معالم الفعل الأخلاقي

0 17

د. محمد المرابط

أستاذ الفلسفة وباحث في الفكر الإسلامي.

لقد اهتم العلماء والفلاسفة والمفكرين والأدباء  بـموضوع الأخلاق اهتماما بالغا في جميع الثقافات والحضارات، كل على حسب تصوراته للحياة والكون والله والدين، لكني سأركز على الأخلاق في المجال التداولي العربي الإسلامي. والقارئ للتراث الإسلامي سيجد أنه حافل بالمؤلفات في الأخلاق، إما بمنهج خاص واضح يتناولها الأخلاق على وجه الحصر والتحديد، أو بمنهج الموسوعية أي دون تحديد فن أو قضية، فتكون مسألة الأخلاق مبثوثة في الكتب.

وعليه ،

  • ما مفهوم الأخلاق؟
  • وهل للأخلاق أصول في الأصول الإسلامية ؟
  • وما مدى تفعيل الأخلاق في الفعل الإسلامي ؟
  • الأخلاق في اللغة:

 إن الناظر والمتأمل  في معاجم اللغة  في المجال التداول العربي، يجد أن الأخلاق: جمع خلق، والخلق في اللغة يعني: الطبع والسجية ([1]) والطبع والسجية يتعلقان بالنفس ، ويظهر آثارهما في الفعل القولي والعملي أو هما معا، وعلى هذا اعتمد علماء الإسلامي في بناء التعريف الاصطلاحي للأخلاق.

وقبل الحديث عن الأخلاق في الاصطلاح، سننظر في القرآن والسنة وطبيعة تواجد الأخلاق فيهما.

  • الأخلاق في القرآن:

 ان القارئ للقرآن والمتأمل فيه يرى انه أعطى للأخلاق مساحة واهتماما كبيرين، بطرق مباشرة وغير مباشرة، تصريحا وتلميحا، فقد وردت كلمة “الخُلُق” في موضعين:

 الموضع الأول:  يقول الله تعالى : على لسان قوم هود: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ﴾ ([2])

والموضع الثاني:  قوله – جلَّ وعلا – مخاطبًا سيد الخَلْق محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾([3])

  • الأخلاق في الاصطلاح:

  اختلف العلماء والمفكرون في تعريف الأخلاق فعرفها العلماء في الاصطلاح: بتعريفات متعددة  ومتنوعة، ومن أهمها:

تعريف  الجرجاني:

 يعرف الجرجاني الأخلاق  في كتابه: “التعريفات”  بقوله:
  “الخلق : عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعًا بسهولة، سميت الهيئة: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة: خلقًا سيئًا ([4]) ، وتبعه في ذلك جل من جاء بعده، وليس هناك زيادة إلا في الشرح والتوضيح، وقد تجد الاختلاف عند دراز “دستور الأخلاق”، وكذا عند الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتابة “سؤال الأخلاق”، لا يسمح المقال للبسط فيها.

2- أصول الأخلاق الإسلامية

والأخلاق الإسلامية لا تنفصل البتة عن الدين من جهة كونه نظاما كليا يمتثل إليها المسلم، باعتبارها أوامر ملزمة في القول والعمل ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة،  في العلاقات الفردية، الجماعية، الاجتماعية، والسياسية، الاقتصادية.

وذلك واضح ومؤصل في القرآن الكريم ، فقد أعطى القران للأخلاق مساحة كبرى ، في جميع مستوياتها وصورها الفردية والجماعية الذاتية والغيرية ، ففي البداية جاء القرآن ليقطع مع ما كانت قبل من الأخلاق السيئة المستشرية في المجتمع والسياسة، من  ظلم وبغاء وطغيان، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في أكثر من حديث.

