مستقبل اليمن مع المكونات والسلطة الشرعية
د. جمال الهاشمي
تنحو اليمن في سياسة مكوناتها من أجل تقسيم جغرافية اليمن كقيمة تاريخية متجددة بين مراكز النفوذ القبلية والدينية والمكونات المدنية حيث تعتبر الثانية (المدنية) رغم حداثتها قاعدة للأولى وهي الأكثر حضورا وتأثيرا، أو منفصلة عنها ومستقلة بذاتها وهي الأضعف وتحتمي غالبا بالسلطة الشرعية أو تتماهى داخل المؤسسات العسكرية، وهذا يجعل من المكونات الفاعلة ذات صفات وخصائص قبلية وعسكرية أكثر منها مدنية..
وأول خصيصة فيها أن القرارات الصادرة عنها فردية على الرغم من تعدد الوحدات داخلها.. فكل مكون مرتبط بجماعة أو شخصية واحدة يكون لها قرار الحسم في أي قرار.. وفي المقابل فإن الحكومة الشرعية ليست أكثر من وسيط معادلة بين هذه المكونات والنفوذ الخارجي فهي تسعى لمعالجة الاضطراب المضطرب وعدم وضوح الرؤية لها يبرز فيها ذلك التناقض التشظي داخلها..
هذه الصفات المبرزة هي صفات نفسية تربوية متراكمة لدى الشعب اليمني إذ أنه الشعب الوحيد الذي ارتبط تاريخه بالصراع والفوضى والأزمات.. حيث كانت الأزمات وسيلة من وسائل الارتباط بالخارج.. ثم الانفصال عنه ثم البحث عن رابط آخر وكل مكون يسعى لتحقيق ذلك الارتباط.. حتى أني بحثت في الآية الكريمة “ولا يزلون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم” فوجدت تفسيرها في تاريخ اليمن وواقعه.
كما أن ارتباط المكونات اليمنية المعاصرة بالمبادئ الوطنية مضطربة فمن أقصى اليمين الى أقصى اليسار ومن اليسار الى اليمين عبر عدة حلقات من التفسير السياسي للمكون ثم يتحول الكتمان السياسي الى مبدأ ومن ثم تتعدد في اليمن المبادئ المصلحية .. فالشريعة سعة كلها ويسر كلها في هذا الجانب، وتخالف المبادئ القديمة التي كانت ترتبط بقيم ثابتة لا تتحول إلا مرة وليس أكثر..
وإذا أخذنا صراع التجمع اليمني للإصلاح ذات المرجعية الإسلامية والإشتراكي ذات المرجعية اليسارية والحوثية ذات المرجعية الشيعية سنجد أن كل منهما في الطرف الأقصى المعارض للآخر .. وسنجد المصلحة تستبطن في “السرية، التقية، والكتمان” . فمن التناقض الى التحالف الى الاندماج ومن الارتباط بالسلطة والدفاع عنها عسكريا وإعلاميا وفقهيا إلى معارضتها عسكريا وإعلاميا وفقهيا.. ومن التكفير الى الإنكار ومن الاقتصاء الى التقريب.. ، ومن استبقاء المرأة في المنزل وتحريم خروجها الى ضرورة مشاركتها في العمليات الانتخابية والحزبية، ومن القول بالبدعة الى مقاربة الأخوة الدينية.. وكل هذه التناقضات أسست للشخصية اليمنية المؤسسية وشخصية النخبة المضطربة بين الشيئيات والمبادئ والقيم المتناقضة.
هذه المرتكزات الخفية هي التي تفسر سياسة المصالح بمعنى أن كل فصيل كان وما يزال يسعى لتحقيق المكاسب السياسية والإدارية من الآخر أو من خلالها كمدخل لغزو الآخر.. والأذكى في إدارة اللعبة يستطيع أن يحوز على مكاسبه وتبرير مواقفه واستغلال مواقف الآخر بالانقلاب عليه أو بإعادة الصراع مجددا..
