د. جمال الهاشمي يكتب: شهادات الوهم وانحطاط التعليم
شهادات الوهم وانحطاط التعليم
د. جمال الهاشمي
لم نكد نستوعب فشل وانحطاط التعليم الجامعي وتيهان الطالب بين أزقتها المظلمة الملطخة بالعار والتحيز والانحطاط والجهل والسجالات النافقة حتى برزت لنا ظواهر أخرى من انحطاط جديد بصيغ له قوالب ثقافية إعلامية ذات صبغات دولية لاستنزاف ثروات الطلاب والجامعات والدول وهي آلية جديدة لصناعة الوهم بشهادات عالمية ليس لها مصادر معتبرة أو موثوقة.
ولا سيما ومنذ أسس المرحوم إبراهيم الفقي علم التنمية البشرية الذي كان مدخلا جديدا للتعليم السفسطائي القائم على التحليلات النفسية والخطابة وفلسفة الجدل المنطقي ومنطق قلب الحقائق وتزييفها، وبدوره كشخصية عبقرية اقتبست التجارب الناجحة مقولات عظماء ومشاهير العالم الغربي حتى بدأ الوضع أكثر إيلاما وامتداد لسنته أو بدعته التي وضعها وتبعه عليه آخرون، وما تزال الفكرة قائمة والعرب خلفها يلهثون.
بل الأغرب من ذلك أن الذين يمارسون تجارة تعليم الوهم هم في الغالب من أبناء الحركات الإسلامية الذين انتقلوا من منابر المساجد إلى ميادين التنمية للبحث عن الثراء والشهرة وهكذا تصنع نماذج الوهم بالإعلام.
لا أشك أن شخصية الفقي في قراءة النفسية العربية وتقليدها الأعمى قد هيئت له فرصة استثمار الجهل عبر الإعلام وأحزاب أخرى أغلبها إسلامية وجعلته النموذج المقتدى والمنار المهتدى في عالم عربي يتخبط فيه الفشل ويسوده الاحباط كرجل نجا من ذلك العالم ووجد من هجرته وتجاربه الجديدة وسيلة ذكية؛ مقارنة بين عالم يعتمد التجربة والمحاولة ككندا، وعالم ينتظر النموذج الجاهز لتطبيقه كعالمنا العربي والإسلامي المعاصر.
وتشهد ويكبيديا باللغة الإنجليزية أن السيد إبراهيم الفقي مؤسس علم التنمية البشرية لم يوثق معلوماته بمصادر مستقلة إلا ما قاله عن نفسه. بينما تزخر ويكبيديا العربية بمعلومات من غير توثيق لمصادرها مما ينفي عنها صفة التوثيق والاستدلال العلمي، وقد تبين أنه لم يكن قد حصل على شهادة الدكتوراه في حينها بينما عجز أكاديميو العرب واستخباراتهم الإعلامية أن يكتشفوا هذه الظاهرة قبل انتشارها مما يجسد ثقافة النقل وثقافة الاستهلاك والتلقي السائد عربيا، ومع الوعي بذلك عبر كثير من المقالات إلا أن الوعي ظل كقصيدة عباس البطل الحساس لأحمد مطر.
في عالم أعيش فيه وفي أوروبا تجد الكثير من الشهادات العلمية ومن من يحملون الدكتوراه لعدد غير متناه من الأدعياء في أوروبا وفي فرنسا، وهي بالفعل شهادات كما تبدو من جامعات أوروبية وفرنسية لكنها مزورة وومما يزيد الجهل بلة أن البعض منهم اشتغل بها في سفارات عربية مترجما ومحللا سياسيا والبعض يعمل لدى وسائل إعلام عربية وهذا الذي اشتغل هذا الدور لا يمتلك شهادة بكالوريس أو ليسانس.
كما تتواجد مكاتب للترجمة في مختلف دول أوروبا تكتب الرسائل العلمية للطلاب الوافدين والبعض من الطلاب يكتب ذلك لكثير من المبتعثين الذين خرجوا بثروات المقهورين والمال العام لطلب العلم فعادوا إليه بشهادات الواهم، ولا شك أن البيئة العربية التي جعلت النجاح مقياسا لذكاء الفرد والثروة وجعلته معيارا لمكانته الاجتماعية خلقت تلك الخيانة وجعلته خيالا مطلوبا من أجل تحقيق النجاح بكل وسائل الزور والإمكانيات المتاحة ومن هولاء من أدركت كتاباتهم نحلة ونقلا عن الآخر ومنهما عمداء جامعات تعمدو سرقة بحوث أجنبية بعضها نشرت في صحف محلية البعض منها نشرت كتبا.
كما استغل الكثير من الأكاديميين الطلاب المقهورين لكتابة بحوثهم وخصوصا الطلاب الذين يشرفون عليهم، ويبقى النفوذ شبكة لاختلاس المال المال والعلم والحقوق المادية والفكرية في أكثر الدول تخلفا.
هذا ما اقتبسته عن واقع العرب في عالم متقدم يؤمن بالمنهجية العلمية وصناعة الأفكار، ولعل الغباء والجهل جهد ذاتي يصطنعه العرب بالوهم وإن وضع في قوالب منهجية فهي ليست أكثر من سجالات ثقافية وعبارات فلسفية وتوليفات معرفية.
