بنيوية التوحش الحضاري في اليمن السعيد: الثقافة العسكرية

0 16

 

بنيوية التوحش الحضاري في اليمن السعيد: الثقافة العسكرية

د. جمال الهاشمي

سنتناول اليوم الثقافات البدوية أو ثقافة التوحش التي ما تزال في بعض أجزاء اليمن تتخلق بتلك الطبائع القديمة وشكلت جزء من سيرورتها التاريخية ولا يعني أن اليمن هي الدولة التي ما تزال تلك الصفة موجودة فيها فهناك دول أخرى عربية وأعجمية تأخذ نفس الطباع الفوضوية المتوحشة، وحديثي عن اليمن خاصة لكونها البلد البكر التي ما تزال في عصر التقنية والحداثة العالمية تحمل نفس الخصائص القديمة وغلبت ثقفتها على الحضارة المعاصرة وتغلب طابعها الوحشي على المؤسسية والطبيعة المدينية؛ حيث تعتبر المدن اليمنية متوحشة في المعاملات والأخلاق ومغتربة عن القيم العربية والدينية إذا ما قورنت بالقرية اليمنية الأكثر رقيا في معاملاتها ونظمها وأمنها وتعاضدها وتلاحمها.

وإن كانت بعض القرى قد وصلت إليها الثقافة الحضارية المتوحشة بنخبها الثقافية وبنظمها التعليمية تلك التعاليم الغازية مع هذه النخبة والتي تعتبر عيبا أسودا مما أدى إلى خلق صراعات فوضوية قضت على التماسك القروي وقيمه وأعرافه وفطرته الأخلاقية وخلقت فيها الهمجية والصراع والنزعات الاستعلائية وتقييد القبيلة التي كان في لغالب يغلب عليها طابع الشورى بثقافة الشيخ السيد المتوحد نفسيا و الذي يتقاضى راتبه من صندوق عاصمة التوحش الحضاري في صنعاءويرى أن استمرار قيادته تعني تعميم الجهل في القبيلة وعسكرتها على ثقافة دريد بن الصمة.

وتعمل السلطة السياسية التي هو جزء من سياساتها العامة على تنمية الفوضى والهدم بما يتناسب مع رؤيتها للسلطة دون أن تسمح للثقافات المدنية التي تأسست بالعصر النبوي أو اليوناني القديم  لتضمن لهذه المجتمعات القوة الثقافية التي تؤهلها بخصوصيتها الحضارية أن تشكل ثقافة معيارية قادرة على التأثير في الثقافات العالمية مما فتح الباب وخصوصا مع سياسة الدولة لتدجين أبناء القبائل في منح دراسية شكلوا هجينا ثقافيا أخذ عن الآخر مظاهر الترف الحضاري والعقائدي والأيدلوجي والأخلاقي والسلوكي كنموذج جديد لإخراج اليمن من ثقافة النزعة الوحشية إلى الميوعة الوحشية  وكليهما من الثقافات الفوضوية التي تدمر موارد الدولة وقيمها.

لا سيما وأن اليمن ما تزال تعاني ثقافات هجينة وعليلة وهي الأسو منذ تشكلت دولة اسمها اليمن في عصورها التاريخية الجاهلية وعصورها الإيمانية نتيجة لبروز طبقة الثقافات النخبوية هي التي تلقفتها الطبقة الحاملة للشهادات العليا بقوة النفوذ الإداري بل وفيها نخبا متأسلمة تتناول الإسلام بمناهج وقوالب موضوعة سلفا مما أورثنا ثقافة جديدة من ثقافة الإرهاب والثقافات المائعة التبعية والتقليدية التي تعوق السلطة عن الفاعلية والعقل  عن التفكير.

مع العلم أن الطبائع اليمنية المتوحشة ليست فطرية أو فرضية قاهرة في التكوين البيولوجي للإنسان اليمني وليس أن اليمن عرقية مخالفة للعنصر البشري بل لأن اليمن دولة تاريخية تعتز بهويتها العرقية ولكونها الدولة التي تتميز مع الثقافة القبلية السعودية بتمسكها بالهوية التاريخية والهوية العربية التي لا يعني تميزها العرقي وإنما هويتها القيمية والأخلاقية التي لها أعراف ما تزال قائمة يتاجر بها مرتزقة النفوذ والحروب الذين كانوا وما يزالون جزء من ثقافة التوحش الممنهج لتعميم الجهل أو اصطناع الجهل المركب من جهة لضمان التبعية وجهل المعرفة من جهة أخرى.

