كتاب عالم بلا معالم قراءة أولية في منهجية المفكر العربي المغربي حسن أوريد (توماس هوبز)

0 20

د. جمال الهاشمي

بعد إقامة ندوة علمية بعنوان “عالم بلا معالم: في برنامج قيم وحضارة برعاية مركز الإصباح للتعليم وعلى قناته الأكاديمية، والتي كان في ضيافتها السياسي والمفكر العربي – المغربي حسن أوريد أهديت هذه الكتاب النافع الماتع.

وكاتبه  شخصية فريدة في فصول النشأة والتكوين والوظيفة صقلته التجارب السياسية والثقافية، والأصالة والمعاصرة، . فمن أصول التنشئة الاجتماعية إلى تنشئاته الثقافية والتربوية و التعليمية إلى معترك السياسة والتوريخ والكتابة، ومن الوعي الاجتماعي إلى أوعيته الواقعية ومن الخصوصية إلى العالمية، ومن الوطنية إلى العولمة.

كل ذلك أسهم في تحديد كتاباته محددا بذلك قيم الحضارة لدى الذات والآخر ومحددات الفعل الاستراتيجي وطرائقه بين المفعول به والفاعل  .

ولأني عزفت عن قراءة كثيرا ما يكتب بلغتنا العربية وأنا من عشاقها لأسباب منهجية منها، غلبت التلبيس، والاجترار، وسيطرة القوالب الجاهزة، والتوليف والرصف. وجميعها تتعارض مع قيم المنهجية، ومنهجية التنمية، بدليل الرداءة المنهجية التي أوشكت أن تقتلع منابع العلم عن جذوره، وطمست معالمه. وبين خضم التيارات والتوجهات التقليدية المعاصرة والانفتاح الفوضوي بين الشرق والغرب وغياب منهجية الانفتاح، أعيد تشكيل شخصيتنا المجتمعية، وبلغت تفاهت المجتمعات إلى استهلاك ما لايستهلك وتقليد ما لا يقلد، وسيطرت العامة على قرارات الأمة، وبدأت السوسيال ميديا، هي القيادة التي تتحكم قرارات الدولة، بشاركتها أو تأثيرها على صناع القرارات السياسية العربية نظرا لغياب المؤسسية العقلانية أو مؤسسية البحث العلمي، وعلومه المنهجية؛ فالتذبذب المعاصر المسيطرة على أنظمتنا لم تعد مميزة أو متميزة عن مجتمعاتها في كثير مما يجب اعتباره والوقوف عليه.

وقد أكرمني المفكر العربي حسن أوريد بكتابه (عالم بلا معالم) ومنهجية القراءة لهذا الكتاب تستدعي الوقوف على ثلاثة منها:

قراءة النسق الوظيفي.

قراءة الجمع الدلالي.

قراءة الوعي التفعيلي.

ونحتاج لقراءة هذا الكتاب العميق إلى ثلاثة حشود: حشد التاريخ، وحشد الواقع، وحشد الربط، لأن الكاتب اختزل في هذا الكتابات عدة فرضيات بصيغ مختلفة، وهذا ما يفرضه طبيعة العنوان الإشكالي.

فهو ينطلق من المعالم الكاملة ثم يترقب تحركاتها ويفصل بين ذلك استدعاء الأدلة عبر مسرح التاريخ من الحديث الى القديم والعكس، وهنا تبرز شخصيته الموسوعية وغزارة الإطلاع وتنوع اهتماماته بالمفهوم الأوربي ذلك المثقف أو الفيلسوف الذي لا يكتفي بالنقل وإنما التحليل والتدوير والخلق والانتاج.

ولأني منشغل والاغتراب غربة وأيما غربة، فقد جعلت الكتاب رفيقي بعد انقضاء النهار.

تلك هدية من كاتب عميق وكرامتها أن تقرأ، ومن جميل خصال العلماء توعية الأمة وتربيتها على أصول العلم والموضوعية والمنهج.

أهداني الكتاب المعرفي المتعدد في أساليبه ولغته الرفيعة التي جمعت بين الأدب والمنهج والسلاسة والجمال، كما تميز  بالنظم العجيب ، والأسلوب الفريد ، والثراء العميق، ونادرا ما يتقن الباحث العربي بين فلسفة اللغة وفلسفة الفكر، وهو ما تميز به الكتاب.

وقد حباني وشرفني بكتابه واهداء مكون من ثلاثة جمل تختزل الكثير من المعاني، الممشوقة بنفائحها، والمشغوفة بنفائسها.

ويلفت  الكتاب  إلىأعادة تجديد منهجية الكتابة العربية ، وهي الكتابات التي تتميز بها المنهجية الغربية والكتابات الإسلامية القديمة.

