النموذج الألماني بين نزعة الذات الآرية والتقدم الحضاري

0 15

النموذج الألماني بين نزعة الذات الآرية والتقدم الحضاري

د. جمال الهاشمي

كانت ألمانيا في القرون الوسطى ليست أكثر من دولة ممزقة بين دوقيات وممالك وإمارات جهوية داخل الدولة الأكبر وتتشابه إلى حد كبير بالقبائلية والجهويات المحلية الطائفية والعرقية والتجمعات العائلية والقطرية المزقة بين مافيا الارتزاق والحروب الأهلية والمحلية.

نشأت خلال هذه الفترة المظلمة فكرة “أرستقراطية الدم الألماني” مع الكونت “هنري ديويلا نفيلير” في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي وهي فكرة سياسية وشكلت النواة الأولى لمفهوم الدراسات المنهجية حول نظريات التميز العرقي.

كانت ألمانيا في بداية القرن الثامن عشر مجزأة بين قرى ومجتمعات ريفية غير منسجمة وممزقة غير منتظمة، ومشتتة غير مجتمعة مع بعض المراكز الحضرية العاجزة عن نظم هذه الوحدات المتناثرة.

واستطاعت من خلال العودة إلى منابعها الأولى من تأسيس إرادة تاريخية عابرة في سفينة الزمن نحو القرون العميقة من تاريخ الرومان والجنس الجرماني ذلك التاريخ الرجعي عند الحداثيين هو الذي فصلنا عن التقدم الحضاري وهو الذي قدم أوروبا كلها نحو المجد والحضارة والسيادة واحتكار العلم. ورمي الفتات من على موائدهم ليتساقط في بيئتنا فيزيدنا تخلفا فكريا ونفسيا ويخلق فينا استلابا روحيا واغترابا مجتمعيا وأمميا.

ذلك الزمن العتيق الذي أورثنا المجد وتخافه مجتمعات التقدم الغازية لعمقنا وتراثنا وتخوفنا به، وإلا لما كان البخاري جامع التراث النقي تتقاذفه الألسن، وتشطط فيه الأقوال إلى حد البذاءة اللفظية التي تعكس مدى شناعة السفيه وخناعة المتفقه.

ذلك التاريخ هو الذي منه وبه أعادت ألمانيا بناء دولة حضرية حاضرة وقطبا من أقطاب العلم والتقدم رغم الانكسارات التي تلاها وسبقها في مجتمعات إثنية أوروبية متنافسة على حيازة التاريخ أكثر من حيازتها للثروات ذلك المعنى الخلاق للمفهوم الحضاري والثقافي حتى تقاسمت ألمانيا وفرنسا السيادة فتدعي ألمانيا أنها شعاع الثقافة، بينما تدعي فرنسا أنها مشعاع التنوير والحضارة.

بهكذا بدأت التنمية في اللغة والتاريخ والسياسة والإدارة والقانون والأدب والفكر والتعليم والتربية عبر هذه الحلقات بالتسلسل المنهجي صنع النموذج الألماني عام 1800م أقصد بالنموذج هنا بناء الشخصية الألمانية الآرية؛ النظرية العرقية التاريخية الضاربة في العمق حتى مدينة أسبرطة وتفوقها العسكري التي تشكلت بها الحضارة الرومانية والعرقية الثقافية التي بدأت في أثينا وبها تشكل الجانب الآخر من الحضارة الرومانية.

تشكلت هذه النظرية الجنسية أو نظرية التفوق العرقي من منظور المعتقدات الطبيعية أو الدينية بين ثلاث نظريات أسهمت جميعها في بناء حضارات متنافسة داخل الساحة الأوربية (النظرية الجرمانية وموطنها الرئيس ألمانيا، النظرية الكلتية وموطنها فرنسا، النظرية الانجلوساكسونية وموطنها بريطانيا العظمى).

وحتى لا نستطرد فنخرج عن سياق الموضوع ونستأنف بأن العقيدة النوردية تمثل المركز الأول التي تأسست عليه الحضارة الألمانية التقدمية الحديثة والمعاصرة، وهي النظرية التي استدعت العمق التاريخي المعروف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة.