ثقافة التوحش لا يعني رفض الثقافة المدنية وإنما هي ثقافة الاندماج الحضاري بنفس خصائص الطبيعة البدوية دون ترويض تحت برامج ما يسمى ثقافة الاندماج وتنمية ثقافة المدنية الإدارية العادلة لاستلاب الطبيعة البدوية المتمردة الشاردة والمتوحشة والجاهلة وربطها بمنظومة الدولة في النظام المدني وفقا للقوانين والشرائع التي تنظم المعاملات والعلاقات في إطار المؤسسية العادلة حيث تحتاج الدولة لوسيلتين التربية والتأديب.

حيث تحتاج الدولة إلى برامج التنمية الثقافية وفقا لمعايير منهجية لتشكيل النموذج الأخلاقي والثقافة الحضارية الواعية بمتغيرات القيم المادية والدينية وما دون هذه الآلية والتحول تتحول الدولة ووظائفها إلى فيء مستباح للطبيعة البدوية ويعم الفوضى والانحراف والتسلط والبغي وتتحول المدنية كنظام اجتماعي إلى ثقافة التوحش الحضاري بنفس قيم وأخلاق الأعرابي أو البربري المتوحش وقد جاء في الحديث “من سكن البادية جفا” وفي القرآن “الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجد أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله”

فالبيئة تؤثر في النفسيات وطبائعها ولهذا يميل الأعرابي إلى طبيعة التوحش وعدم المؤانسة وثقافة الافتراس والسلب والعنف والنهب ويتجسد له الشعور بأن هذه التصرفات من القيم السيادية، وهذه الثقافة البدوية إذا أدمجت في الحياة المدنية بطريقة عشوائية وبخصائصها النفسية تغلب طبعها على الثقافة التنظيمية المدنية وخلقت ما يسمى بالتوحش الحضاري الذي يؤدي الى خراب العمران فتكون قرارات الحرب والنهب من الصفات النفسية التي تسيطر على هذه الشخصية الوحشية المفارقة لطبيعتها الإنسانية وثقافة المؤانسة المدنية والأناسة الحضارية.

تسلب هذه الثقافة المدن والقرى المتحضرة طبيعتها الاجتماعية التنظيمية وتتأسس بها العسكرة المجتمعية التي حذر منها الآباء المؤسسين لأمريكا أكبر دولة في التاريخ تقوم على ثقافة الاقتصاد الحربي وهو أسوى من ثقافة الاستعمار والسيطرة.

حيث تعمل نظرية الاقتصاد الحربي على خلق الصراع وتفكيك الدول والمجتمعات وبيع الأسلحة والمنتجات ونهب ثروات كل الفرقاء كما تعمل على استراتيجية الحرب بالوكالة والإدارة بالأزمات وخلق نموذج القرصان الذكي أو اللص الأكبر الذي يسرق اللصوص “علي بابا والأربعين حرامي.

الثقافة المتوحشة في كل دولة تكون أداة لمثل هذه السياسات والتي تستغل الطبيعة النفسية المتوحشة لهذه المجتمعات وتعمل على الإدارة بها ولذلك كانت اليمن وغيرها من الدول التي تتداخل فيها كثير من الثقافات من الثقافة الوحشية التي هي جزء من الحضارة وداخل الحضارة أو قد تكون هذه الثقافة جزء من الدين في إطار حزبي طائفي جهوي.

ويلعب نوع البيئة والقيادة الأبوية من جهة، دورا في تشكل هذه الطبائع النفسية، لا سيما وأن الثقافة الأبوية تشكل الزعامة لهذه الطبائع على أساس الأبن الأكبر وهي من الثقافات البدوية التي جعلت الابن الأكبر هو الوريث الوحيد لأبيه والسيد المطاع ومن دونه من الأبناء أدوات بيده يحركها كيف يشاء، ومن هنا نشأت ثقافة الأنا والتملك والاستبداد، وثقافة الصنم “الشيخ والزعيم والسيد والباشا والفندم وغيرها من الرموز التبعية للطبيعة المتوحشة التي لا تستأنس إلا بالتبعية وهي التي تنمطت داخل المجتمع اليمني فيما يسمى الشيخ والقبيلة وثقافة التمرد على الأحكام والشرائع والقوانين وصار ذلك رمزا من رموز الفتوة والشجاعة وعنها نشأت ثقافة الانتحار والاغتيال والإبادة الجماعية وثقافة الجريمة واستخدام القوة وفوضوى المدنية وهي من الصفات التي تتشابه مع سلوكيات الحرافيش والعيار والتي كانت النواة لتأسيس استراتيجية قتال الشوارع والحروب داخل المدينة وهي أحط ثقافة عسكرية جبانة في تاريخها لأنها تحتمي بالمدنيين وتفرض على المجتمعات العسكرة بالقوة أو تستخدمها بالإكراه دروعا للمحاربين وتعتبر استراتيجيات الصعاليك في الجاهلية أكثر شجاعة من هذه الاستراتيجيات الشوارعية التي تحتمي بالنساء والأطفال.

