أزمة التعليم بين فلسفة الخصوصية والتنوير
د. جمال الهاشمي
من المفارقات الفكرية أن يشار إلى التعليم كرسالة مقدسة وصفة إنسانية تتلازم مع آداب وتعاليم النبوات قياسا على ما كان عليه في الماضي، في الوقت الذي تتأرجح فيه المؤسسات التعليمية العربية بين الأزمة والانحطاط نظرا للفجوة التي أحدثتها عند مقارنتها بمؤسسات العالم المتقدم.. أو بين إعاقتها وواقعها ودورها ووجودها..
فلا هي فلسفة اقتبست من رحيق الفلسفات العلمية موضعا لها ولا هي اقتبست من قيم النبوات إضاءات استبصرت بها.. سوى أنها مؤسسات هاوية على شفا جرف هار.
ومن الصعب الربط بين الفجوتين بسياسات إصلاحية إن لم نقم بإصلاحات جذرية تتلمس الحلقات المفقودة وتعيد انتاجها في سياسات إصلاحية أو تنموية للفت انتباه الإنسان إلى قدسية العلم وتنميته وضرورة التعليم وترقيته..
إذ كانت المدارس التقليدية تربط عقلية المتعلم بثقافة موسوعية لا تنفصل عن بيئتها الواقعية وخصوصيتها الحضارية أو عن البيئات المحيطة بها والنفسيات المجتمعية, فإن البيئة التعليمية العربية ترتبط بالذوق العالمي والتقليد والمتابعة، وهو ما جعلها تسير في عماء لا يدرك احتياجات المجتمعات ومتطلباتها، وأصبحت الجامعات التي كانت ملاذا للعلم وحلالة للأزمات عباره عن مؤسسات ريعية تثقل كاهل الدولة إن كانت التعليم مجانيا، أو وسيلة استغلال للمجتمعات إن كان التعليم غير ذلك، وهو ما يؤكد على غياب المؤسسات الحقيقية في أسمال مؤسسات شكلية تتخذ من العقار شرعية لوجودها، ولهذا برزت عبر التاريخ الإنساني مصطلحات تجديدية وثورية وإصلاحية استعادت الماضي المقدس النقي أو بعضا منه لتصحيح التقادم أو إعادة التقدم.. كاستعادة أوروبا ودول آسيا لمدوناتها التاريخية النقية بالنقد والتمحيص والانتقاء خلال ارهاصات النهضة والتغيير الذي بدأ كانطلاقة مقدسة من المعبد و انطلاقة تنموية من المدارس الفلسفية داخل المعبد.
فالتعليم كالإنسان يتقادم ويصل إلى مرحلة الجمود إن لم يعد انتاجه بربطه ببيئاته في سلسلة برمجية متطورة استشرافية لمتغيرات البيئة وواقعها، وتصل أقصى مدة علمية لتأسيس الاستراتيجية المنضبطة مائة عام، أو ما يعرف باستراتيجية القرن، وكان أول من وضعها في التاريخ الأوربي البابوية الكنسية نهاية القرون الوسطى. وتتميز هذه الاستراتيجية بتجذرها وإعادة ابتعاثها أو انتاجها في سلسلة من الاستراتيجيات العقدية المتصاعدة.. تتوزع ضمن خطط وبرامج علمية مرحلية تتصاعد بخطى علمية منهجية واعية نحو التقدم.
كما أن الانحطاط يتشكل كلما تقادم به الزمان وابتعد عن الأصول الابتعاثية الأولى أوالمرجعية التي كان لها الفضل في تقدمه بالمصطلح الحديث.. والفرق بين الإنسان والعلم بإعادة النظر إلى أصليهما؛ وذلك أن تقدم الإنسان يقوده إلى العدم؛ إذ لم يكن شيئا مذكورا، والعلم يقوده إلى الخلود لأنه صفة لدنية تتركب في روح الإنسان عندما تتعلق بالقيم وتتركز بعقله عندما تتعلق بالعمل، وبهذا تميز العقل عن البدن كقيمة روحية أو تستوطن الروح ويستوطنها العلم الخالد؛ فالسمع مدار العلم وقراءته، وفي العقل عنصري الفكر والخبرة وهذا ما أشار إليه القرآن “لو كنا نسمع أو نعقل”.. وعلى أساس ذلك تنوع العقل بين طابع ومطبوع وعملي وعلمي .. وفقا لتقسيماته الوظيفية وعلى أساس تلك التقسيمات برزت فكرة التخصصات العلمية.. كآلية تنظيمية تربط الوقت بالتنمية والإنسان بفائدته.. ومن قبل هذه التقسيمات كان الإنسان حيوانا فوضويا مدمرا لوجوده ودوره وبيئته.. أشبه ما يكون بحال الإنسان المعاصر في الدول الفوضوية المتخلفة.
