المحمولات القيمية في لغتنا العربية؛ صور من تراثنا الأدبي
المحمولات القيمية في لغتنا العربية؛ صور من تراثنا الأدبي
أـ د. علي عزالدين الخطيب \ جامعة واسط – العراق .
قد لا يختلف اثنان حول أهمية اللغة وادوارها الإنسانية في أي مجتمع من مجتمعات الكرة الأرضية ، فمع دورها التواصلي المهم بين البشر ، يبقى دورها الحضاري هو الاميز ، وان تباينت تلك الميزة من مجتمع الى اخر حسب ثقل ذلك المجتمع ووجوده وتاريخه الطويل ..
إن الأداء التواصلي للغة يشترك فيه الجميع إلا أن الدور الحضاري لا تنهض به سوى الأمم الحيوية التي تمتلك مقومات الحياة والوجود ، والاهم من ذلك، امتلاكها مقومات الديمومة ..
من بين تلك الأمم تبرز امتنا العربية كونها تنتمي إلى أعرق الحضارات التي وجدت على ظهر الإنسانية ..والتي حفرت وجودها عبر الاف السنين من خلال ما تركته من اثار ومعالم وبناء انساني .
ان هذه الحضارة قدر لها أن تكون منارة شامخة عبر تلك القرون الطويلة وما كان لها ان تملك عشبة الخلود لولا تلك اللغة الحية التي ولدت من رحم التاريخ ومن بين احجاره الصماء شيئا فشيئا حتى استقرت بين دفتي مصحف كريم فمثلت لغة السماء التي نطق بها رسول الامة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى اله وصحبه الكرام ، بلسان عربي مبين .
ان نظرة الانسان العربي الى لغته لا يمكنها بأية حال من الأحوال ان تقتصر على فاعليتها التوصيلية ، بل على سر حيويتها وتكوينها، لأنها هي فعلا يمكن ان اصفها حياة داخل لغة ، فهي ليست مجرد حروف واصوات يتخاطب فيها أبناء هذه الامة ، بل موسوعة معرفية تتكشف لمن يتدبر اسرارها كمغارة علي بابا التي لا تفتح الا لمن يعرف كلمة السر .
ان لغتنا العربية المكرمة ..استطاعت ان تتجاوز ذلك الدور التواصلي حينما قامت بمهمة الوسيط الناقل لحضارة عمرها الاف السنين ، لكنه ليس نقلا ميكانيكيا، بل جاء عبر اللغة نفسها بقدراتها الخلاقة وامكاناتها الهائلة ولا عجب فالقران الكريم الذي نزل باللغة العربية كان واحدا من صور ابداعه تلك اللغة العظيمة ، فالأفكار القرآنية التي ترجمت الى العالم لم تكن وحدها تبث رسالة الإسلام الإلهية بل كانت عبقرية اللغة واعجازها هي علامات الاعجاز الإلهي على لسان نبيه ودليلا على نبوته. فكيف لعلامة اعرابية صغيرة ان تحول الحق الى باطل والباطل الى حق .
سنؤشر في هذا المقام المبستر بعض تجليات هذه اللغة وهو دورها الحضاري في تنمية القيم الأخلاقية وذلك من خلال ممارساتها الذاتية واستعمال طاقاتها الخلاقة وطبيعتها المراوغة التي قد تعطي العديد من المعاني والدلالات ولكن ضمن مادة لغوية واحدة .
السؤال الأهم ! ما القيم الأخلاقية ؟ وما دور اللغة في تمكينها عالميا ؟ وما دور لغتنا العربية الام بهذا المشروع الأخلاقي الحضاري ؟
ان الاخلاق تملك سمتها العالمية كونها تتعلق بالسلوك الإنساني البشري سواء أكان هذا السلوك إيجابيا او سلبيا ، لذا فأنها شغلت مكانا كبيرا في اهتمام المفكرين، واستحوذت على تفكيرهم منذ القدم ، بل هي شغل الحكماء الشاغل وهي أيضا هدف من اهداف بناء المجتمعات، وهنا تتدخل الوحدات الصغيرة التي اعني بها الاسر التي تشكل تلك المجتمعات .