وتخالف هذه الاستراتيجيات الوافدة استراتيجية الحروب النظامية وثقافة الفروسية أو ثقافة الجندية القائمة على المواطن البعيدة عن الحياة المدنية وحماية لها من التدمير باعتبارها بنية حضارية عالمية إنسانية تراثية يجب الحفاظ عليها وأيضا تحييد الضعفاء من القتال فيما يعرف بثقافة الغطاريف التي عبر عنها عمرو بن العاص ” نحن في نفوس نغيرها لا في غارة نغيرها”.

وقياسا على هذا النموذج فإن بنوية هذه الطبيعة المتوحشة بدأت في اليمن مع بدو قحطان أو قحطن وقحط (كناية عن الظرفية الاقتصادية)  وكندة أو كدت ( كناية عن مشقة المعيشة)  ومذحج (كناية عن التنقل وعدم الاستقرار) وهم جميعا من أعراب مملكة سبأ ذو نزعة أعرابية بربرية كما ورد ذكرها في القرن الرابع قبل الميلاد، ويندرجون تحت مسمى: أعراب سبأ” وهناك فرقة من مهاجريهم التحقوا بمملكة كندة في العصر المتأخر حيث سبقتهم كندة في التحضر وبناء مملكة مستقلة، وتسموا بأعراب كندة تمييزا لهم عن أعراب سبأ، حيث بقية الصفة واختلفت التبعية.

وبدأت ثقافة التوحش البدوية المذحجية تتقارب مع الطبيعة الحضرية في القرن الرابع الميلادي كقوة عسكرية لمواجهة الأحباش تحت قيادة قبائل همدان التي كانت حينها تمثل الطبقة الثانية في اليمن وتتميز بثقافة الجندية والفروسية ولديها أعراف تاريخية تقوم مقام القانون ما تزال لدى بعضها قائمة حيث كانت تحت رئاسة ملوك حمير.

عندما تحول ملوك حمير إلى الديانة اليهودية كعقيدة صراعية وثقافة بدوية متوحشة لمقاومة النفوذ المسيحي كان الهدف منه استقطاب بدو قحطن ومذحج وكندة من البوادي ودمجهم في مؤسسات الجندية تحت قيادة همدان وكان لهذا الاندماج آثار سلبية على الطبيعة النظامية للهمدانيين ووكان اختيار اليهودية كعقيدة وسيلة من وسائل استقطاب النفسية البدوية بهذه الثقافة اليهودية المتوحشة التي تتسم بالفوضى والعنف والغنائم كما ورد في التوراة وتحديدا في سفر يشوع 6: 22-24 ” وحرموا –اقتلوا-كل ما في المدينة من رجل وامرأة ومن طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بين الرب”

وتعرف الثقافة المتوحشة بحروب الإبادة وهي ثقافة جبانة تحاول الاطمئنان على وجودها بإبادة الخصوم على غرار الحروب التترية المشهورة لأن بقاء الخصم وفقا لنظام الحروب المدنية قد يكون سجالا كالحروب التي كانت بين الفرس والرومان بقيادة النبلاء من اشرافهما. وكالحروب الإسلامية في الفتوحات التي كانت بقيادة النبلاء وفقا للقوانين والحروب العادلة التي اشتهرت عند فلاسفة أوروبا وهذه الحروب النظامية لا تتناسب مع الطبيعة اليهودية لأنها لم تعد انعكاسا لبيئة وإنما أصبح التوراة بهذا العنف العسكري ثقافة سلوكية وبنية فوقية تشكل الطبيعة اليهودية في الحروب وكانعكاس لطبيعتها البدوية.

