السترات الصفراء بين ثقافة الثورة والثروة

0 6

السترات الصفراء بين ثقافة الثورة والثروة

د. جمال الهاشمي

بدأت السترات الصفراء بالطبقة المتوسطة التي ترى أن موقعها بدأ يتدحرج سلبا نحو الأسوأ وأن مرحلة جديدة بدأت تتجه نحو التصعيد، ووجدت الأحزاب الكبرى نفسها مع هذه الحكومة في الوجه المقابل بعد إزاحتها عن المشاركة في إدارة سياسة الدولة

يبدو أن الظاهرة التي بدأت  بالربيع العربي هي نفس الظاهرة تماما مع  ثورات السترات الصفراء إلا أن الثورات العربية كانت في تجمعات جغرافية معينة لم تعطل مصالح الدولة ومؤسساتها تحت شعار السلمية.

أما في فرنسا في ظل التلاحم والوعي شعبي بخطورة سحب البساط عن الطبقة الوسطى وقد أسهم في هذا التراجع تراجع الدخل القومي لا سيما في ظل هجرات الكثير من أرباب الأعمال عن فرنسا الى دول أخرى فرارا من قوانين الضرائب التصاعدية للحكومة

كل ذلك أثر سلبا على الاقتصاد الفرنسي ولعل محاولة الرئيس ماكرون استمالة طبقات رأس المال بامتيازات لإبقائهم في فرنسا أو العودة إليها أثار مخاوف الشعب من قيم الرأسمالية التي تهدد معاني الأخوة التي قامت عليها الثورة الفرنسية  ولعل هذا المبدأ هو الذي جسد تلاحم السترات الصفراء مع بقية المواطنين كما أن البعد التنظيمي للسترات الصفراء مكنها من اغلاق خطوط الإمداد الحيوي للحركة الاقتصادية  وخصوصا الطرق الرسمية والطرق التي تربط المدن الرئيسية بقرى وضواحي المنطقة مما تهديد الدولة بالشلل الاقتصادي التام وكذلك في ظل التهديد بغلق المطارات الدولية والموانئ الاقتصادية.

وبذلك أستطاعت سياسية ماكرون من إعادة تصدر الأحزاب المعارضة للثورة ليضيف لها رصيدا جديدا للمرحلة القادمة حال وصولها إلى السلطة وربما قد تتجه نحو اليمين، حيث تتجه سياسة اليمين الى الداخل في سياسة تبحث عن إعادة بناء هوية المواطن الفرنسي وفقا لأيدلوجيا تستبعد الآخر، وبذلك فهي تعيد الهوية الفرنسية وتجعلها فوق اعتبار السياسات البراجماتية.

لا سيما في ظل تدفق المهاجرين من الدول الطاردة كدول شرق أوروبا والدول العربية وتحديد يوم عشرة من هذا الشهر إنما يعني معارضة الدولة في اتفاقية المهاجرين المزمع توقيعها في مدينة مراكش المغربية، حيث تتوافق إرادة الشعب مع أرادة الأحزاب اليمنية واليسارية.

بقي خيار السلطة إما أن تستمر في سياستها ويعني ذلك دخول مرحلة جديدة من مراحل العنف الممنهج وهذا مستبعد لفترات قادمة إلا أن البيئة تتهيئي لصراعات ثقافية وعرقية وأيدلوجية قد تكون بداية لانتشارها في كل أوروبا ومن ثم ستتحول إلى أزمات طبقية وجهوية إذا ما اسقطت السلطة لأن الدولة أيضا من القيم المدنية والديمقراطية التي دافع عنها الشعب، ومن ثم فإن التحولات القادمة ستتجه نحو استراتيجيات جديدة في أوروبا وإن كانت عجلة التحول بطيئة إلا أنها قد تتسارع فجأة.

وحينها ستعود ثقافة التدين من جديد وهي الثقافة التي تشهد تنامياً مستمرا داخل المجتمعات وفي المقابل تشهد اهتماماً فرنسياً بالحياة والصراع من أجلها والخوف من المجهول وقد لوحظ أن السنوات الخمس الماضية شهدت تراجعا في القوة الشرائية وخلال هذه السنوات تشهد القوة الشرائية انحطاطاً حيث غزت السلع الصينية الرخيصة السوق الفرنسية وصار من الصعب على الفرنسيين شراء الماركات التي يصنعونها وامتد ذلك الى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بضع سنتيمات.

