من قضايا التربية والتعليم: مهارة الحفظ ومساهمتها في حذق العربية: الواقع والمأمول

0 17

الدكتور الحسن بنيعيش

       مهرَ الشيءَ و تمهّر فيه وبه يمْهرُ مهارةً: أحكمه وصار به حاذقاً فهو ماهر متمهّر. ويُقال: مهر في العلم وفي الصناعة وغيرها أصبح حاذقاً فيها، متقناً لها… هذا نحوٌ ممّا تمدّ به اللغة العربية في معاجمها قديماً و حديثاً. وتعني المهارة في الاصطلاح الخصائص التي يتميّز بها الفرد الذي يتصرّف بلباقة وإتقان في أدائه لعمل ما، وهي أيضاً قدرةٌ على أداء عمل معيّن ومواصلة النشاط فيه بفعالية أو القدرة على القيام بعمل حركي معقّد بدقّة عالية وبقدر كبير من النجاح في أقلّ وقت وجهد ممكنين.

       وللمهارة ــ من خلال عديد الصّنافات والبحوث التربوية ــ علاقة وطيدة بمفاهيم أخرى لصيقة بها كالاستعداد والقابلية والنشاط والملكة والخبرة… إلخ. وهذه المفاهيم جميعها في تفاعل مستمر، فلا استعداد بدون قدرات، ولا كفاية بدون استعداد، ولا خبرة بدون كفاية، ولا مهارة من غير أنشطة وخبرات وهكذا دواليك. وتتحقق المهارة استناداً إلى “معجم علوم التربية” عبر ثلاث مراحل أساسية:

أ ـ مهارة التقليد: انطلاقاً من المحاكاة وتتحقّق غالباً بالتعلّم الإشراطي.
ب ـ مهارة الإتقان: وتُنمّى عن طريق كثرة التدريب و التكرار.

ج ـ مهارة الابتكار: عبر الجهود الشخصية الموجّهة بوحي من العقل والاجتهاد.

      كان الحفظ (المحفوظ من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر والأمثال والحكم والمتون اللغوية والدينية وحتى الأناشيد…) مهارة يُعتنى بها في السياق التعليمي من الكُتّاب إلى الجامعة. وكانت المحفوظات عبارة عن قطع أدبية قصيرة من الشعر أو النثر يدرسها الطلاب خاصة في المرحلة الإعدادية والثانوية ويُحملون على حفظها واستظهارها، أو حفظ جزء أو أجزاء منها بعد الدراسة والفهم والتحليل.

        لاشكّ أنّ هذه النصوص المسخّرة للحفظ تحبُل بثروة لغوية وفكرية وفنية تعين الطلبة على إجادة التعبير وفهم الأساليب الأدبية وتذوّقها من خلال صورها الأدبية  وتعابيرها الماتعة مثيرة فيهم نوعاً من الحماسة والهزّة، ولا يُنكَر فضلها في توسيع الخيال وتحريك الوجدان وتقويم الأخلاق عبر القيم السامية والمقاصد النبيلة التي تحملها سيما وهي في عمومها ترتبط بمناسبات دينية وطنية قومية وإنسانية…شكّلت لدى الطالب شخصية رصينة متوازنة تلمّ من كلّ فنّ بطرف، وتستشهد بالدليل النقلي والعقلي في المجالس والمنتديات تبهجها وتزيدها نضارة وهزّةَ طربٍ سالكة في ذلك لغة راقية، فيها من الفصاحة والبيان ما يؤهّل صاحبها للأخذ بناصية العربية حاذقاً بقواعدها مُتمهّراً  في أصولها فقيهاً بأسرارها مأسوراً  بأعلاقها.

العوامل الميسّرة للحفظ:   

         إنّ سهولة الحفظ مرتبطة بأُسس لغوية ونفسية دقيقة، فحفظ الأشعار والنثر المسجوع أسهل بكثير من حفظ النثر. و لصاحب الإمتاع والمؤانسة لطائف وعجائب في هذا الباب.

        كما أنّ الكلام المفهوم أسرع في الحفظ من الكلام الغامض المبهم المعقّد الذي يجفوه السمع وتنفر منه النفس ويخالف الطباع والميول. وما يصل إلى الذهن بأكثر من حاسّة يكون حفظه أسهل، لذلك كانت رؤية النصوص وسماعها عند الإلقاء فضلاً عن عملية التكرار تسهّل العملية وتعين عليها.

         هكذا يكون التكرار والفهم وحسن اختيار النصوص والإرادة الصادقة والعزيمة القوية من بين العوامل المساعدة على الحفظ. وليس يقصد بالحفظ ما كان على طريقة الببغاوات يأتي على الأخضر واليابس، وليس الحفظ مرتبطاً بمواد دراسية أو شعب بعينها كما يزعم الكثيرون، بل يخص كلّ الموائد العلمية من أدب وعلوم وفنون وتقنيات…ويزكّي هذا الرأي أنّ حفظ قواعد الصناعة ـ أيّاً كانت ـ سبيل إلى إتقانها ما دام هذا الحفظ مقروناً بحسن الفهم والضبط، فكلّ مُبهم يصعب حفظه أو لا يحفظ أبداً كما تقدّم.

          وليس بغريب أن يتناول علماء العربية ظاهرة الحفظ ويسهبوا في الحديث عنها وهم أصحاب ملكة وفطنة وذكاء مع غزارة في المحفوظ ورجاحة في العقل وفورة في القريحة. رُوي في دواعي الحفظ ومدح الحافظين وذمّ النّاسين أو الغافلين قول يحيى بن خالد:” الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون”. وبعكس ذاك وصف أحدهم رجلاً فقال: ” كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال له، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدّث بغير ما يكتب”، وقول الشعبي: ” لو أنّ رجلاً حفظ ما نسيتُ كان عالماً” وقالت العرب قديماً: ” حرف في قلبك، خير من ألفٍ في كتبك” و ” لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي”.