وهنا نتحدث عن السياسة الانفصامية لمؤسسات التعليم العربية التي تدرس الماضي بثقافة التهجئة والهجاء وتحمله أسبابه تخلفها وتأزمها، كنوع من الهروب أو تبرير انحطاطها أو فرارا من واقعها في سلسلة من الادعاءات السفساطائية.. وقد يلعن المعلم العربي المعاصر واقعه الذي أفقده الرسالة النبيلة وألحقه بقسم الوظائف العامة التي جعلته معلما من معالم الجهل المقدس.. عندما فقد احترامه في ذاته وتقديره للعلم في الوقت الذي يبحث في سلوك الطلاب عن احترامه .. افتقاد القدوة.. أكثر ما تعانيه مجتمعاتنا العربية ومؤسساتنا التعليمية والإدارية.
وبالعودة إلى الزمن الهادئ وقبل ولادة المؤسسات التعليمية المعاصرة كان المعلم موسوعة وملجأ للمجتمع وأبنائه، وذلك أنه عندما احترم العلم تقدس بمطلوبه لا بافترائه.. ويتدنس اليوم إذا فقد المطلوب مع ادعائه..
ومع هذه التخم التعليمية ما يزال ماضينا العربي بكرا في ظل مؤسساتنا التعليمية التي استبدلته بالتقليد واستلبته بالعجز والانجرار دون وعي بمتطلبات الحاضر بوجودها والمستقبل لأجيالها.. وما تزال الثقافات الشعبية العالمية القديمة تحمل من فنون الطب والهندسة والزراعة ما تستلهمه المؤسسات الغربية والصينية والتقدمية الحديثة وتعيد انتاجه كسلع حضارية تعاد إلى عوالمنا العربية بماركات أجنبية.. كالجسور الهندية للأمريكان التي توسعت بالتقدمية الأمريكية لتشكل معمارا حديثا متطورا يغزوا عوالمنا العربية وكذلك معلقات بابل وقصور غمدان وفره ثمود وجنات عاد .. وكل هذه النظريات المدونة في المقدس والفلسفة أو المنقوشة بالآثار يعيد العالم المعاصر انتاجها منهجيا وتنمويا.. وهذا يؤخذ على سياساتنا التعليمية ومجتمعاتنا التي انفصلت عن مؤسساتها لترتبط بما لدى الآخر من قيم وحضارة وعلم ومنهج وثقافة.. وتندمج ضمن قيم الثقافة الرأسمالية ومعتقداتها المرجعية.
وهذا ما دفع بالسائحين والمستشرقين الغرب المفتونون بحب البحث نحو السياحة العلمية والاستشراق والبحث عن تراث الماضي لدى الآخر وإعادة تبيئته بقيمهم الحضارية، أو تقديم الرؤى والاستراتيجية لضمان السيطرة العالمية للأجيال القادمة وضمان تبعية العوالم المتخلفة التي ليست أكثر من معطيات اقتصادية وهبها الإله للعالم المتقدم إذا يجب الحفاظ على بقائها مستعملة بأيادي مؤسسات العالم المتقدم ومستهلكة لمصنوعاته وحامدة لصنائعه.