وبهذا النظم  الفريد في سكب الكتاب وسبكه، ألفيت قواسم مشتركة  بين ما دعا إليه هنري كسينجر الحضارية، وبين معالم الفكر النهضوي الذي يدعو إليه هذا الكتاب،.

ذلك أن الأول انطلق من القيم الاجتماعية والمؤسسية القائمة في البيئة الاجتماعية الأمريكية إلى الوظيفة السياسية،  بينما انطلق صاحبنا من السلطة السياسية الى الوظيفة الاجتماعية.

يتكون الكتاب من  (343) صفحة كنيفة بمعارفها بحكم متوسط،  موزعة على (11)  فصلا، صادر عن المركز الثقافي العربي- الدار البيضا- المغرب.

يساق أسلوبه الممتزج نسق واحد لم يتغير من بداية الكتاب وحتى نهايته إلا ما كانت من اقتباسات منسوبة لأصحابها، وهذا الأسلوب يجمع بين لغة السياسي والأديب الأريب ولغة الواقع، وبهذا التنقل مع وحدة النص يجيش كل إمكانياته لتحديد معالم الهوية: هوية الفكر والسياسة والاقتصاد والقوة والجغرافيا والمجتمع.

بدأه بتوطئة رسمت خرائطه أحداث ووقائع  من الواقع الذي أخذ مبدأ المقاومة،  وهنا تتوزع  شخصيته بين المؤرخ والوظيفة الاجتماعية، والمفكر والمسؤولية السياسية، وبدأ حديثه عن  الواقع العربي بالبوعزيزي في تونس الحضارة، ذلك التاريخ المعرفي وليس السردي، الكامن الثائر في دول العالم.

هو التاريخ المتفجر عبر سلسلة من التجاذبات الشعبية و ثورات ألهبت المنطقة العربية؛ تداعت بعضها على بعض وما تزال تسجر الواقع بوقود الحاجة التي هي جزء من الوظيفة الاجتماعية العامة، ومعها بدأت  كوامن الفكر الواعي في بعض العقول وكانها تتربص بثورة أخرى مع ارهاصات النظم القائمة في التعاطي مع أزمة الوباء والاقتصاد والبطالة.

حشد المفكر الكاتب الواقع وكثيرا ما  استخدم التجسيد للتعبير عن الإحساس بالشيء، ذلك أن التكرار يفسر مدى غزارته وحجمه دون معالم، ثم يستدرك فيعيد ربط  حوادث العصر بمركزية التاريخ العربي  كعلاقة منطقية  بين التصور والماصدق.ولم يكتفي بذلك فقد أعاد رسم وقائع الحضارت المعاصرة بقراءة عكسية من الوجودية إلى الوجود السامي في الذهن؛ وهي قراءة  منهجية يتميز بها المفكر النبيه الذي يجعل ينسج منهجيته بين الحضارة والقيم والثقافة لتفسير الواقع بالفكر وتوصيف الفكر بالواقع.

فإذا كان البوعزيزي ملهبا للعواطف الإنسانية العربية من الذات الوجدانية الثورية وهو تعبير عن صفرية التردي التي درست الفضيلة والرحمة والإنسانية والعدالة، فإن جورج فلويد يهدد القيم الأمريكية الحاكمة.

الوظيفة الاجتماعية التي أشار إليها الكاتب هي أعادت فلسفة الحقوق الاجتماعية ليس من مدخل التوظيف السياسي للدين افي فلسفة النشأة الحداثية المعاصرة  ودورها في خلق التكامل الوظيفي بين الدين والسياسية؛ أي بين توظيف الدين كقيم مجتمعية وتاريخية والوظيفة السياسية الحاكمة في فلسفة توماس هوبز أعظم عمالقة النظرية السياسية الحديثة.

هذا العصف الكامن ووقائعه المتراكمة على الساحة الاجتماعية العالمية بين نظم عربية متشيئة تتحكم بها القوى الدولية عبر وسائط الترشيد الأداتي، وتفعل بها دون آية فاعلية مقاومة، وهذا الجمود في مركزية تمثيل القيم السياسية للدولة وانغماسها في علم الأشياء، ومباينتها لعالم الأفكار، ابتعث في مجتمعاتها  كوامن الوظيفة الاجتماعية المقاومة.

لكن هذه المقاومة العربية ما تزال متشتتة في فوضوية المفاهيم، الفوضوية الأيدلوجية التي كانت المسؤولة عن تجزئة الإنسان الجرماني بحائط برلين ذلك الشيء المادي الذي انطوى على ماددة الإنسان وتوزيعه بين أيدلوجتين متناقضتين تناقضا شيئيا.

