د. جمال الهاشمي
يستصحب الفكر منطق آخر غير منطق المعول وقديما كان الفكر ينحت أو يغرف نظما أو نثرا، وبينهما يختلف الجهد؛ فالنحت اتقان بجهد والغرف هبة باتقان وعلى أساس ذلك برزت المساواة الطبقية في كثير من العلوم، والطبقية في منطق الحضارة منطق علمي وليس منطق بيولوجي شوفوني هرطقي يقوم على فكرة السلالة المقدسة
لأن منطق البيولوجيا متغير تابع لمنظومة الأخلاق والقيم والمعرفة، فإن خلت البيولوجيا من هذه الثلاثية كانت قمعا خاويا لا وزن ولا قيمة له .
كانت الطبقة تعني رتبة معرفية وليست رتبة بيولوجية لأن في الأول فلسفة التقدم وفي الثاني فلسفة التأخر وبهذه المنازل كانت الحضارة العربية تأخذ مراكز نفوذ تتلاشى في جهة وتنمو في جهة أخرى.
وبالنظر إلى المراكز يمكن تقسيمها إلى مراكز إشعاع مؤسس ومراكز إشعاف مفلسف والخارطة تتوزع بين خارطة التاريخ وفيها تقاسيم الفكر ووخارطة الجغرافيا وفيها تقاسيم الفعل.
ما يحمله التاريخ لقراءة صيغ الوضع يحمل مقدمتين ونتيجة إذا كانت كانت خارطة الفكر صحيحة وخارطة الجغرافيا مناسبة كانت النتيجة صحيحة وفي المقابل إذا كانت إحدى المقدمتين خاطئة والآخرى صحيحة كانت النتيجة أكثر سلبية من كون حال المقدمتين خاطئتين.
لأن صناعة الفكر يولد في بيت الحكمة.
وصناعة الفعل يولد في السوق.
والعلاقة بين المقدمتين تستدعي ولادة معطيين الأول في إرادة الفكر والثانية في إرادة الفعل وفي هاتين نجح منطق الربط بين النخبة والعمال. أو السلطة والمجتمع أو القيادة والشعب وعند العودة مرة أخرى للنظر في المقدمتين نجد التخلف في اختلال مواقع الإرادتين.
وعندما تتموضع إرادة الفعل في مواضع الفكر تبرز المظاهر ويتعاظم الاستهلاك وتهدر الثروة البشرية. أما عندما تحل إرادة الفكر في إرادة الفعل يبرز التخلف والجهل والتقليد وتهدر الثروة الطبيعية وحلول ذلك يبدأ بإعادة رسم المواقع واختيارها.
هناك ابداع بالنحت وأبداع بالموهبة وهذه الأخيرة والإثنين يموتان في اختلاف المواقع ولا يوجد البيولوجيا عروقا تتميز عن عروق بالتقدم والآرية والتحضر وإنما هناك تميز في الأسر والمجتمعات والدول والفشل والنجاج صناعتين أفقية شمولية وهنا قصة الحضارة المجتمعية، وصناعة سياسية وهنا قصة صناعة السلطة والمجتمع هو عنوان الحاكم والحاكم عنوان المجتمع صفة بصفة وحال بحال وفكر بفكر.
عندما تتناقض الصفات على الأغلب يحدث أمران:
- أمر التغيير السلبي: وأبلغ تفسير ورد فيها قوله تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا”.
القاعدة الاجتماعية تبدأ من داخل المجتمع وهي قاعدة شمولية تقول: أن السلطة أبدا لا ترقص بدون دفوف المجتمع، والمجتمعات لا ترقص دون شاكلة السلطة، وهذه مقدمة العنف الكامن.
- أمر التغيير التنازعي: وأبلغ تفسير لهذه القاعدة قوله تعالى: “وتنزع الملك ممن تشاء” والمعادلة تحدث ضمن صراعات القوى في الداخل يأخذ منطق الصراع بين القيم وكلما تسارعت خطوات الدولة نحو الفقر كانت القيم مظلمة والعنف أظلم.
ومن مؤشراته انحطاط التعليم وفساد القيم.
- أمر التغيير الايجابي: وهو فلسفة الإصلاح التي قامت به ملوك الخير و الأنبياء في التاريخ وثورات أوروبا الإصلاحية بقيمها البروتتسانتية والعقلانية.
لنقف على حال الكثرة والقلة:
في عصر التعليم المعاصر المتسارع شكل التعليم العربي تضخما قياسا على قاعدة العرض والطلب.. هذا التضخم في فلسفة السوق الأولى لعصر البروتستانتية التي أقامت دولة أمريكا والانجيلية التي أقامت المملكة العظمى ووفقا لفلسفة السوق الإسلامية التي أبرزت اشعاعا حضاريا عالميا من دمشق الى بغداد إلى الاندلس أوجد ظاهرة الألقاب العلمية الفارغة.
أخذ العلم منطقا فلسفيا استهلاكيا بمعنى أن التعليم ظاهرة اجتماعية يندرج تحت فلسفة الأنا المتفشية أو الطاؤوسية، وهو يتلازم مع منطق الظهور أو النفوذ الاجتماعي كحالة مرضية انعكاسية نشأت داخل المجتمع ويتنافى مع منطق التواضع والأخلاق كنتيجة من نتائج العلم والمعرفة.
والتسارع الذي يعني مسابقة الزمن يشير إلى أزمة نفسية كامنة داخل السلطة التي تبحث عن التقدم بمظاهره لا بأسبابه أو المجتمع الذي يواكب التقليد في التقدم. ويقاس وعي المجتمعات وعلميتها بالنظر إلى ملبسها وأثاثها وتصرفاتها، ومظاهر التنمية بالنظر إلى جنسيات الشركات داخل الدولة، إلى مراكز البحوث بالنظر إلى السلطة السياسية.
فهي مؤشرات بدائية لكنها في علم المنهج من الفرضيات العلمية.
- أمر التغيير السنني: وهنا ردة فعل منطق القدرة السلبية وأبلغ تعبير يشير إليه قوله تعالى “حتى اذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس”.
وهذه التغيرات لا تكون إلا بحروب مستمرة وخوف وفقر ومرض وأوبئة، لا تتحقق الإصلاحات مطلقا ما لم يُعد البناء على أساسه ويقوم البنيان على أصوله.