تعرف الاخلاق بانها علم يعنى بالأعمال الإنسانية التي تتعلق بالسلوك و توصف بالحسن أو القبح؛ والأخلاق ما يتفق وقواعد السلوك المقررة في المجتمع ؛ وهي في الاصطلاح الفلسفيّ كما عرَّفها بعضُ علماء الفلسفة كأَرسطو وأفلاطون انها القدرة على التّمييز بينَ الخيرِ والشَّر عند الأفراد، وهي أيضا تعني الفضيلة التي يَتغلَّبُ فيها الجانِبُ الإلهيُّ على جانِبِ الشهوات وتفضيل المحبوبات والمرغوبات، ويَرى بعض الفلاسفة أنَّ الاخلاق يمكن تعريفها أيضا بأنّها القدرة على ضبط الشهَواتِ بالعَقل ومُمارسَة الفَضائل والمكارم من الصفات، وتمييز الحسن منها من القبيح.
اما في الاصطلاح الإسلامي فيمكن تعريفها بأَنَّها مَجموعَة من المبادئ والقَواعد التي يُحدّدها الوحيُ الذي يكون مصدره الله -سبحانه وتعالى- أو الرسول -عليه وعلى اله الصّلاة والسّلام-، وتقوم تلك القواعد بتنظيمِ حياةِ النّاسِ جميعاً، وتوجيه سلوكياتهم على نحوٍ يُحقِّقُ الغايَةَ من وُجودِهم، ويمكن بها تمييزهم من باقي البشر، ممّا يجعل حياتهم تسير وفق قواعد وأحكام الدين وضوابطه .
من هنا تبدو الاخلاق هوية عامة تعكس نمطا خاصا من القيم، هي الأهم التي تسعى الأمم الى تمكين مجتمعاتها منها وسبغ سلوكها بها ، ومدى نجاح الأمم بامتلاك هذه القيم سوف تحقق الارتقاء والتقدم لذا فأننا من هذا المنطلق لا نجد علاقة مباشرة للدين او التدين أو العقائد بها، فالرسول الاكرم صل عليه واله حينما جاء قال انما جئت لأتمم مكارم الاخلاق بمعنى انها موجودة قبل الإسلام لكنه أضاف عليها وشذب بعضها ووجهها توجها يتلاءم مع القرآن الكريم وتعاليمه ومع السنة المباركة وتوجيهاتها ، فضلا عن اضفائه لها الطابع الإسلامي ، وهذا ما يدفعنا الى الولوج في الجانب الأهم من المقال هذا وهو (اللغة) لتأشير دورها وطموحها بإنماء تلك القيم الأخلاقية .
ان اللغة العربية لغة حية وتمتلك شخصية صرفية وبنائية خاصة تجعل منها لغة مرنة وقادرة على التكيف مع جميع التجارب والصيغ المتنوعة .فاللغة الحية تساعد الاخلاق على التقدم والتثبت والاستعمال والانتقال عبر عملية الادراك والفهم مما يجعلها تتغلغل في السلوك وتتحول من قيم مجردة الى قيم سلوكية ، وقد يرى البعض (أن اللغة قوالبُ صماءُ، لا علاقة لها بخلق، ولا نبل، وأنها أنماط جافة، وتراكيب صامتة، لا أثر لها في إحساس، ولا عاطفة، وهو فَهْمٌ مغلوط، وسبيل مَنْ بَعُدَ عن جلالها وجمالها، ولم يقتربْ من كمالها، ولكن القريبين منها، والسالكين طريقها والناهلين من أنهارها وسواقيها يعلمون أنَّ معينها لا ينضب، وأن عطاءها مستمر، فاللغة تنقل هوامسَ النفس، وهواجس الذات، وهواتف الروح، وتبرز أخلاقيات الإنسان من نبل وحياء، ونقاء الخ ذلك وهو كلام جميل نخالنا جميعا نتنفس منه ويمثل لسان حالنا تجاه لغتنا .