ولغلبة الوظيفة الاجتماعية والتاريخية التي أعادت بنوية الأصل المعرفي تمكنت الشعوب من تجاوز الحاجز والتماهي  الذي أعاد تشكيل القيم السياسية، وبناء الأمة الجرمانية.

وبنفس السياق الواقعي يتداعى الواقع العربي والإسلامي في أيدلوجيات شيئية أطاحت بالمعرفة الأم أو الأصلية لأصول هويته وارادته ووجوده، هنا يفتح الكاتب باب الإرادة الشعبية على التاريخ، فالواقع يبدأ من التاريخ المعرفي، والإرادة تطرأ عليها حوادث تقاربها إلى التقارب المفاهيمي وتعيدها إلى الأصل المجتمع عليه بصيغه الوظيفية.

يضع الكاتب وباء كورونا كحدث عالمي يكشف عن حقيقة ما أخفاه العالم، تلك الأفكار التي أطرتها الحوادث وتلك الإرادات التي أعادت بها إلى مصادر الأفكار، وهنا تأتي العلاقة السببية بين عالم الأفكار وعالم الأفعال ودورها في ابتعاث الدينامية المجتمعية، تلك الإرادة التي تحرك التاريخ.

يرى الكاتب أن تداعيات العالم الثورية والوبائية غيرت مفاهيم التاريخ الحديث الذي يتمركز فيه الإنسان الغربي وقدراته المسيطرة على الطبيعة، والتحكم بالتاريخ، فالطبيعة التي حاول العلم التجريبي ووتقنيته فرض السيطرة عليها وفقا فلسفة ديكارت، بمعنى التحكم بالتاريخ من مدخل الأشياء، وخلال مسارات العلم الطبيعي برزت ايدلوجيات المخلص، وتفاحشت المعتقدات المهدوية، وادعى “الكسندر كوجيف أن أوروبا وصلت إلى نهاية التاريخ، وبلغت نهاية الإنسان، وأن روح التاريخ تسكن أوروبا كما سكن نابليون روح العالم.

ومدرسة نهاية التاريخ لم أخذت مذاهب جغرافية لكنها لم تخرج عن واحدية المعرفة لأوروبا المتعددة، إذ تجسد نهاية التاريخ مع المفكر الياباني فوكوياما الأمريكي الجنسية مع الولايات المتحدة، تلك الجغرافيا التي اختزلت فكرة نهاية التاريخ الأوربي لدى فلاسفة أوروبا بالديمقراطية والنموذج الأمريكي الجديد.

القيم الأمريكية التي هي جزء من الحداثة وأحد صنائع العالم الغربي برزت في ثقافة “كونداليزا رايس” وكأنها نهاية ما توصل إليه العقل البشري، مدينة الألفية والسلم العالمي في المعتقد الوظيفي للسياسة الكنسية.

هذه المهدوية في معرض تساؤلات الباحث حددت مسارات المعرفة الانعكاسية بين عالم الأشياء وعالم الأفكار من جهة،  وعالم المتغيرات، وعالم التحولات على الصعيد المجتمعي في الأول والدولي الشق الثاني، فالليبرالية الاقتصادية التي بشر بها فوكوياما  هي التي أعادت بروز الوظيفة الاجتماعية لمواجهة الفوارق الاقتصادية وتمركز المال بيد الشركات العالمية الكبرى، وهي التي أبتعث القيم الإنسانية لمواجهة خطر استنزاف الثروات الطبيعية وتهديد الحياة الإنسانية.

من الطبيعي في نظر الكاتب  أن تتحرك عواصف الاحتجاجات من اليونان إلى الربيع العربي ثم احتجاجات في اسبانيا وفرنسا وتشيلي وهونغ كونغ والأرغواي ثم موجة الربيع الثانية في العالم العربي. وكل هذه الموجات أفسدت نشوة الديمقراطية والسلم الأمريكي ذلك السلام الذي صُنع في مخيلة المثقف الأمريكي، لأن اختزال العالم في أمريكا، وقبول العالم هذه الاختزال شكل أزمة حضارية عالمية في جغرافية الحضارات التاريخية التي تحولت إلى ذكريات بائدة من ذلك التاريخ، ولذلك لم تكن الحروب الأهلية والنزاعات في الصومال وأفغانستان والعراق وغيرها ضمن مساقات السلم الأمريكي العالم.