طبعا لا وجود للشعب اليمني مطلقا فهو ينقاد بابتسامة ويشترى بضيافة، وغالبيته على الفطرة اسهمت الأحداث المعاصرة من فوضوية الوعي واضطرابه ..
فالسياسة في اليمن تقوم على ثقيمة ومادة وقوة هي:
- القيمة المادية: وهي التي تحرك ما بعدها أو تستعملها لتحقيق الفائدة الخاصة بمكوناتها الخاصة بمعني غياب المبادئ الواضحة لتحقيق سعادة وأمن واستقرار الوطن والمواطن .
- الملاسنة الإعلامية: وهي التي تحرك الأفراد نحو التحيز لفئة على الأخرى.
- القوة العسكرية: وهي التي تحدد معايير استحقاق المصلحة المادية وترتبط بها حسب قوة الدعم والمطلوب منها.
وبالتأمل لطبيعة الظاهرة سنجد أن الحوار مغيب عن الحكمة اليمنية وغدت ظاهرة اجتماعية والتقلب عليها مرهونا بغلبة هذه الظاهرة؛ إذ نجد الرئيس السابق علي صالح ومن قبله النظم السابقة كانوا يستغلون الحوار للانقلاب عليه ويوظفون التفاوض في الحالات الحرجة ثم يهلكون خصومهم .. وقد أسهمت هذه الظاهرة السياسية من تعميق ثقافة القوة والشخصية الحذرة ..القلقة، والمضطربة وخير ما يسجدها المثل الشعبي القائل “تغدى به قبل ما يتعشى به.
تكاد تكون هذه الشخصية هي صفة عامة في الوطن العربي ..كانعكاس للفعل السياسي العسكري خلال العقود السابقة..
من الطبيعي أن تكون الثورات أو استمرارها من أهم ظواهر الإستكبات السياسي وأحد مخرجات الأفعال المؤسسية القضائية والأمنية والحزبية وغيرها.. في هذا العالم المعاصر المنفصل عن قيم الحضارة والمروءة والمبادئ الثابتة، في هذا العالم الذي يتغنى الفرد بهذه القيم الضائعة التي تنقصه وتفتقر اليها مجتمعاته..
… كما أن سياسة تكميم الألسن ليس حلا ناجعا، لأن الكتمان الجبري حسب فلسفة الجبر لا تعمق الهوية الوطنية ولا الأخلاقية ولا الدينية .. لأن من أهم أبنية الثقافة و الهوية: التربية وليس التعبئة، الثقة وليس التخوين، لأن ثقافة العنف الفردي والمجتمعي والمؤسسي ينشأ عبر أداتي الكتم والتعبئة، وهذه من أهم مظاهر الشخصيات القبلية..
والعلة ليس في استمرار كتمها وإنما في انفتاحها لأن ذلك سيدفعها للارتباط بمكونات خارجية مؤثرة، كما أن ممارسة التصفيات خارج القيم العادلة وتهديد الخصوم نذير شؤم للنظام، وسيدفع بالأعوان للتخلي عنه في حالة التمكين لأنهم لن يشعرون بالأمن .. وكانت هذه السياسة قد برزت لدى الدولة العباسية وعليها نشأت .. ولهذا كانت الدولة الوحيدة التي قامت على اضطراب وتعايشت مع الاضطراب إلا في حالات الفتوحات التي كانت من أهم وسائل تجفيف المجتمعات من العنف المحلي ثم عادات مع توقيفها.
فالمظلومية هي القاعدة الأيدلوجية التي تبرر العنف السياسي بحجة الدفاع عن النفس أو القصاص لها، وقد نشأت مع نظرية المقاومة العربية ضد الاستعمار ومن ثم أصبح الاستعمار هو المفهوم التي استخدمته النظم السياسية لتصفية معارضيها .. وما تزال نظرية المؤامرة الاستخباراتية مستعملة لدى الدول الآمنة حاليا من الثورات وهذه ما يبرزه بشكل رئيس الظاهرة الإعلامية الالكترونية والإعلام الموجه للشعوب..