فمن صور القيم الأخلاقية التي استطاعت لغتنا العربية تقديمها هي لغة التسامح وهو سلوك أخلاقي عالي المستوى وله دور في بناء المجتمع واستمرار الحياة بإقصاء المشاكل واحلال الرضا والتقارب بين افراد المجتمع .فلن نقف على الفاظها وهي كثيرة بل سنقف على مراتبها . ولعل المنطقة الأكثر و الابلغ استجلاء لتلك العبقرية اللغوية هي القران الكريم .
فمن المفارقات التي يقدمها الاستعمال القرآني لألفاظ التسامح مثلا كلمة (هجر) فهي تدل على ما يخالف التسامح وهي العقاب ، الا ان الخطاب القرآني استعملها للتسامح وهو ما بدا من خلال السياق التركيبي الذي وضعت فيه وما اتصل باللفظ من الفاظ التسامح :يقول عز من قائل (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) فالهجر دلالته سلبية يمثل الانقطاع والبعد ، الا انه ضمن السياق القرآني لهذه الآية المباركة قد اختلفت دلالته بإسناده الى الصفة (الجميل) فصار في مقام اخر مختلف : (الهجر الجميل) فاستطاعت لفظ الجميل ان تمنح الهجر في الصورة القرآنية دلالات بديلة ، فترك المكافأة على فعلهم هو التسامح بالهجر الجميل فلا جرح فيه ولا إساءة او خذلان .
ومن جماليات بل عبقرية لغة القران الكريم الحية ان يأتي ختم الآية بغير الفاظ التسامح مع وجود ما يسوغ ان يذكر لفظ او اكثر من الفاظ التسامح الا ان السياق والذوق العربي يأبى ذلك، من ذلك ما جاء في قوله تعالى ((فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم)) فروي ان اعرابيا سمع قارئا يقرأ الآية المذكورة بهذا الشكل (فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله غفور رحيم)) وكان الاعرابي جاهلا لا يعرف القران الكريم لكنه كان عربيا صافيا يدرك اللغة والفهم فقال (ان كان هذا كلام الله فلا ــ ان الحكيم لا يذكر الغفران في موضع الزلل لأنه اغراء عليه فعاد القارئ فانتبه الى خطأه .ومن صور استعمال لغة التسامح في القرآن الكريم ما جاء في الحوار بين النبي ابراهيم عليه السلام وبين ابيه (( اذ قال لأبيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا ابت اني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني اهدك صراطا سويا))الخ الآيات، فنجد أسلوب اللين والتلطف من الابن البار للاب فلم يقل له لا تعبد بل قال لم بأسلوب الاستفهام كما انه لم يقل له انت جاهل بل قال جاءني من العلم الخ
ان هذه اللغة استطاعت ان لا تكون مرآة عاكسه او وسيطا ناقلا للأخلاق فحسب ، بل تحولت بكتلتها المادية الى خلق انساني وهذا لا يمكن ان نجده سوى في اللغة الحية ومنها لغتنا العربية .
على مستوى الشعر فان لغتنا الشعرية كانت احدى صورها واشكالها وموضوعاتها لغة أخلاقية استطاعت ان تتمثل سمات الاخلاق النبيلة وتحولها الى واقعة شعرية مازالت تتغنى بها الأجيال العربية في زماننا وكل زمان فضلا عن تدارسها من قبل المستشرقين الغرب الذين بهرتهم تلك اللغة الأخلاقية الرفيعة .
وسأحاول ان اخذ عينات عشوائية كي ادلل على ما نذهب اليه :
يقول الشاعر حاتم الطائي ايقونة الكرم في الادب العربي في ابيات له :
وما من شيمتي شتم ابن عمي وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد في غير جرم سمعت فقلت مري فانفذيني
فعابوها علي ولم تسؤني ولم يعرق لها يوما جبيني
نجد الابيات تقدم لنا صورة من الاخلاق الحميدة التي تدعو الى التلاحم الإنساني والتجاوز على الشعور الذاتي اللحظي الذي قد يسببه موقف ما غير مقصود مع اقرب الناس اليك فيقول للكلمة التي تريد ان تكسر الاواصر انفذي فلا أتأثر بك مطلقا مع ان الانسان العربي مجبول على الحمية والرد وعدم قبول الهوان الا ان موقف التسامح هذا لم ينظر اليه نظرة سلبية بل إيجابية لأنه حافظ على لحمة البيت الواحد .فنجد ان اللغة استطاعت ان تنقل لنا تلك التجربة الأخلاقية بصورة فنية وتحولها الى رسالة للمجتمع .