لكن في سياق آخر كانت ألمانيا في عصر براكينها الإرادية المتقدة للنهضة منقسمة بين البروتستانتية الحديثة والتي تمثل طبقة المستضعفين من المفكرين أصحاب النظريات الجنسية من مجتمعات ريفية غير متحضرة بينما كانت الحضارة تجمع أعراق دونية في مدخل النظرية الجنسية من الروس واليهود والبلغار وغيرهم من العاملين في المهن الحرفية والتجارية أما أصحاب العمق التاريخي فكانوا من المجتمعات الزراعية والرعوية والذين بتركهم للريف واجتماعهم في المجتمعات المتحضرة أشعلوا الثقافة أقصد بها ثقافة التاريخ والأصل والمعتقدات.

كانت البروتستانتية بهذا العنصر يشكلون نخبا جديدة متحررة من السيطرة الكاثوليكية المقيدة لحرية التفكير والعمل وحتى حرية الإبداع واستكشاف الظواهر العلمية وفقا لقوانينها الطبيعية لكونها تتعارض مع النصوص المقدسة للكتبة الرسل والباباوات ورجال الدين، وحينها كانت السلطة السياسية تستمد سلطانها من التدين الاجتماعي التي تقوده الكنيسة الكاثوليكية.

أول حركة في ألمانيا هي حركة حرية الفكر ومن ثم بدأت فكرة النزعة العرقية من مدخل التدين البروتستانتي وتنقية الكاثوليكية من كتابات رجال الدين باعتماد النصوص المرجعية الأولى العهدين القديم والجديد ومن خلال التأصيل الديني لحرية المعتقد تحرر اليهود معها وكانوا يمثلون أحد حركات الفكر الاجتماعي والهندسة والطب والتجارة والصناعة والتمويل.

وبعد انفتاح حرية الفكر الديني أعلنت البروتستانتية حربها على المعتقدات الدينية ومن بينها المعتقدات اليهودية ومن ثم تولد عن هذه الحركة أربعمائة كنيسة بمعتقدات متعارضة مع بعضها حيث بدأت فكرة التدين تتشكل من منظورها السياسي بهدف رفع مكانة السياسة والإدارة إلى قيمتها الأولى في صناعة الحضارات الأوربية التليدة. وصلت ألمانيا في عام 1900 إلى مستوى التقدم الحضاري الذي بدأت نهضته للعيان مبنية على أسس تاريخية عرقية دينية وكونت أكبر دولة اقتصادية في أوروبا.

كان الباب مفتوحا على مصراعيه حول فكرة البحث حول الأعراق وتمايزها ليس كغاية وإنما كهدف من أهداف القوى الثقافية في صناعة النموذج الأوربي “السوبرمان” أو الفارس الإله أو نصف الإله “هرقل” وبعد سلسلة من البحوث والنظريات في بيولوجية الإنسان والتطور التاريخي والثقافي تسارعت العلوم الطبيعية لدراسة هذه العلوم وبالفعل كانت تمثل في ذلك الوقت الدساتير القانونية والنفسية التي تستقطب المجتمعات والساسة حولها بالتأييد لموضوعها حيث بدأت بفكرة التطور الثقافي لعلم البيولوجيا بعدة بحوث ثقافية.

بدأ الإطار المنهجي لفكرة التميز العرقي من مدخل جينيولوجية اللغات مع “جونز وتوماس ينج ورودي” حول مركزية (هندي أوروبي) خلال فترات التأسيس النهضوي بين 1778 وحتى 1820 وتعتبر هذه المرحلة المؤسسة الأولى لصناعة النموذج الغربي.

ثم انكمش الأفق البحثي وبدأت فكرة التأطير المنهجي لعلم الأجناس من مدخل الجغرافيا المنتشرة وأقصد بالمنتشرة المتوسعة بالغزوات الآرية القديمة التي حكمت الهند والفرس وغيرها من دول آسيا أقصى الشرق وكانت هذه البحوث مع “فون كالبرت” وبرشاد ويوت” وتقلصت الفكرة حول النبع الأول بتمحورها على مركزية “هندي جرماني” في الفترة من 1820 وحتى 1840م وتمثل هذه المرحلة الجيل الثاني من التأسيس الحضاري في ألمانيا خاصة وأوروبا بشكل عام. ونجد أن هذه المرحلتين لم تخرج الجنس عن عرقه الأسيوي.

واكتمل بناء فكرة النظرية المبددة لفكرة المساواة العرقية والجغرافيا والديمغرافيا البشرية المتداخلة في كتاب “عدم تساوي الأجناس” مع المفكر الفرنسي الارستقراطي الكبير “أرتور دي جوبينو” عام 1853م وهي مرحلة اكتمال الوعي حول حقيقة الذات وإرادة الذات ومن أنا وأين أنا؟ شكلت تلك الاستفهامات قضية الوجود الحضاري وإن كانت قد أثبت بوجود اختلاط عرقي بين الآرية والصين كانت سببا في تشكيل الحضارة الصينية.