وهذا الواقع حاضرا على مستوى المثقف الكاتب والأكاديمي المعلم، وحينما تأتي المعارف من الآخر يكون الدليل المقتبس عنه مطلقا ومقدسا منفصلا عن شروط انزاله وإمكانيات تحقيقه، وعند نفترض نظريات الإثبات تستخدم المرجعيات الحضارية المعاصرة التي تميزت بغرضين: العلم وانتاج الأصول وهذا هو ما يميزها عن غيرها. والعلم واستخدام الأصول، ولهذا العلم قيمته السوقية والانتجاية حيث تمنح العالم فرصة استخدام منتجاتها، ولا تمنحها حق انتاجها، وكان لهذه المخترعات أهميتها في نقل ثقافة الحضارات المتقدمة وقيمها وإنسانيتها إلى المجتمعات الريعية المستهلكة، وقد بدأت مجتمعات هذه الدول المستهلكة تقارن بيولوجيا وجينيا وإنسانيا وثقافيا بينها وبين الأخر، وبدأت تبحث عن القيم الذي ميزت حضارات العالم المتقدم، وأسباب تخلفها، وأخذت في تحليلاتها مذاهب شتى، فمنها من ترى تخلفها بغياب إنسانية النظم والقيم والمعتقدات، ومنها من ترى تخلفها بسبب الإدارة السياسية، والبعض الأخر يربطها بالبيولوجيا، أو الجغرافيا أو الثقافة المهيمنه، ونشأت عدة تيارات في العالم الإسلامي، تيار يدعو إلى التقليد الأفقي بالتخلي عن الثقافة وقيمها، وتيار يدعو إلى التقليد الرأسي بالعودة إلى أصوليات المعتقدات والمذاهب ، وأخر يدعو إلى الأصولية العليا وأصوليات الأنسنة والعقل الأول، بينما تيارات أخرى ناشئه تدعو إلى الإلحاد والعنف، وممعتقدات تدعو إلى التقليد والعنف، ، وتعدد هذه الظواهر مع العامة، الذي أصبح مثقفا بالماركات العالمية، في أعتى سفاهة استهلاكية عربية على مستوى الفكر والتعليم والثقافة والتقليد.
والفرق بين أساتذتنا وأساتذتهم أن الأستاذ الغربي يتميز بحياته البحثية ولا يتقدم للتدريس في الجامعات والمدارس إلا عبر مباريات منهجية ويخضع لسلسلة من التأهيل المستمر في كل عام تتجدد برامج التأهيل المدفوعه من أجل تحسين مكانته في العلم من أجل مجتمع يرتقي بالإنسان ويرقى به، والبرامج يعمل بها بما في ذلك مدارس الحضانة؛ فالباحثون فقط هم الذين يمتلكون الأدوات المعرفية للاستمتاع بالحياة ومواصلة البحث والتعلم.. وأكثر منتجاتهم المدونة ومؤلفاتهم تستمر أثناء ممارساتهم التعليمية وخلال فترات التقاعد ليتفرغ بعدها للعمل التطوعي ويصنع مؤسسات وطنية قد تتحول إلى نموذج مؤسسي مرتبط بإدارة الدولة أو ينحو بقية عمره للكتابة والبحث وتدوين معارفه وتجاربه، أو بالتطوع في المؤسسات الاجتماعية.. فالحياة لديهم رسالة ومتعة .. عكس حياتنا المليئة بالعنف والفقر والشقاء.. هنا تكمن إشكالية الدراسة وهو ما يجب على الجامعات الكشف عن حلولها بالبحث عنه ..وإدارته .. مع يقيني أنها بذاتها إشكالية وأزمة معقدة تحتاج للدراسة، حتى تكون مؤهلة لدراسة بيئتها أو صناعتها.
ومع التقدم الغربي وثراء البيانات والنظريات والمعارف، أصبح التخصص من السياسات التعليمية ومعه تدرس علوما مكملة لوجوده .. أما عند قراءة المحتوى العربي نجد أن الطالب يخرج من الجامعة كما خرج من المدرسة ويخرج من هذه كما خرج من البيت يحمل معه القراءات والكتابات المتعثرة وما تلبث الجامعة المعاقة أن تمنحه شهادة التخرج كمتخصص في فن من الفنون وعلم من العلوم، مدمرة للفكر والسلوك والصحة والتنمية.
بهكذا تمنحه ليس بما لديه ولكن بما أضاعه من وقت في مراتعها المسرحية أو …. وفي الحقيقة يبقى تعلم الفرد كحصيلة ذاتية في ظل هذه المؤسسات التعليمية التي تتسول وجودها وتفرض شريعتها بما لديها من قيمة وظيفية وتهدر وقت الطالب من جهة كما تستنزف قيمه وماله وأخلاقه..
.. ومن ثم فإن ما أنفق الطالب على التعليم في هذه المؤسسية لا بد أن يعوضه من هنا تشكلت ظاهرة الموظف.. وظاهرة المثقف.. وظواهر الاستبداد والفساد والرشوة.
في العالم العربي فقط يخرج الطالب من قريته أو منزله يحمل قيما أخلاقية لأن البيئة العربية وخصوصا القروية تحافظ على تلك القيم بالعادة، ويحمل الإيمان والرحمة والتعاون بالفطرة، قبل ان يؤدلج وينحرف في سياقات عقدية وحزبية، وقد يكون في دولة منطوية عن العالم تحمل قيما قد تكون غير مكتملة.. فيعود من جامعته ومدرسته محروما من العلم الحقيقي الذي خرج للبحث عنه وبين أدرجها أضاع قيمه التي خرج بها.. القيم التي خرج للبحث عن كمالها فأضاعها وابتلي بنقصانها.
