د. جمال الهاشمي يكتب: المنهج العلمي بين الحاجة والجامعة: حقائق وعوائق
المنهج العلمي بين الحاجة والجامعة: حقائق وعوائق
د. جمال الهاشمي
يتداول الكثير من الأساتذة الأكاديميين ظاهرة المنهج واختلفوا في التمييز بين المنهج والمحتوى وتظاهرت السجالات حول تحديد المنهج موضوعا ومصطلحا ومفهوما وفلسفة.
لم يكن المنهج شيئا ملموسا يربط بين البنية المعرفية المنظمة للعلاقات الارتباطية في الذهن، والبنية التحتية كترجمان لتنظيمها ورتب منازلها وتبيين أزمنتها، أو تعبر عن حقيقة التلامس مع الواقع؛ لا سيما وأن الأكاديميين يشددون على الربط بين النظرية والتطبيق، أو الفكر والممارسة، وعندما نوظف القراءة المنهجية للنظر في طبيعة المنهج واستكشاف الربط بين المتغيرات أو المكون العقلي والمتكون المادي نجد ذلك بعيداً عن حقيقة المنهج.
وإذا رجعت القهقري عقودا وجدت المدونات التي كتبت خلال فترات المد القومي وحركات التحرير مبنية على فلسفة عميقة من القراءات الموضوعة، ولها وجدان عميق يثير العاطفة، ويجردها عن العقل، وأخرى عقلية محضة تنازع العاطفة، وتتجرد عنها، والبعض يضع مفاهيم وأنساق لغوية تلامس المنطق الآرسطي بقوالب قومية؛ إسلامية وعربية، ولكنها لا تلامس صفة المنهج.
وتحت كل قالب من قوالبها فروقات وتباينات مختلفة، وقد تمكنت النزعة الكتابية من استجلاء مركز النفوذ الأكاديمي، وبناء عليه امتلك الأكاديمي الفيلسوف صك الحقيقة المطلقة، وصكوك الغفران معها؛ تارة يؤسلم الثقافة، ثم يعقلنها، وتيارات أخرى تفلسفها، ويتقلب الكاتب بين باختلاف المناهل ويتلقف كالأعمى بأصابع عقله، خبط عمياء، وجهالة جهلاء، ومن ثم ينتقل بعد رحلة من التقلبات إلى استثارة النزعة العاطفية الإسلامية، بعد أن أنهك عقله بحثا في المجردات عن المعقول.
صار لكل أستاذ محتواه ومنهجه، وكنيسته ومعبده، وأكثر المؤثرين الذين تحرروا عن قيود الجامعة، ولم يتسوروا بسورها، أو يقاسوا سجونها، أما الجامعيون فكانت كتاباتهم تلقيفا، وجدالاتهم تلفيقا، وألبسوا صفات التجديد والتحديث، واليوم وجدنا ما كتبوه مترجما عمن نقلوه، والبعض أكثر أدبا؛ حيث نقل الإطار ووضع المحتوى متتلمذا بالنقل ومنقاد لعصاه أعمى لا يدري وجهة يصير إليها ولا مقصدا يبتغي إليه، وهذا لمن جلي لمن دبْ وفحص كتبهم بتحقيق، ونظر فيها بتدقيق، وصدق المأثور من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، ومن تخرج من جامعه توهم بما معه.
كل أستاذ يسعى لأن يشكل مدرسة باسمه كما كن ضحية لتشكيل استاذه، ويحرف الحزبي والمتحزب السياسي قضايا المنهج كقضية عامة محايدة عن مواضعها، ويضع لها سنان وسهام ويهيئها للضرب والطعان، فينشأ الطالب نشأة معقدة، منقادا لغير منهج أو جماعة ، ولا بد من تنازلات يدفعها ويناضل من أجلها ؛ فالحزبي رئيس الجامعة ومدرسها وعميدها، ومع هذا الموجات العقلية المتقلبة، وموجة التأثير الطاغي يفقد الطالب عدالته واستقلاليته وموضوعه ومنهجه، إضافة إلى غياب المنهج كمنطق كلي عام، و صار هذا الشيء معرفة لدى الجميع، والمناهج وأهلها نكرة، فالجهل إذا استفعل صار العلم عند الجاهل فلسفة مضنية، ومضيعة مبكية.
أما الطالب الأكاديمي فيخرج من رسالة الدكتوراه وفي عقله حلقات مفرغة، وتساؤلات مبهمة حول المنهج، وعندما لا يجد جوابا يرتمي في المجرى العام للعرف الأكاديمي أو الحقول العلمية التي أغلقت باب الاجتهاد، وتجزأت المعرفة كانت فرض عين على كل طالب يقوده الفشل من البيت إلى الجامعة ومن الجامعة إلى المجتمع.