يقول أبو بكر الطرطوشي في كتابه: “سراج الملوك “ وهو يتحدث عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم   ” لم تحتو الأرض على بشر أحسن خلقاً من محمد صلى الله عليه وسلم، فكل من تخلق، بأخلاق رسول الله أو قاربها كان أحسن الناس خلقاً وكل خلق ليس يعد من أخلاقه فليس من حسن الخلق”([5]).
وكان خلق النبي صلى الله عليه وسلم  القران  كما جاء على لسان عائشة رضي الله عنها والتي عاشت معه الحياة الخاصة والعامة ، وهو الذي يقول “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”([6]).

لكن ما طبيعة هذه الأخلاق ؟ يجيبنا  الطرطوشي  عن هذا السؤال وهو يتحدث عن أنواع الأخلاق “الوضعية ” التي استحسنها بعض الناس لأنها توافق هواهم والأخلاق النبوية ، فيقول: “استحسنوا الأخلاق العامية واستخشنوا الأخلاق النبوية لجهلهم بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. وها أنا أتلو عليك من أخلاق الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم والأولياء والأصفياء والعلماء والصالحين، نرجو ما نرجو أن ينفعنا الله وإياك به. قال الله تعالى لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فخص الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من كريم الطباع ومحاسن الأخلاق من الحياء والكرم والصفح وحسن العهد”([7])

3- الفعل الأخلاقي في العمل الإسلامي

 إن  الفعل الأخلاقي يتجلى فيما جاء عن عائشة رضي الله عنها عشرة: صدق الحديث، وصدق البأس في طاعة الله، وإعطاء السائل، ومكافأة الصنيع، وصلة الرحم، وأداء الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء ([8]).

فالأخلاق الإسلامية ليس أخلاقا نظرية ذهنية أي التغني بها وترديدها، لا،  بل هي قانون فعلي، يتماشى ومطالب الإنسان في العيش الطبيعي، والتعايش الإنساني الذي يقوم على الاحترام المتبادل.

وتفسد الأخلاق باتباع الهوى ، والجهل بأصولها الحميدة ، النافعة للفرد والأمة والدولة ، والفساد  والصلاح ينطبق على كل الناس  في جميع مستوياتهم الفردية والجماعية ، وصور مقامهم (أب ، معلم ، وزير ، رئيس، .حاكم…)، وما يهمنا هنا “الحاكم” لأنه يعمل بمن وما معه على رعاية مصالح الأمة ، الذي  يوجب عليه أكثر من غيره ، ألا يعاشر السفهاء والمفلسين أخلاقيا ، حتى لا يصبح سفيهاً فاسد الأخلاق والطبع والفطرة ، يقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء. وقيل الخلق السيئ يضيق قلب صاحبه لأنه لا يسع فيه غير مراده، كالمكان الضيق لا يسع فيه غير صاحبه”([9]).

 وبناء على هذا ، فعلى الحاكم قبل غيره أن يختار من يجالسهم ويشاورهم، من أهل العلم والفضل والنصح والتقويم ، حتى لا تفسد أخلاقه ، فالأخلاق الإسلامية  ليست شيئا مجردا ، بل هي روح العمل، الفردي والجماعي، بجميع صوره ، باعتبارها صيغة  أمرية، إلهية، شمولية، كونية بناء على ” ان من وراء أوامر الضمير الفردي، والضمير العام نظامًا أكثر صلابة منهما، هو نظام الفطرة الكونية الشاملة، بقانون سببيته الذي لا يعرف الهوادة، فهذه طريقة في العمل تؤدي إلى نهاية حسنة، وتلك طريقة أخرى تعود ضد صاحبها، ولذلك تنصحنا الفطنة الحكيمة بأن نحسب حساب النتائج قبل الشروع في أي عمل”([10]).

 الذي يوجب على العمل الإسلامي (الدول والجماعات والأحزاب والجمعيات والأسر والأفراد)، الخروج من إطار “الفطرة الساذجة” أو “الفعل الشارد”، إلى الفعل المسؤول  بالمعنى الحالي والاعتباري، على المسلم أن يكون مسؤولا في تفكيره وعمله وعلاقاته الفردية والجماعية . 

