مسجد النور والارهاب الحضاري

0 18

مسجد النور والارهاب الحضاري

د. بوجمعة وعلي

بعيد حدث ” شارلي إيبدو” الإرهابي بباريس؛ والذي أدانه العالم من شرقه إلى غربه وخاصة المسلمون منهم، لأنه في واقع الأمر اعتداء غاشم على الحق في الحياة وقتل للأنفس البريئة بدون حق، تداعى رؤساء العالم ووزراء حكوماتهم والتحق بهم رؤساء الدول العربية والإسلامية وكثير من السياسيين والمثقفين والإعلاميين العرب للمشاركة في مسيرة عالمية بقلب العاصمة الفرنسية باريس للتعبير عن الرفض الدولي للإرهاب الذي وصفوه آنذاك ب “الإسلامي” رغم أن الإسلام بريء من الفعل وصاحبه بنصوص القرآن والسنة وأفعال الصحابة والإجماع… بل إن الكثير من السياسيين والمثقفين والفنانين والإعلاميين العرب سارعوا إلى التعبير عن تضامنهم المطلق والمبدئي واللامشروط مع باريس ضد التطرف الذي وصفوه بالإسلامي حتى قبل أن تظهر التقارير الأولية للأجهزة  المخابراتية والأمنية والقضائية، وهذا كله كنا نعتبره إجماعا دوليا محمودا على رفض التطرف والإرهاب أيا كان فاعله وأيا كانوا ضحاياه دون تحيز أو تسييس أو عنصرية، لأن قتل الأبرياء جريمة إنسانية مدانة  تحرمها كل الديانات والشرائع والقوانين والنظم البشرية.

    لكن مع مرور الأيام وتعدد العمليات الإرهابية في مختلف دول العالم، لا حظنا أن العالم لا يتعامل بنفس الأسلوب وبنفس الجدية والصرامة مع بعض الأحداث خاصة إذا كانت البلاد التي وقعت فيها الأحداث عربية أو إسلامية أو الضحايا مسلمون أو كان الفاعل مسيحيا أو يهوديا أو حتى لا دينيا، حيث كانت معظم وسائل الإعلام الغربية تستبق الأحداث وتعلن أن الفاعل إما مختل عقليا أو يعاني من مشاكل نفسية أو اجتماعية،  كما كانت  تصف الحوادث إما  بالفردية أو المعزولة أو الإجرامية أو المأساوية تهربا من وصفها بالإرهابية، لأن العمل الإرهابي في نظر معظمهم هو ما يقوم المحسوبون على المسلمين والإسلام بأي شكل من الأشكال حتى لو كان بالبلد الأصلي أو الاسم أو اللغة أو اللون.

  قبل ثلاثة أيام أقدم مواطن نيوزيلاندي وقيل أنه استرالي على تنفيذ هجوم إرهابي مدبر بعناية فائقة على مسجدين قبيل صلاة الجمعة أسفر حسب آخر المعطيات عن استشهاد خمسون مصليا وجرح العشرات، غير أن المنفذ هذه المرة  فوت على السياسيين والإعلام الغربي المعادي للإسلام والمسلمين  وصفه بالمختل عقليا أو المعاني من المشاكل النفسية أو العقد الاجتماعية، لكونه وثق لكل مراحل الهجوم وأصدر بيانا صريحا وواضحا يعلن فيه عداءه العقدي والحضاري والتاريخي للإسلام والمسلمين، بل انه اختار تاريخا له دلالة رمزية وهو ذكرى انهزام الجيش الفرنسي والانجليزي أمام الجيش العثماني،  وقيل بأنه كان يحمل شعار “قادمون إلى إسطنبول” مما يدل على أنه ينتمي إلى تنظيم متطرف وعنصري  وليس فردا كما قد يسعى البعض إلى إظهاره.

    هذا العمل الإرهابي بكل المقاييس لم ينل من التنديد والشجب والرفض إلا القليل من قبل رؤساء الدول والحكومات الأوروبية والعربية وإعلامهم النظامي الذي يدور في فلكهم، لسبب بسيط  هو إن الضحايا مسلمين والجاني غير ذلك، بل إن وصف الجريمة رغم بشاعتها ليس واحدا كما حدث في اعتداءات باريس ولندن وبروكسيل،  حيث تم وصفه  من قبل البعض بالإرهابي واكتفى البعض الأخر بوصفه بالمسلح والجريمة المروعة.

   فالدم المسلم كما يبدو من خلال ردود الأفعال الرسمية الدولية والأوروبية، أرخص من الحبر الذي يكتبون به بياناتهم، أما الأنظمة الحاكمة  العربية والإسلامية – باستثناء رئيس تركيا وحكومته وملك المغرب – فقد  شلت ألسنتهم وجفت أقلامهم، ومن تحدث منهم كان حديثه عاما وملتبسا، وهذا ينطبق على كثير من المثقفين والإعلاميين وبعض الحقوقيين العرب المحسوبين على الأنظمة أو جهات خارجية حيث كان رد فعلهم غائبا أو ضعيفا أو باهتا. بل تجاوز الأمر ذلك ليشمل بعض الدعاة والشيوخ والأحزاب والحركات الإسلامية في كثير من الدول كما في مصر والسعودية والإمارات…الكثير صمت، والكثير ممن تحدثوا كان كلامهم عاما وغير حاسم في إدانة الجريمة باللغة التي تستحقها، والبعض تفادى وصف ما وقع بما يناسبه كما حصل مع قناة العربية مثلا.

إن ما وقع في مسجد النور بنيوزيلندا عمل إرهابي جبان، يؤكد بالملموس ازدواجية الخطاب الرسمي الغربي اتجاه الاعتداءات المنظمة ضد المدنيين العزل، وتبعية ردود أفعال الحكام العرب ونخبهم السياسية والثقافية والحقوقية، كما يبين أيضا الوجه القبيح لبعض وسائل الإعلام  الغربية والعربية، ذلك ذلك الوجه  الذي يلبس الإسلام والمسلمين كل أعمال العنف الفردية التي ترتكب في كل بقاع العالم والتي يكون ضحيتها مواطنون غربيون وتصفها بالإرهابية حتى قبل أن تظهر التحقيقات الأولية لأجهزة المخابرات والأمن، بينما تتحاشى وصف الأعمال المسلحة والمنظمة التي يكون ضحاياها مسلمون بالإرهابية رغم اعتراف الأجهزة المخابراتية والأمنية للدول التي تحصل فيها بطابعها الإرهابي .

      لنتوجه في الأخير بالسؤال  إلى الذين سارعوا إلى الحضور إلى باريس والمشاركة في المسيرة العالمية لرفض الإرهاب والتطرف- الذي ربطوه كرها بالإسلام – ورفع شعارات “أنا شارلي” و” كلنا شارلي ابدو”:

ألا يستحق الأرواح البريئة للشهداء الخمسين لمسجد النو؛ الذين قضوا في هجوم إرهابي منظم أن ترفعوا من أجلها أمام مسجد النور شعارات  مثل التي حملتموها أمام صحيفة شارل إيبدو: “أنا مسجد النور” و”كلنا مسجد النور” أم أن قدسية الصحافة ورمزيتها أقوى من قدسية المساجد ورمزيتها؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.