اللغة العربية ودورها في بناء وتنمية القيم الأخلاقية

0 36

اللغة العربية ودورها في بناء وتنمية القيم الأخلاقية

د.  الحسن بنيعيش ــ  المملكة المغربية

لابد قبل الخوض في بسط الموضوع من الإشارة إلى القرارين الأُمميين: اعتماد العربية لغة رسمية في أروقة الأمم المتحدة إلى جانب لغات الدول الخمسة الدائمة العضوية في المجلس مند 1973، وكذا اعتماد اليونسكو 18 من دجنبر من كلّ عام يوما عالمياً للغة العربية؛ إنّما فرضَهما انتشارُ لغة الضاد في نحو 460 مليون نسمة في الوطن العربي، وقرابة مليارين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الذين يتسلحون بها في فهم وقضاء أمور دينهم وكذا التواصل بها، ناهيك عن الأبعاد الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية…

وإنّه من نافلةِ القولِ التذكيرُ بأهمية الأخلاق والقيم بالنسبة للأفراد والجماعات والأمم والشعوب والحضارات.. و لاشك أنّ الحضارةَ العربيةَ الإسلامية قامت على مرقى القيم ومحورِ الأخلاق مصداقاً لقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «إنّما بعثتُ لأتمّم مكارمَ الأخلاق» وفي شريعتنا الغراء نصوص شرعية كثيرة تدعو إلى الأخلاق الحسنة وأهمية التمسك بالفضيلة وحميد السلوك.. لأنها تبعث على خلْق مجتمع متحضر كما تحمي من الزيغ والضلال والانحراف.. والأصل في تمكين القيم الروحية النبيلة والفضائل العليا الفطرةُ السوية واتخاذُ مبدأ الاستقامة منهجاً في الحياة.

للغة العربية أثر واضح في بناء الأخلاق وتهذيبها، فهي حاملةٌ للفكر والثقافة والقيم، ومنه لا يستقيم حال مجتمع بدون أخلاق؛ ولاشكّ أن السقوط الأخلاقي والانحدار القيمي سبيلُ هدم الحضارات واندثار الأمم والشعوب مهما علا شأنها..

وممّا يعين على ديمومةِ الأخلاق والقيم النبيلة وجودُ لغة حيّة بين أهلها تقوم مفرداتها على عباراتٍ رقيقة مهذبة.. فاللغةُ ليست قوالبَ صمّاء ولا تراكيبَ جامدة..؛ فهي وعاءٌ للفكر ومستنبتُ التعبير. أليس باللغة نمدح ونطربُ، نهجو ونندب، نستغيث ونستفهم، نعترض ونقسم، نؤكّد وننفي، نحذّر ونُغري، نستدرك ونضرب، ونفضّل ونأمرُ وننهى؟؟ ونأتي بكلّ ما يجيش في النفس وما يختلج الصدر من مشاعر وأحاسيس.. إنّ اللغةَ حقّا معجزةٌ وآيةٌ من الخلق الرباني وسرٌّ عجيب من أسرار الوجود.

يذهب ابن خلدون في الفصل التاسع والعشرين من مقدمته المعنون ب «وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته»، إلى أنّ تعلّم العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية في ذاتها واعتبارُ ذلك غاية، يجعل التعلّم صعباً. فإذا قطع المتعلمون العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟ مما ينبغي معه التفقّه  في تراكيب كلام العرب والبحث في مناحي اللسان وملكته حتى يجنوا دُررَ العربيةِ اليانعة وثمارَها الدانيةَ القطافِ.

وللباحث في معاجم وقواميس العربية قديما  وحديثاً أن يقف عند الجذر (ع ـ ر ـ ب) وسائر مشتقاته ليحصّل بعضَ المعاني، على نحوِ: عربتُ المرأةُ: تحبّبت إلى زوجها فهي عروب، عرب الرجل: صار فصيحاً، وعرّب الكلامَ أوضحه، وأعربَ: أبان وأفصح، والإعرابُ: تعبير وإفصاح، وعرّب منطقَه: هذّبه من اللحن، وعرُب الرجلُ: فصُح، وأعرب الخطيب: كان فصيحاً بليغاً، لم يلحن.. والعربيّ خلافُ العجميّ الذي لا يُفصح ولا يبيّن كلامَه لأنّ فيه عجمةً ورطانةً.. وحتى في عالم الحيوان، فإنّنا ندرك الفَرس العربية من الهجينة بنوع الصهيل.

يقول الجاحظ في سياق تفرّد العربية بالفصاحة التّامة والبيان الدقيق شارحاً معنى البلاغة بحسب العتّابي: «فمن زعم أنّ البلاغةَ أن يكون السّامعُ يفهم معنى القائل، جعل الفصاحةَ واللكنةَ، والخطأ والصوابَ، والإغلاق والإبانة، والملحونَ والمعرب، كلَّه سواءً، وكلَّه بياناً. وكيف يكون ذلك كلُّه بياناً، ولولا طولُ مخالطةِ السّامع للعجمِ وسماعُه للفاسد من الكلام، لما عرفه. ونحن لم نفهم عنه إلا للنّقص الذي فينا. وأهلُ هذه اللغةِ وأربابُ هذا البيانِ لا يستدلّون على معاني هؤلاء بكلامهم كما لا يعرفون رطانة الروميّ والصقلبيّ، وإن كان هذا الاسم إنّما يستحقونه بأنّا نفهم عنهم كثيراً من حوائجهم. فنحن قد نفهم بحمحمة الفرس كثيراً من حاجاته، ونفهم بضُغاء السّنور كثيراً من إراداته، وكذلك الكلبُ والحمارُ  والصبيُّ الرضيع. وإنّما عنى العتّابيّ إفهامَك العربَ حاجتَك على مجاري كلام العربِ الفصحاء »  (ص 162/  البيان والتبيين).