وقد أسهمت التعبئات الإعلامية من تشظي الشعوب وتعطيل لغة التواصل الآمن الذي يمهد للحوار وتنمية ثقافة التواصل والبناء.
وبناء على ما سبق فإن حل الصراع في اليمن لن يتحقق إلا بواحدة من إثنين:
الأولى: أن تبرز قوة متعددة القوى عسكريا واقتصاديا وسياسيا وإعلامية تفرض سلطانها على جميع المكونات بالقوة وتعديد تنظيمها وفقا لآلياتها التنظيمية المؤسسية وسيترتب عليها تغيير نظام الحكم باليمن من الجمهورية والديمقراطية الى الصبغة الملكية ..
الثانية: أن تجتمع جميع المكونات والنفوذ اليمنية للحوار المشروط بضمانات الثقة إن وجدت أو أن تحتفظ كل قوة بأسلحتها وتبدأ تطبيق أولويات نجاح الحوار في إعادة دور المؤسسات الإدارية والتنموية وفتح مجالات الأنشطة الحضرية والثقافية والإعلامية بلغة خطاب منهجية عميقة البناء لثقافة الهوية، ومحتويات دراسية تنموية عميقة لابتعاث قيم الهوية الحضارية والأخلاقية وقيم السلام والأخوة والتعايش والحوار..
ومن هنا ولضمان تحقيق الهوية الوطنية يجب أن توضع معايير علمية منهجية لتحقيق ذلك .. تكون مقدمة أولية وعلى مدى ثلاث سنوات من العمل وبعد ثلاث تتشكل لجنة مشتركة من جميع الأطراف بما فيها الحوثية والحراك لإعادة بناء مؤسسة الجندية الوطنية ..
وبدون ذلك فإن واقع اليمن سيكون بين حالتين لا فكاك منهما:
- استمرار الصراع والفوضى وتغييب التنمية والتعليم حتى تتعاظم قوة أحد الأطراف وتفرض سلطانها بالقوة وهذا لا نستطيع الوقوف لأن ذلك سيعتمد على عنصر القوة والعقيدة وتجنيد القبيلة.
- أن تستمر دول التحالف في دعم الشرعية لمواجهة سلطة الحوثية في صنعاء وسيكون له انعكاسات سلبية أمنية على الجزيرة العربية برمتها.. مستقبلا.. لأن الانتصار ليس له مؤشرات دالة على رجحان أحد الأطراف على الآخر.
- أن يدخل التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية بسياسة مصالحة واعتراف بالحوثية كمكون رئيس أو سلطة مستقلة في صنعاء وتجديد معاهدة على غرار معاهدة الطائف الأولى ..
- أن تنفصل اليمن بين عدة مكونات صغرى مدعومة خارجية إذا تشكلت فرضية أمر الواقع للمكونات العسكرية.. المستقلة بذاتها..
- أن يعاد وضع اليمن الى حالة التقسيم قبل الوحدة ومن ثم تحويل صراع المكونات العشوائية المنقسمة الى صراع نظامي بين دولتين معترف بها شرعيا.. وهذا التقسيم الأخير سيؤدي الى احتمالين:
- استمرار الفوضى والصراع بين المكونات وبعضها داخل كل قطر وسيصحبه حركات انفصالية جهوية أخرى ..
- أن تسيطر في كل قطر قوة وتعيد توحيد القطريين ومن ثم الدخول في صراع بين الدولتين بعد الانفصال على غرار الصراعات القديمة.. وسيكون صراع حدود أو الصراع من أجل الوحدة ..
وعلى الأطراف النظر في أقرب الحلول الى الأمن وأن يفتح المجال للباحثين والأكاديميين اليمنيين ومؤسساتهم الجامعية والبحثية للمشاركة في تقديم الرؤى التي تختار أخف الأضرار وانجعها وأصلحها للمواطن والمواطنة والدولة وأمن اليمن ومنطقة الجزيرة العربية التي لن تكون بمنأى من الصراع ..