و”على أن هذه الاعتبارات الغائية لا يمكن من وجهة النظر الأخلاقية أن تنال صفة الشرعية إلا حين لا تحيد عن الواجب، بل تمضي بالأحرى متوافقة معه، طالبة منه المزيد”([11])

وبهذه الشروط، أليس من حق أية تربية حسنة أن تلجأ إلى مثل هذا الأسلوب أحيانًا، لدعم تعليمها؟ على هذا النحو، جرى القرآن في كل حال، وهو يذكرنا، بعدد قليل من الأمثلة، بالنتائج الطبيعية لسلوكنا، وهي نتائج مختارة من بين أكثرها عمومًا، وأكثرها واقعية وبقاء.” بحيث “تمثل معاقد الترابط الاجتماعي  كما يقول الميداني ، بين المسلمين وغيرهم .

ويجب لا نكتفي بالإعلان “عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزوِّدها بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر. وليس المقصود أن نقدم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدَّس، ولكن أن نحرر هذا الأخير من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه.بكلمةٍ واحدة، ينبغي العودة ببساطةٍ إلى روح الإسلام نفسها”([12]).

وعموماً فالأخلاق الإسلامية من أهم الظواهر التطبيقية للإيمان بالله واليوم الآخر كما يقول الميداني، وهي كذلك من أكبر العوامل الفعالة التي منحت المسلمين قوتهم الهائلة في تاريخهم المجيد”([13]).

المصادر والمراجع:

  1.  القرآن الكريم.
  2. أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ط: دار القلم – دمشق، الطبعة : الثامنة ، 1420 هـ – 2000 م. ص: 406.
  3. الأخلاق، لابن أبي الدنيا، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم، طبعة: مكتبة القرآن بمصر القاهرة، بدون تاريخ.
  4. التعريفات للشريف الجرجاني، ط: دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م.
  5. دستور الأخلاق في القرآن، لمحمد عبد الله دراز، ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة: العاشرة، 1418هـ / 1998م.
  6. سراج الملوك، لأبي بكر الطرطوشي،  ط: مطبوعات العربية  مصر، 1289هـ، 1872م.
  7. سنن البيهقي ، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها، رقم: 20782، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003م.
  8. لسان العرب لابن منظور، مادة: “خلق”،  ط: دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة ج 10، 1414 هـ.
  9. مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، لمالك بن نبي، ط: دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان، دار الفكر-دمشق سورية، الطبعة: 1423هـ = 2002م / ط1: 1988م.

([1])لسان العرب لابن منظور، مادة: “خلق”،  ط: دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة ج 10، 1414 هـ، ص86.

([2])(الشعراء: 137)

([3])(القلم: 4)

([4])التعريفات للشريف الجرجاني، ط: دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م ص 101.

([5])سراج الملوك، لأبي بكر الطرطوشي،  ط: مطبوعات العربية  مصر، 1289هـ، 1872م، ص: 145.

([6]) سنن البيهقي ، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها، رقم: 20782، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003م.

([7])سراج الملوك، لأبي بكر الطرطوشي، ص: 145.

([8])الأخلاق، لابن أبي الدنيا، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم، طبعة: مكتبة القرآن بمصر القاهرة، بدون تاريخ. ص: 26.

([9])سراج الملوك، لأبي بكر الطرطوشي، ص: 148-149.

([10])دستور الأخلاق في القرآن، لمحمد عبد الله دراز، ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة: العاشرة، 1418هـ / 1998م. ص: 408.

([11])المصدر نفسه.

([12])مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، لمالك بن نبي، ط: دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان، دار الفكر-دمشق سورية، الطبعة: 1423هـ = 2002م / ط1: 1988م. ص: 112.

([13])أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ط: دار القلم – دمشق، الطبعة : الثامنة ، 1420 هـ – 2000 م. ص: 406.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.