وحينها يتنازل الباحث عن قيمه الفكرية ليعيش مع المجرى الثقافي وبدعها المقلدة متدفقا وناقلا ومتسكعا، لا يقر له قرار، وموما زالت الحكمة اليونانية التي قالها الشافعي ناقلا عن الصوفية “الوقت كالسيل إن لم تقطعه قطعك، تكتب إلى يومنا هذا “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، مما يشير إلى وجود إشكالية فصل بين العقل والنقل، وهنا نكون بين متطرفين: الأول يتطرف باستخدام العقل فيتجاهل النقل، والثاني يخشى الضلال بالعقل، فيعطله ويعتمد التراث وليس النقل والفرق كبير بينهما.
وهكذا تعددت مذاهب الأساتذة ومدرسيهم وانقسموا إلى فرق متصارعة، وسجالات متلاهية؛ خصوصا في الدراسات المعرفية، وظهر نتيجة لتلك التوجهات تجمعات فكرية متعصبة ومتحيزة، وأخرى مفسقة، والبعض يمتهن التكفير، وأكثر دراستنا في كل التخصصات عن فلسفة الثورة والحرية والعدل والديمقراطية، وكلها مفاهيم تنتظم في ناظم عقلي غير منتظم.
إضافة إلى الوضع الأخلاقي المتدني، والشعور بالامتلاء مع جفافه، وحتى المبالغة في الرسميات التي انتقدها كل من كتب عن الآداب السلطانية وسياسية فرض الطاعة، فلا تجد الطالب أمام أستاذه إلا في وضع المتهيئ للعبودية، والمستمريء للمهانة، وإلا ارتمى في سُقط الأستاذ وسخطه؛ وكأنها الحرث في أرض إرم.
ولعل المتتبع في كتب المناهج يخرج من جميعها بعبارة التفكير المنطقي، ومن ثم تزدحم المفاهيم وصكوكها ويخرج المنهجي بفلسفة يقال عنها المنهج وليست من ذلك بشيء، ولا يُرى متضلعا بالمنهج إلا وكتاباته منحولة أو منقولة باستثناء ضئيل، وعلى طلابه تفرض كمسلمات مقطوعة، وحقائق معلومة.
مثال ذلك أن يشير الباحث إلى استخدامه المنهج الوصفي وهو منهج بالضرورة -للبحوث التجريبية والإنسانية -لا يُرى منه سوى اسم المنهج الذي أشار الباحث إليه في مقدمة التعريض عن دراسته وليس العرض والفرق بينهما أن العرض مبني على قواعد يسير عليها أما التعريض فهو نوع من التعيير الفاضح، وإن صح التعبير فالأغلب الأعظم من كتاباتنا التي كتبت ودونت ونشرت، وما زلنا على إثرها نكتب ليست سوى توليفات مجموعة ومقولات مبثوثة.
وإن استدركنا البلوى فإن المقالات المنهجية في الدوريات العلمية غالبا لا ترتقي إلى مستوى البحث العلمي، وإن عرض (من التعريض) الكثير إلى جدة الموضوع وإضافته الجديد، فما أكثر البحوث وأقل نفعها؛ إن لم يكن منها الضر الزؤام، وما أكثر المؤتمرات وأضرها، ولا ضير فالكل له سيف كاتب باستبداد وتعصب رافضا لفضيلة النقد، وكأنه يرى في النقد رذيلة تمس الشخصية وكرامتها، لهذا أطلق على التعصب سفها وتلقب كبرآؤها بالجهل، وأضرها الجهل المركب.
والسؤال المطروح ماذا تريد أن تكتب؟ إشارة ما كُتب سلفاُ، والمقولة الصحيحة لا تقل كم كتبت، ولكن ماذا كتبت، حتى صار لكل علم من الأعلام مؤلفات ذكر منها واحد، وبها فاشتهر.
حينها نحتاج إلى سلسلة مقالات عن المنهج ليس من باب الترف وإنما من باب التعجب من جهة، إعادة قيمة التعليم كأساس للتنمية والحضارة والتماسك الاجتماعي والتنمية الأخلاقية من جهة أخرى.
يبقى موضوع المنهج من الموضوعات التي لا تنقطع عن كتابته المحابر ولا تتوقف عن تمنطقها الحناجر والكل يسلك مسلكا لا يصل إليه، وهناك تتبدى علل لا بد من الوقوف عليها قبل النزول إلى ميادينها.
حتى قال قائل ما تعلمته من جامعتي، ثقافة، ثورة، جدال فوضى، فساد وحيله، تطرف، عنف، جهل ونفاق، تزندق وتملق، حتى قلت فإين المنهج من ذلك كله؟