في الزمن السابق وخلال معاشرة للآباء لم يكن الطلاق ولا التحرش ولا العنف ولا العقوق ولا الرشوة ولا السحت ولا الشذوذ ولا الجهل منتشرا.. ومع المؤسسات البيروقراطية التعليمية أصبحت هذه الأزمات التي انتجتها خلال عقودها من أهم موضوعاتها الإشكالية.
وفي المقابل فإن كليات الهندسة تستورد أدواتها، وكلية الطب تستورد مقتنياتها وكلية الصيادلة تستورد أدويتها، وكليات السياسة تستورد فلسفتها، وكلية العلوم الإنسانية تستورد ثقافتها وكلية التربية تستورد مناهجها.. وكلية الشريعة تستورد قوانينها، وكلية الإدارة تستورد نظمها، وكليتنا العسكرية تستورد أسلحتها، وكلية الزراعة تستورد غذائها، وبالجملة فإن مؤسساتنا السيادية تستورد قرارتها والمؤسسات الأمنية تبحث عند الآخر عن أمنها..
تتحدث الجامعات عن الرشادة في الانفاق والاقتصاد في الوقت التي تهدر أوقات الطلاب وأموالهم بسياستها التعليمية والبيروقراطية، وتتحدث عن المواطنة والرسالة التعليمية في نفس الوقت التي تمارس سياسة التعبئة والحزبية والانحراف عن الأصول العلمية، تتحدث عن الأخلاق والقيم، وبداخلها تنتهك أعراض الطالبات وتغتصب أموال الطلاب بإذلال، وتتحدث عن الأمانة العلمية وحماية الحقوق الفكرية في الوقت الذي يستخدم سلطته لسرقة بحوث وسرقة جهودهم ونشرها باسمه، لو قمنا بمراجعة ما كتبه الكثير لتبين لنا الغث من السمين ..والحق من الباطل.
تتحدث المؤسسات التعليمية عن التنمية والهوية والوطنية.. والبطالة، في الوقت التي تعرقل مسيرة العقل الوطني وتهدر الموارد البشرية وتمارس التعبئة وتقتل في روح الطالب قيم الفكر والهوية.
تتحدث المؤسسات التعليمية عن الكفاءة والجدارة والاستحقاق، وهي فاقدة للأصول العلمية الحاكمة ومعايير التعليم وقياساته المنهجية والتنموية.
تتحدث عن شحة المورد وضعف بنية التعليم وتستثمرها بإنشاء مؤسسات تعليمية تجارية وتؤسس معاهد تدريب خارجية أو تستعين بها.. في أكبر دلالة على أنها تفتقد دورها في التعليم.. تتحدث المؤسسات التعليمية عن أزمة التعليم وهي الأزمة الكبرى المعوقة للحضارة المادية والأخلاقية.. تتوسع أبنيتها ولا تتطور في فكرها وإدارتها ومنهجها وسياستها ومحتواها..
وكل ذلك يؤكد لنا أن السيادة والنظام والدولة مفقودة وأن مؤسسات التعليم من حيث رسالتها ووظيفتها ليس أكثر من أدوت معوقة للتقدم الإنساني والحضارة والأمن والاستقرار والتنمية.
لقد كان لنا في الماضي حاضنة أسرية بالفطرة ينشأ فيها الطالب قويا مع بيئته، خبيرا بصنوف المهن القروية مكينا في قراءته وكتابته .. ومع مؤسساتنا التعليمية فإن الأسرة والمرأة والطلاق من أهم القضايا الاجتماعية والنفسية.. كانت لدينا زراعة محلية غير مستوردة وأدوية طبيعية وهندسة تقليدية ومع مؤسساتنا العلمية يستورد كلي شيء ونستأجر الشركات الاستثمارية الدولية لبناء مؤسساتنا وسدودنا وشق طرقنا واستخراج ثرواتنا ومواردنا الطبيعية الترابية والبحرية..
وفي المقابل فإن الفساد والعنف والجريمة من أهم القضايا الإدارية السياسية والاجتماعية ومن أهم الموضوعات البحثية التي تتناوله مؤسسات التعليم المعاقة للبحث عن المعوقات..
في أسوأ تاريخ للتعليم العربي لم يرتقي الى مستوى التعليم البدائي في أخلاقه ولم يصل الى أخمس أقدام علوم النهضة الأولى بمظاهر