بهذه الثقافة الصراعية برز عبهلة العنسي زعيم قبيلة مذحج وأسس لثقافة النبوة اليعربية الأولى في تاريخ الإسلام على أسس عرقية معارضة للنبوة المحمدية

وقد ذكر الطبري أنه كان ذو نزعة عرقية نقل عنه أحد خطابه الموجه لعمال الدولة الإسلامية ومنهم معاذ بن جبل الأنصاري من أصول يمانية «أيها المتوردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، وأمسكوا ما جمعتم فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه” وتبعه فارس العرب المشهور عمرو بن معد الذي حجبته طبيعته البدوية من أن يتولى أي مناصب قيادية في المعارك رغم شهرته بالفروسية

ورغم كرهه للوافد إلا أن ثقافة الأجنبي المستعمر له مكان اعتبارية في نفسية البدوي ومنزلة سامة لا سيما إذا كان ذو ملامح شخصية ولهذا أبقى الأسود العنسي على الأبناء بما فيهم فيروز الديلمي بعد أن أظهر له الولاء وقربهم ليكونوا من الحاشية

بينما كانت بعض بطون همدان تستعد لقتاله كما أشرنا سابقا تميز هذا البطن بثقافة الجندية وتواصلت مع الديلمي الذي كفاها أمر الأسود العنسي وقتله على فراشه.

وقد برزت الثقافة البدوية الثانية التي تعرف بالنزعة القحطانية في العصر الأموي لمواجهة نفوذ بني أمية وتطورت عبر التاريخ لتتجدد مع علي بن الفضل الخنفري القحطاني مدعي النبوة والذي أراد من تواصله مع الفرقة الاسماعيلية الأسيوية البدوية التي هي جزء من الثقافة البرهمية المشهورة بتوحشها الطبقي ليعيد مملكة حمير واستغل الحميريين لدعم شرعيته كما فعل الأسود العنسي من قبله.

وقد ورد عن شاعره ” تولى نبي بني هاشم: وجاء نبي بني يعرب.

خلال تلك التقلبات والنزعات برزت العديد من الممالك القائمة على ثقافة التوحش البدوية كما أشرنا إلى مملكة كندة ومثلها مملكة أورشليم ومملكة يهوذا والخزر وغيرها من الممالك التي تتفكك من دخلها كثقافة السلطنات التي كانت جزء من الدولة العباسية ثم استقلت في سلطنات وممالك متصارعة بعد ذلك والتي كان لبعضها نجاحات عسكرية بينما كانت مليئة بالاضطرابات والصراعات المحلية كدولنا المعاصرة التي تعاني من نزعات انفصالية وإثنية وطائفية تفتقر لمعالم المدنية العدالة وقواعدها التنظيمية.

ومنذ تقلبات الدول في اليمن المتعددة وصراعاتها المتعددة خلال التاريخ الإسلامي كان الصراع مبني على هذه الثقافة العسكرية البدوية والتي كانت تتشكل تحت أطر طائفية عقائدية سنتحدث عن استمرار هذه النزعة وتراكمها وتشكيلها لبنوية الطبيعة اليمنية الصراعية حتى عصر الرئيس عبد ربه منصور هادي.

ولا يعني أن ثقافة التوحش البدوية لهذه القبائل صفة جينية بقدر ما هي مكتسبة برز فيها اسرة آل ياسر وعمار بن ياسر العنسي المذحجي وفروة بين مسيك المرادي.

وأميل بصفتي المنهجية إلى مقاربة الثقافات البدوية في المدنية ليس على الطريقة الانتهازية لملوك حمير وعصر الدويلات بعد الاسلام لإثارة النزعات المتعصبة العرقية وتوظيفها سياسيا وإنما من باب المقاربة المنهجية التربوية لصناعة الدولة بقيم الفضيلة البدوية وفضيلة القيم المدنية كخصوصية حضارية.

لا سيما وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على قبائل مذحج وجعلهم من خيار بيوت العرب كما أثني على أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري الكناني العدناني وكان في الجاهلية أعرابي بدوي قاطع طريق على ثقافة التوحش قد أسلم جهارا فكان قوة في الإسلام وتحولت ثقافة التوحش الى ثقافة الزهد بعد أن طلب الولاية فمنعها كما جاء في الحديث “يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأمَّرنّ على اثنين، ولا تَولَّينَّ مال يتيم“. وما من دولة مدنية تؤسس لدولة فاعلة إلا تضع لها عدة برامج أساسية لبناء الثقافة المدنية.

  • رئيس مركز الإصباح للتعليم والدراسات الحضارية والاستراتيجية (فرنسا)

g.alhashimi@yahoo.fr

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.