وقبل ان نغادر الطائي نجد من سمات الاخلاق العربية هي الكرم وكما اشرنا الى الطائي يمثل ايقونة الكرم وفي الحقيقة ان العرب مشهورون بهذه الخصلة الحميدة حتى ذكرها الجاحظ في احدى رسائله التي كانت تصنف الشعوب والاقوام حسبما اشتهرت به فأشار الى ان امة العرب هي امة الكرم ، يقول حاتم الطائي في احدى قصائده مخاطبا زوجته :
إذا ما صنعتِ الزّاد، فالتمسي لهُ أكـــيلاً، فإنّـــي لسْتُ آكــلَـــهُ وحـــدي
أخًا طارقًا، أو جار بيتٍ، فإنّني أخافُ مذمّاتِ الأحاديثِ من بعدي
في هذين البيتين يصنع الطائي حوارا مع زوجته التي تظهر اكثر من مرة في قصائده الكريمة ولعلي احسب انه حوار وهمي مع الزوجة تحديدا كونها اكثر من يتعلق بأعمال البيت ومن يطلع على الانفاق فهي من تكون اللائمة دوما ، فمن خلال الحوار معها يستطيع ان يكشف عن موقفه تجاه خصلة الكرم لديه ، و مهما يكن فكرم حاتم نافذ ، فنجده يبحث عن الشراكة في الاطعام وهي شراكة على مستوى اعلى من ذلك كونها الشراكة الإنسانية التي سوف تنتج مجتمعا تكافليا متعاونا ومن ثم سوف يصنع هذا الكرم ويتكفل بإنتاج السمعة الحسنة والذكر الطيب .
ونجد الحس التربوي والحث على الاخلاق تؤج بها لغتنا الشعرية العربية ، من ذلك قول احد الشعراء:
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعـــــتدلتْ ولا يلينُ إذا قوّمتهُ الخشب
فالأبيات تكشف لغتها عن توجه تربوي يدعو الى الاهتمام بالأخلاق والتربية الحسنة منذ الصغر فالغصون الخضراء ترمز الى المرحلة المبكرة من العمر الذي يسمح بتقبل النصح والتوجيه فهي ان قومتها تعتدل لكنه اذا اشتد بها الزمن وتحولت الى خشب اصم فانه لن اتلين مطلقا وهي تعادل دلالة التعلم في الصغر كالنقش على الحجر .
ومثل هذا كتب الرصافي الشاعر العراقي الكبير في وقته ما يسير في هذا الاتجاه مع اختلاف تفاصيل الصورة الشعرية :
هي الاخلاق تنبت كالنبات اذا سقيت بماء المكرمات
فالأخلاق عنصر حيوي في الانسان ينمو ويكبر ان تمت رعايته وتوجيهه ، وهنا جاء بصورة ماء المكرمات فجعل المكرمات هي الماء الذي يسقي الاخلاق كما يسقي الماء الزرع والنبات .
ونختم واحة الشعر ولا يختم الحديث عن الاخلاق ابدا مع المتنبي الكبير وهو يترك لغته تتحدث عن العفو والتسامح والمشاركة الوجدانية مع الاخر على الرغم مما قد يكون تسبب في جرح او إساءة :
وكيف يتمّ بأسُكَ في أُناسٍ تصيبُهُمُ فيؤلمُك المُصابُ
يحمل الاستفهام في هذا البيت معنى الاستغراب والتّعجّب «وكيف يتمّ بأسك في أناسٍ». المخاطب هو سيف الدّولة الحمداني. فإنزال العقوبة بهؤلاء القوم الذين يحبّهم بدليل «سيؤلمك المُصاب» سيؤثّر عليه سلبًا ويؤذيه. وهنا دعوة صريحة للصّفح والحِلم والتّحذير من نتيجة حتميّة مؤدّاها الابتعاد عن جلد الذّات لأنه من الأمور المؤلمة فيؤلمك المُصابُ