اليوم تبرز لنا ظاهرة قديمة متجددة من مدربي التنمية وهو ما جعلني أقف على منهجها ورؤيتها وكيف يمكن أن تكون مدربا ناجحا إداريا وموظفا ومعلما ناجحا وتذكرني هذا الثقافة السفسطائية بمارد المصباح وثقافة الكرامة لكل مجنون ومهبول امتلك العلم اللدني فغاب في الفضاء الإلهي.
وفي هذا العالم الملوث للمعرفة والملبس المتلتبس بالعلم تمنح شهادة رخصة أكاديمية أو شهادة زور مقننة اجتماعيا وسياسيا وجامعيا في أسبوع واحد فقط تكون فيها عالما كالخضر في علم الباطن أو فيلسوفا بعلم الظواهر الميتافيزيقية كأفلاطون أو متمنطقا في علم الاستقراء كأرسطو.
ومع أن هذه الفلسفة التنموية التعليمية تستخدم نظريات التعلم الغربية التي تقادم عهدها ويرجع أحدثها إلى حقبة السبعينات و هي الفترة التي تبرأ منها أصحابها وتطورت معهم في سياقات أخرى سيكتشفها رواد التنمية بعد ثلاثين عاما من تطبيقها كالباحث القالب الذي يبحث عن قالب جاهز من الرسائل المكتوبة فيغير فيها وينتحلها فتمنحه الجامعة شهادة زور دون مساءلة وتقييم علمي ونظر وتعليم، فما عليك إلا أن تسرق رسالة كما هي وتأتي لتسمع فلاسفة الأكاديمين يناقشونك مناقشة شكلية وأكثرهم علما يتحدث عن حياته أو عن طريقة العلم والفاصلة والنقطة وربما عن كتابة الخط وغيرها من المظاهر الأكاديمية الفارغة.
اليوم في أكثر الجامعات المليئة بالانحطاط النفسي والثقافي والعقلي والفكري تستقطب رواد التنمية للتدريب وأغلب كوادر هذه الجامعات يحملون شهادات أجنبية ويتقنون لغاتها، فهل وجدوا فعلا أحد جامعات أوروبا أو العالم الغربي من يعتمد تخصص مدرب التنمية الدولي؟. فأية أمة نحن نتكادم على الوهم المعرفي، وأي انحطاط بدأ للعيان تتأرجح بين أمواجه سفينة العلم بين جدل فلسفي عقيم لم تدرك مداركه والكل يكتب وينشر ويدفع مقابلا لذلك وصارت مع ذلك مراكز البحوث متجرا لنشر مثل هذه بحوث دون معايير علمية صارمة صادقة وإن كانت صادمة تبين للباحث هفوته وعلته بل وينبغي التشهير به صيانة للعلم وحفظا لطالب العلم ومكانة العلماء، ومع أن الكثير من قد وضعوا استراتيجيات تطوير التعليم فلم تزدهم استراتيجياتهم التعليمية إلا انحطاطا وتخلفا وإنفاقا متزايدا.
كما أن فكرة تنمية الموارد البشرية بالمنطق النفسي والعقلي والأصل المنهجي تؤثر سلبا على المتلقي وتخلق الفشل وتكرسه لانتفاء وجود الحلول العلمية والواقعية التي تترجم النظريات الى واقع، وأكرر أسفي أن أصفها بنموذج الخطيب الذي يطلب من الجوعى الانفاق لأعمال الخير ثم يسيسها أو يأكلها العاملون عليها.
وتساؤلي هل تدريب الموارد البشرية أو الموارد البشرية علم له أصول؟ فإن كان كذلك فما هي أصوله العلمية وفرضياته؟، وإن قيل أليس له أصول تاريخية؟ قلت بلى. وقد أسلفت في هذا الجواب، أما أصول علمية فلم أقف على أصل واحد وليس له منهجا واحدا يستحق الاعتماد، ولعل غياب المنهج في الجامعات العربية خلق لنا عالما من وهم التعليم والجهل المؤسسي وشهادات الزور المقننة.
واليوم في كل الجامعات والمؤسسات والشركات سيطرة عليها نخبة من خبراء التنمية والموارد البشرية كعلم سابق للعرب وماركو مسجلة في عالم وصل فيه العالم إلى الفضاء والتقنية الذكية ونحن نعيد استثمار الجهل في قوالب معرفية وعلمية.
ومن الغريب أيضا أنني وفي أوروبا لم أسمع ببرامج تنمية الموارد البشرية، فكيف يكون الكذب متجرا نافقا بدرجة دكتوراه أو بدرجة وافد ومهاجر عاد بشهادة منتحل ونصاب وكاذب؛ والحكمة العربية تقول الرائد لا يكذب أهله.
فكيف هذا؟ ومن العجاب أن هذه الظواهر لم تسيطر على الطالب الأعمى المتلقي الذي يسعى للحصول على شهادة بأي ثمن أو يسعى لإثبات نجاحه بالحصول عليها بأية وسيلة بل أصبحت من أهم النشاطات الجامعية ومن أهم نشاطات مؤسسات الدولة وهكذا من مصدر النور الجامعي والمدرسي ولد الجهل والظلام.