وحتى الأن فإن القيم الثلاث ما زالت هي الأساس لإدارة الدولة، وقد أثار اقتراب الرئيس من الطبقات الرأسمالية خشية السترات الصفراء ومن خلفها الشعب والأحزاب تهديد قيم الدولة القائمة على مبدأ الرعاية الاجتماعية الذي لا يعني الصحة والتعليم والمواصلات العامة والمساعدات المالية وفقا لمبدأ الأبوة الرحيمة الذي وضعها رئيس الوزراء دزرائيلي اليهودي الأصل والتي حفظت بقاء المملكة المتحدة واستمرارها في إطار وعيه بأهمية تلاحم السلطة والشعب في تحقيق أهداف الدولة وحتى لا تنشغل الدولة بمعوقات داخلية عن أهدافها وسياستها العامة وإنما خشيتها من أن تستمر هذه العادة بما يحول الشعب إلى متسول للدولة لا سيما في ظل انتشار البطالة وحب الشعب الفرنسي للعمل ورغبتهم أن لا يستمر دعم الرافضين للعمل والمتهربين عن الضرائب في إشارة إلى الأجناس الأخرى من الأقليات المستوطنة  ولكون هذه الظاهرة بدأت تنتشر في الوسط الفرنسي بين أبناء الجنس الأبيض.

وتتباين فلسفة الشعب مع إصلاحات النظم الحاكمة كما تختلف رؤية الأحزاب للسلطة عن السلطة القائمة وتتسع الأحلام بين الطامحين والقائمين مما يؤدي إلى انهيار جسر الثقة مستقبلاً وقد يترتب عليها انحساراً أخلاقياً فردياَ واجتماعياَ ينتهي الأمر بوباء انتقال النفوذ الحاصل في بلدان الشرق الأوسط.

لكن فرنسا ليست كدول الشرق الأوسط فالفرق أنها لم تصل إلى مرحلة الصدع التام بين السلطة والشعب والتصدع الحزبي فالمقومات ما زالت قائمة مؤسساتها وصناعاتها وصنائعها وتنظيمها وقوانينها وقيمها إلا أن القراءة تتباين بين واقع قائم يبحث عن الجديد المتناقض مع إرادة التغيير وواقع مأمول تسعى إليه الأحزاب لمشاركة عاطفة الشعوب كنوع سابق من أنواع الدعاية الانتخابية القادمة ومن ثم فإن اخفاق السلطة القائمة سيحقق لها مكاسباً انتخابية.

يسعى الرئيس ماكرون لإعادة موقع فرنسا في أوروبا والعالم كأساس لنهج جديد يجدد فيه موارد الدولة وإعادة اعتبار كرامة الدولة في السياسة الدولية بينما يسعى الشعب للدفاع عن امتيازاته وقيمه ويخشى الصمت بالتبرير والوعي الزائف وإن لم يكن محقاً في واحدة فهو محق في أشياء أخرى، فقياس الرغبة بالإرادة تحتاج إلى قوانين وشفافية، وكذلك قد يكون محقاً في أن المهاجرين شكلوا عبئاً على رفاهيتهم وأن قيم الأنسنة التي كانت أحد أيدولوجيات الدعم الاقتصادي لفرنسا وأمريكا قد غابت بوجود من يستغيث بها من أولئك المشردين عن أوطانهم مما أثار احتجاجاً شعبياً رافضاً للهجرات لا سيما وأن التداخل الثقافي والاختلاط العرقي قد أبرزت عيوب وأخلاقيات ومطامع المهاجرين وخصوصاً المسلمين الذين امتصتهم الثقافة الفرنسية في أشياء سلبية وقدموا صورة ملوثة للعالم الإسلامي الملوث بقيم الاستبداد والتعال والجهل والادعاء.

وقد بدأت ثقافة صاعدة اجتماعية تدعو للثقافة وتنقية المجتمعات من ثقافة المساواة بين الأجناس التي تتعارض مع قيم المساواة بين جنس واحد وليس في توسيعه ليشمل أجناساً أخرى، فالمساواة تدعو لأيدولوجية الأنا كأساس لمبدأ المساواة.

أما الجانب الآخر فقد تستجيب الحكومة لجميع مطالب الشعب وتحولها إلى إجراءات تنفيذية وتلبية فورية ليست وعودا وهذا هو السائد والغالب حتى الآن ومن ثم ستعيد التلاحم الشعبي وتصريحاتها ليس تخديراً كما هو في العالم العربي بل التزاماً أخلاقياً وقانونياً لأن الشعب يمتلك الوعي ويحب وطنه ولا يمكن أن يذهب به نحو التخريب والصراع  على النفوذ والتضحية كما أن صناعة الشخصية الكاريزمية وسياسة الإصلاح القاسية لا بد لها من ضريبة وعلى حكومة ماكارون أن تتحمل ذلك فليست السياسة إلا موائمة بين تحقيق رغبات الشعوب واستمرار عجلة الإصلاح  لتبقى حيوية الدولة قائمة بإرادة الشعوب المتجسدة بإرادة السلطة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.