وكان ديكارت من الجانب الآخر يسعى لإثبات وجوده المحسوس وليس الوجود الملموس بإطلاق فرضيته في الشك المنهجي “أنا أفكر إذا أنا موجود” قضية منطقية حضارية تعني إثبات وجود الذات بحضارة ملموسة تأخذ رقيها من العقل.

وكانت بمثابة إرشاد للبحث عن الذات الألمانية من مدخل كتاب “عدم مساواة الأجناس” لجوبينو” من جهة والكونت الألماني من جهة أخرى، أي بين الفكرة المنهجية والفكرة السياسية.

كانت نظرية عدم المساواة البيولوجية تثبت تفوق الجنس الآري على بقية الأجناس البيضاء في أوروبا التمييز داخل الذات الأوروبي وليس مع خارجه وبقية فلسفة أخرى للباحثين من بعده من أين نحن؟ وليس من نحن؟ لأن الذاتية وحضورها تثبت تفوقها وبقي البحث عن مصدرها قضية أخرى لتعميق الثقة المجتمعية بالثقافة العرقية.

في المرحلة الثالثة بدأت نظرية الانتشار تأخذ مدلولا مندمجا بين الجغرافيا واللغة كأطر نظرية لموضوع الجنس الآري ماكس موللر وفي عام 1861 توصل أن نظرية العرق ليست سوى مدلولات لغوية وليس بيولوجية.

وبدأت موجة جديدة من النقد العلمي لتلك النظريات الأولى المؤسسة للحضارة الألمانية خاصة والأوربية بشكل عام، وتسمى مرحلة النقد العلمي مع (ليتون و أوماليو دي ولاتام  وبينفي وليجر) من مدخل الجغرافيا السكانية المتحركة ووضعت هذه النظرية الأسس الأولى لفكرة الإرادة القومية.

بدأت النظريات ترفض فكرة الأصول الأسيوية والتقارب الأسيوي من مدخل التاريخ البشري في الفترة من 1862 وحتى 1871م وشكلت هذه الموجه البحثية حركة الذاتية الأولى أو الفكرة الجهورية لموضوع الأنا وليس الآخر.

بعدها بدأت نظرية الذات الأوربية مع بحوث “برينتون وتيشلد جوردن وكوستينا ” ومحور الأصل العرقي على السواحل البحرية لبحر البلطي وتضم (السويد وفلندا وروسيا وبولندا وألمانيا والدنمارك” أو بالمختصر البلدان النوردية خلال الفترة بين 1900 و1820 وهي الفترة التي بلغت فيها ألمانيا ذروة دول أوروبا الحضارية وتعتبر هذه المرحلة من المراحل الوليدة للسياقات النهضوية.

ثم ضاقت النظرية أكثر مع الباحث ” وبتر جيلز ” لتتمحور حول “هنجاريا” في 1892، وكان هوستن تشامبرلين الألماني الأصل الإنجليزي الجنسية من أكثر الداعين لفكرة التميز للعنصر النوردي الأشقر ذو الرأس الطويل وتبنى فكرة “التيوتوني” كمصطلح يحصر التميز في شعب بدلا من التميز السلالي الذي حصره جوبينو في طبقة سلالية أرستقراطية معينه حصرها بصفات جسمية كالقامة ولون العين والشعر ثم وسمها بصفات نفسية كالنبالة والرزانة والعنف والعدوان.

كان “تشامبرلين” بحق مؤسس فكرة الاتحاد الأوربي من منظور العرقية التيوتونية وبدلا من الصراع على الحضارة كان في الأساس يؤسس لفكرة الحضارة التيونية العرقية الأوربية في مقابل الأجناس البشرية الأخرى، قامت فكرته على أساس التميز التيوتيني الذي ترجع إليه فضائل تأسيس المدنيات التاريخية في الإغريق والإسكندر وروما والبابوية ونابليون.

ومن ثم دمج بين التيوتونية والمدنية كمترادفات نفسية وحضرية ومجتمعية ومن ثم فإن حفظ عرقية النبالة من الاختلاط والاندماج مع الآخر سيحافظ على بقاء المدنية الأوربية بعيدة عن عوالم البرابرة من الأجناس الأرضية الأخرى.