أشهر طرق الحفظ:

        أشارت معظم المصنّفات التربوية والتعليمية إلى أبرز طرق الحفظ مثل طريقة الكلّ وهي أن يحفظ الطالب القطعة أو النص كاملاً دفعة واحدة. ومن حسنات هذه الطريقة تثبيت النصوص في الذهن بشكل مترابط متآلف متجانس. وطريقة التجزيء كأن يُحفظ النص الشعري عبر مراحل بيتاً بيتاً أو بيتين بيتين، أو وحدة وحدة… وهي طريقة مثلى مع النصوص المعقّدة والصعبة أو الطويلة.. وهناك طريقة الجمع بين الكلّ والتجزيء، إمّا انتقال من الكلّ إلى الجزء حيث الحفظ الشامل مع العودة إلى الأجزاء الصعبة تركيزاً وعناية أكثر. أو انتقال من الجزء إلى الكلّ فتحفّظُ النصوص جزءاً جزءاً قبل الربط الكليّ والشامل. ولعلّ أمتع الطرق في التحفيظ طريقة المحو التدريجي وذلك بمحو بعض الأجزاء          ( كلمات، أبياتاً، جملاً وعبارات…) بشكل فيه تدرّج يبعث على التشويق والحماسة وإثارة المنافسة بين المتعلمين  إبرازاً  للقدرة على الحفظ السريع وتحريك الذاكرة. هذه الطرق وغيرها ممّا أورده الأستاذ عبد العليم إبراهيم في كتابه ” الموجّه الفني لمُدرّسي اللغة العربية”.

       الملاحظ في المدرسة في العقود الأخيرة أنّها تبرّمت من الحفظ وقلّصت من الحيّز الخاص به فصار عموم الطلبة وحتى بعض المدرّسين والأكاديميين، إلا نفراً منهم، يعانون نقصاً ملحوظاً في محفوظهم متدرعين بعلل واهية وحجج باطلة وأراجيف لا تصمد عند الممارسة باعتبار العصر عصر التقنة وغزو الفضاء والثورات الرقمية…وبعضهم صُرف عن الحفظ إلى أمور إدارية أو تكوينية أو هموم الحياة وانشغالاتها بعدما كان يحفظ ما شاء الله في المرحلة الابتدائية والثانوية وحتى الجامعية، فنسي بعد اذّكار ، فاعتصر قلبه الندم على ما فرّط فيه.

          ولأمر ما تمّ تغييب المحفوظ كليّاً أو جُعل النظر إليه بشيء من الازدراء والاستخفاف، فنشأت أجيال أحاط بها الجهل من كلّ جانب. يُسأل الطالب في أمر ما فلا يحار جواباً ولا يجد للاستشهاد والدليل سبيلا، صيّرته صناعة الجهل آلة عجماء.

         لابد من إعادة الاعتبار للمحفوظ في صفوف الطلبة  والناشئين خاصّة، وحفزهم  على ذلك ــ وهم عدة المستقبل ودعائم الغد ـــ صقلاً للأذواق وإرهافاً للأحاسيس والمشاعر وبناء للشخصية المتوازنة التي تدرك من خلال ذلك ما كان عليه السلف الصالح ربطاً للحاضر بالماضي واستشرافاً لمستقبل  زاهر تكون فيه  العربية حجر الزاوية مع تعزيز حضورها لغةً مشرقة في تجليات الواقع المعيش بأدقّ تفاصيله حيث كانت لغة علم، وعنوان حضارة زاهية قادت أمم الأرض نحو الرقيّ والازدهار الذي تتسربل فيه إلى الآن.
                و انطلاقاً من مقولة “كلّ إناء بالذي فيه ينضح”، ترى حافظَ القرآن الكريم ونصوص الحديث الشريف والمتون الدينية واللغوية وغيرها بضبطٍ وإحكام رواية ودراية يتفتّق لسانه عن ذخيرة لغوية وكنوز فيحاء من اللسان العربي المبين سماعاً وقياساً، ويكون لذلك أثر حميد في تعزيز وصقل قدراته التعبيرية والتواصلية بناء على رصيد معجمي ثريّ زخّار.

           إنّ السياسة التعليمية المتّبعة في الوطن العربي تكاد تنحو نحواً واحداً تسير في فلك الإملاءات الخارجية التي تحاول التنميط والتسليع والسعي إلى إنتاج عقلية القطيع: النسخ فيه متشابهة والعقول متبلّدة مُقلّدة. تتجلّى بعض الآثار الهدّامة لهذه الإملاءات في حذف بعض المواد من المقررات الدراسية أو تقليص معاملاتها أو غلافها الزمني أو تشويه معالمها أو إلغاء المحفوظ والاستغناء عنه… كما هو الشّأن مع التربية الدينية واللغة العربية التي يعي الجميع حجم ما يُحاك ضدّها من دسائس عبر مختلف المنابر الإعلامية والفنية والثقافية والسياسية بأقلام مأجورة تغذي مهاجمتها ومحاولة النيل منها…

        كلّ ذلك يستلزم نقداً رصيناً يطرح مشكلة التعليم ومناهجه ويعيدها إلى الواجهة باستمرار في أفق السمو بالممارسة التربوية نظراً وتطبيقاً نحو آفاق أنضج ورحاب أسلم، بعيداً عن جميع المزالق والإكراهات والتوجّسات..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.