يُعلمُ من هذا النزر القليلِ من النماذج حول أصول العربية من الناحية المعجمية والدلالية توافرُ كثيرٍ من القيم النبيلة مثلِ المحبة والفصاحة وتهذيب المنطق وإقامة اللسان… وصدَقَ الخليفةُ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إذ يقول: «تعلّموا العربية، فإنّها تثبّت العقلَ وتزيد في المروءة»، وذلك في بيانِ فضلها وفي ذمّ اللحن والغلط، وكذا اكتسابِ ناصية الشهامة والمروءة. لمَ لا والعربية من الدّين، ذاك الدّين القيّم الذي يهدي للتي هي أحسنُ وأقومُ.. وترى الباري عزّ وجلّ كلما أقسم ــ والقسم مزيل للشك دافع للإنكار ــ بإنزال القرآنِ أو جعلِه عربيًّا، يعقّب بترجي التعقّل والتفكّر والتدبّر؛ يقول تعالى في سورة يوسف الآيتان الأولى  والثانية:﴿ ألر تلك آيات الكتاب المبين إنّا أنزلناه قرآنا عربياً لعلّكم تعقلون﴾، ويقول في سورة الزخرف الآيات الثلاثة الأولى: ﴿حم والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون﴾. أي نزل من اللوح المحفوظ وجُعل بالعربية باعتبارها أفصحَ اللغات وأوضحَها وأبينها، وهي فوق ذلك مُيسّرةٌ قريبةٌ من الأذهان.

ثم انظر إلى قوله تعالى في سورة الزّمر الآية 28 ﴿قرآناً عربياً غيرَ ذي عوج لعلّهم يتّقون﴾ أي بعد الإقرار بعربية القرآنِ الصافيةِ النقيةِ الداعية إلى التفهّم والتدبّر، أتى الوصف تأكيداً (غيرَ ذي عوج)، ليكون قفلُ الآية الكريمة (لعلّهم يتقون) أي يتبعون أوامر الله تعالى ويجتنبون نواهيه؛ فهي واضحة ساطعة لا غبار عليها.

وبهذا المنطق يكون القرآنُ الكريمُ رسالةً خاتمة موجهةً إلى البشرية جمعاء إلى أن تقوم الساعة من أجل التعقل والتدّبر والتفكر والتقوى.. ما يؤكد بالجزم والقطع أن لا لغة، ماضيا وحاضرا ومستقبلاً، أشرفُ وأبينُ وأفصحُ من لغة الضاد. وقد كان السّلفُ الصّالح يتفاخرون بحذق اللغة العربية والتضلّع في علومها وأركانها، وكانوا يزدرون المتفيهقين واللحّانين والمذبذبين في كلامهم ولسانهم.

ولعلّ قيمة الجمال تتجلّى ـــ أيضاً ــ  في سحرِ أصواتِ العربية وتراكيبها وفي رسمِ حروفها وبديع خطوطها بما لا يجتمع للغة أخرى في الدّنيا. يقول أمير الشعراء:

   إنّ الذي ملأ اللغاتِ محاسناً *** جعلَ الجمالَ كلّه في الضّادِ.

خاتمة:

سعت هذه الورقة المتواضعة إلى تبيان دعوة اللغة العربية إلى القيم النبيلة والأخلاق الحميدة المتأصلة فيها، دون تناول النصوصِ الشرعية من قرآن كريم وحديثٍ نبوي شريف، وأجناسٍ أدبية مثلِ الأشعار والخطب والوصايا والمواعظ والمقالات والأمثالِ والحكم والنوادرِ والمناظرات وغيرها  المدوّنة باللغة العربية والتي تعجّ بزخم كبير من الدعوة الصريحة والضمنية إلى تمثّل مكارم الأخلاق وجميل الفعال خاصة النصوص المقدّسة التي انبنت على قاعدة تبجيل الإنسان وإحاطته بالسمو والرفعة انطلاقاً من دائرة درء المفاسد وجلب المصالح، وكذا توسيع نطاق الخير وتضييق حقل الشر وقبر أسبابه وسبله.. ولا غرو في  ذلك، فالحضارةُ العربية الإسلامية حضارةُ أخلاقٍ وقيمٍ بامتياز.

دام لكم عشق صاحبة الجلالة. يقول الشاعر المغربي الشاعر عبد الرحمن حجي:

  يا بني المصحفِ الكريمِ خُذوها    ***      باعتزازٍ وقوةٍ ودُؤوبِ

                             فلنا فيها عزةٌ وفخــــ ارٌ           *** وحصونٌ من كلّ هَجوٍ مَعيبِ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.