وخلصت نظريات الجنس على الرغم من أهميتها في صناعة الإرادة القومية الأوربية والتنافس على تحقيق الذات وبيان الأفضلية بتكامل مجتمعي كان مشتتا وممزقا ومتخلفا ولكنها في المقابل فإن هذه النظرية تعرضت للنقد خلال سياقات البناء التاريخي من قبل الباحثين أمثال “هارتمان ومورتيليه وهوزيه الذين اعتبروها فكرة ثقافية استطاعت صناعة القوميات على توهمات عرقية باطلة.

كانت العظمة الاقتصادية والحضارية لألمانيا 1900 مع نظرية التفوق العرقي من أهم أسباب الحرب العالمية الأولى ثم بعد انكسارها فقد كانت الوقود الأول لبناء فلسفة الإرادة الحضارية  والنهضة التاريخية التي جددت معالم الحضارة القديمة في ثيابها العصرية الرائدة لم تستثني الدين وتلغيه بل هذبت الدين الكاثوليكي بالبروتستانتية واندمجت رجال الدين في النهضة وتعلموا إلى جانب العلوم الدينية العلوم العصرية.

ومن خلال نخبة الجنس الآري تجددت الحضارة الألمانية الحديثة والمعاصرة، وبرز هتلر بفكرة قومية متحديا الهزيمة بقوة الإرادة القومية آخذا من معاهدة الإذلال فلسفة جديدة للنهوض.

بدأت فلسفته مجددة للنظرية الآرية في سلسلة أفكار اجتمع عليها الكثير من النبلاء وبرزت أعماله الحزبية ومن ثم استطاع أن يصل إلى السلطة معتقدا أن الشعب الآري يحتاج قيادة آرية نقية عرقيا وثقافيا وإدارة قادرة على تنقية المجتمعات من العرقيات الأخرى واعتبر الأجناس المريضة أخلاط بعرقيات أخرى فاستخدمه تدابيره لمنع الإنجاب.

بدأ معه فكرة المسيحية الإيجابية بجلباب التصوف اللاهوتي فأيدته الكنيسة الكاثوليكية واستخدمها لتطهير العرقية الآرية من العرقيات الأسيوية الروسية والبلغارية واليهودية وانطلق من قناعته المسيحية أن المسيح عنصرا آريا وهو أول من سعى لتنقية العرقية الآرية من الفريسيين والمادية اليهودية الفاسدة، كانت المادية الفاسدة هي الفكرة نفسها التي حاربها ماركس اليهودي البروتستانتي المتحول، في كتابه رأس المال.

أسس هتلر مبدأ الشك في العلاقات مع الآخر وفي الجانب الآخر جعل من نفسه عنصرا آريا وجد في العالم من أجل الحقيقة ونصب ميزان العدالة، وفقا للتراث المسيحي وسمات الحضارة المسيحية، لكنه في المقابل كان يرفض الكاثوليكية التي دافعت عن العنصر اليهودي، ولكنه كرجل سياسي لم تكن العنصرية إلا وسيلة من وسائل الرد على التأله اليهودي وفي المقابل استخدم المسيح كعنصر آري لمواجهة المادية اليهودية في ألمانيا، ثم استخدم من البروتستانتية والكاثوليكية ما يتلاءم مع طموحاته السياسية وكان يرى من الإسلام نموذجا من الفروسية القادرة على تبديد المسيحية، ولذلك سمح بتأسيس وحدات عسكرية إسلامية داخل الجيش الألماني كل تلك الأيدولوجيات والمعتقدات المتناقضة كانت أدواته ووسيلته لتحقيق الحضارة الإله على غرار المدنية الإله في اليونان.

وأخيرا فإن الخلاصة تشير إلى أن النزعة العرقية تفوقت في ألمانيا واستطاعت صناعة التقدم الحضاري الأول بقيادة فكرة النظرية العرقية التي استطاعت تشكيل ألمانيا الحديثة 1900 ثم سقطت في الحرب العالمية الأولى، ثم هي النظرية ذاتها التي شكلت الحضارة الثانية بقيادة النازية، وسقطت للمرة الثانية، ثم تشكلت بها وفقا للنظرية الديمقراطية المعاصرة ووصلت لتكون من النماذج الأوربية المعاصرة لكن تحت غطاء الديمقراطية والإنسانية من جهة ولكونها دولة مقيدة بالقواعد الأمريكية من جهة أخرى..

لكن ماذا عن النزعات العنصرية الأخرى في أوروبا؟ وهذا ما سنتناوله في سلسلة حلقات غير محددة الأجل.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.