجنوب الميتافيزيقي ومجتمعات الشمال الفيزيائي، وتوصل بعد ذلك للتخلص من مجتمعات العادة بالتخلص من قيم العبادة.
بينما تشكلت في الشام الفلسفة الواقعية والفلسفة الثورية لمواجهة الاستبداد العرقي العثماني، والاستبداد الأوليجاركي القومي باستدعاء فكرة العلمانية العالمية كرسالة إنسانية فلسفة يونانية للتخلص من الثيوقراطية الدينية التي تقتل باسم الإله في فلسفة الأديان، أو القومية الجاهلية التي تقدم الإنسان أضحية للوطنية في فلسفة الأوثان، وهو الذي أشار إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
يرى الكواكبي أن الصراع بين الديني والقومي كانت فكرة عبثية خادعة ووسيلة دموية من وسائل السيطرة على السلطة ونهب الثروات وإفقار المجتمعات وتقييد الحرية بقيود مختلفة جميعها تختزل الدولة في طبقة النخبة القومية الأوليجاركية أو طبقة النخبة الثيوقراطية فأنشأ مقولته العلمانية وثقافة النخبة الأرستقراطية في مقولته البرجوازية والرأسمالية ” دعونا نحكم الدنيا ودعوا الأديان تحكم الآخرة” وتبعه الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه أصول الحكم وتفريقه بين الوظيفة السياسية والوظيفة النبوية عندما وجد الصراع بين الفكرتين من أهم أسباب شقاء الإنسان.
تلك السجالات المأزومة بين الإسلام والقومية هي نفسها التي تسيطر على المجتمعات منذ القرن الثامن عشر وما زالت تسيطر حتى الآن؛ وعندما تقاربت مع بدايات القرن الحادي والعشرين واستسلمت لثقافة الاستعمار بعد رحلة من السجالات الفكرية والجدلية وأوشكت النهاية حتى تجددت معها وسائل أخرى للصراع على الثروة والسلطة.
إن القومية التي جردت المجتمعات من قيم المساجد والتعاليم الروحية هي التي أسلمت المجتمعات على القيم الديمقراطية، بينما استطاعت إيران في قوميتها الفارسية وصياغتها الإسلامية أن تتناغم مع الديمقراطية وما تزال المساجد من أهم روافد الأمن القومي بين تيار المتشددين وتيار المعتدلين.
أما الديمقراطية العربية فهي طريقة دموية للتعبير عن سياقات ثقافية جينية فقد غدت حلال بعد أن كانت محرمة ثم أصبحت مع القومية حرام بعد أن كانت محللة وصار من الطبيعي اقصاء التيارات الإسلامية بفقهاء السلطان، ونشأت فتاوى التفريق بين ديمقراطية حاضنتها مسيحية وديمقراطية حاضنتها إسلامية.
ومن ثم تأسلمت النظم القومية بنفس المقدار التي تعلمن فيها الأحزاب الإسلامية، وأصبحت الأحزاب الإسلامية أكثر التيارات دفاعا عن الديمقراطية بينما تحول القوميون ليكونوا أكثر التيارات معادية للديمقراطية، وبعد أن كان القومي عميلا في منظورات المتأسلمين بدأ الإسلامي عميلا في مقولات القوميين، فالغاية تبرر الوسيلة.
أما العالم الغربي الذي دافع عن قيم الديمقراطية كقيمة حضارية يونانية قديمة، فقد تغير موقفه ليعلن أن الديمقراطية لا تتناسب مع طبيعة الجينات العربية والثقافة الإسلامية؛ ووجدت الذهنية الأمريكية الاستراتيجية في ظل قبول قومي إسلامي يتسابق لإرضائها طريقها نحو المجتمعات الإسلامية بإحدى العقليتين ومن ثم إعادة تدوير القيم الحضارية والخصوصيات العربية بما فيها المعتقدات الدينية ودمجها بالثقافة الأمريكية وقيمها الأصولية والحضارية، ولتهذيبها لا بد من إحداث ثورة ثقافية وتعليمية تغير نمط التفكير المجتمعي وتربطه بالثقافة الأمريكية العالمية وخصوصا القيم الدينية وهي الاستراتيجية الكبرى في المنطقة.
هذه النمطية هي التي فتحت حوار الحضارات بقيادات إسلامية واشتعل الإعلام بمؤتمرات الاعتدال والوسطية بينما تنافس الليبراليون والعلمانيون والإسلاميون على مؤتمرات ودورات التنمية وتنمية الموارد البشرية لاستنزاف الثروات بالشهادات الوهمية والإتجار بفلسفة الكلمات على الطريقة السفسطائية ومن ثقافة التنمية بالقومية إلى ثقافة التنمية الإسلامية ثم إلى ثقافة التغفيل تحت دورات التنمية البشرية.
كل هذه المفاهيم والسجالات المتقلبة هي نتيجة من نتائج السلبية المنهجية، التي توظف الأيدولوجيات إما للخلاص من الشعب أو الخلاص به، ومن فلسفة الثوابت القومية الى تحديات الثوابت الإسلامية، ومن مراكز البحوث الداعمة للأمن والاستقرار إلى المراكز الداعمة للثورات والفتنة، لسان حالنا رباه أطريق الهدى بالعير والتنفير، أم الهدى رباه بالنفير والتكفير.
فالقومية هي الفعل والإسلامية ردة فعل وفقا للقاعدة الفيزيائية العلمية -التي بها عولجت أزمات أوروبا الدينية بحل إشكالية التنمية-لكل فعل ردف فعل معاكس مساو لها في المقدار ومضاد له بالاتجاه، كل ذلك في ظل تبريرات وفلسفات وصراعات تستعمل مناهجنا عكس عقارب التاريخ.