يقودنا الكاتب إلى أن السطوية والشعبوية والأولغاركية التكنوقراطية هي بديل الديمقراطية التي لم تتجاوز العالم العربي ولم تنجح في أي حضارة ممتلئة بتاريخها وقيمها وتراثها؛ فالديمقراطية فكرة بيئية لم تتجاوز حدودها القيمية وظاهرة إعلامية لم تنجح في أي من الدول بما فيها تلك الدويلات التي لا حضارة لها.

وهنا يرى أن مسارات التحولات العالمية أخذت حواضن حضارية، بظهور قرن المشرق الأسيوي قرن الأفكار التي غزت أوروبا وهددت العالم بقيمها الاشتراكية وما لبثت أن تشكلت مقاومة عالمية قادتها الراسمالية وقاد حضارات العالم واستغل مواردها لمواجهتها بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، التي أيقظها البوعزيزي ليس من مدخل الفكر، وإنما من مدخل الحقوق الغربية التي ساهم في إضفاء شرعية العالم الغربي بالدفاع عنه.

كثيرا ما استخدم الكاتب منهجيات المقاربة بين متغيرات العالم ووجودية الأفكار، ومن منطق ما يراه منظري  العالم الغربي من رؤي إصلاحية معالجة لاخفاقات فلسفة التنوير، وقيمها التي أسيء استعمالها  فإن الشق الثاني منه يؤمن بثورة الأفكار وتجديدها من وهج الفكر الحضاري الصاعد للاشتراكية، لا سيما وقد سبق تصحيح أيدلوجية الرأسمالية من قبل بتطعيمها أفكارا اشتراكية ضمن لها استمرارها، وهنا تأتي  قصة الصراع المتجدد بين الثروة والحاجةـ، والاقتصاد المالي وأنسنة الاقتصاد، ولإعادة تدوير ذلك برزت فكرة المقاربة بين قواعد السوق وقيم التضامن مع تدخل الدولة.

أشار الكاتب إلى تغييب قواعد الاقتصاد الذي كان يقوم على نقطة فيليب في تقاطع العرض والطلب، وغياب القواعد االتي ضبطت آليات السوق، والرقابة التي تحمي المستهلك، ونظرا لهذا النكوص العالمي عن الاقتصاد التنظيمي  وغياب الحماية له، وتعظيم الأرباح وتقليل الخسائر، وإحلال العمليات المالية الافتراضية التي تعمد إلى تدمير رأس المال الاجتماعي لصالح القيادات الجديدة، ضربت الاقتصاد العالمي عواصف ثورية واحتجاجية وعواصف وبائية وطبيعية.

كما أن الليبرالية الاقتصادية التي انحازت للحرية، غيبت العدالة عن الديمقراطية، وتغييب المبدأ أزمة أخرى في فهم مدركات الحقوق من جهة والحرية من جهة أخرى، فقد يسقط في أحدهما جانبا ويبرز الآخر.

دعونا نتابع مسارات أخرى من مسارات القراءة التشريحية للواقع الافتراضي وأثره على السلبي على الواقع الحقيقي، مع تعاظم ذلك الوهم على الحقيقة، بل وصلت أزمة الحداثة إلى إعادة برمجة الأطفال عن بعد، وصناعة الحروب في قاعات مغلقة وعن بعد.

إن ثروة الأمم كما يراها الباحث ليس في المال إذ لو كان كذلك لكانت دول النفط أرقى مكانة بين الأمم، ولكن الثروة كما يشير إليها الواقع تكمن في العمل والإنتاج الذي جعل من الصين وبتنظيمها القومي تختصر المسافات وتنافس الولايات المتحدة وتغزو العالم بمنتجاتها المعولمة.

إن فكرة آدم سميث في أن ثروة الأمم فيما تنتجه هي القاعدة التي تتأسس بها الحضارات وبها ونشأ العالم الغربي قبل أن تغزو فلسفة الميركانتليونين الاقتصادية وتحصر الثروة في الذهب وهذه فلسفة في ذات قيمة مسيحية انفصلت الأصل الأول منها وهو الذي بنى سميث عليها فلسفته.

الأفكار هي موضوع التغيير أو حفظ الحضارة وتجديدها وهو الذي ما دأب عليها الغرب من إعادة تدوير الفكر للتخلص من انحرافاته واختراقاته، وقد دفع ذلك نخبة من المفكرين بالدعوة على التخلص من نظام الألكليروس بإعادة دور الدولة والنزوع إلى التوازن بين رأس المال والعمل، والانتج والتوزيع ، والادخار والاستثمار والحرية والعدالة والربح والتضامن والإنتاج والتوزيع.

هذه الثنائية المقابلة لم تكن سجعا لفظيا، وإنما هي قيمة معرفية، لأن الدعوة هذه إنما الهدف من استعادتها هو فقط لحماية مركزية الغرب الذي انهك جواده باقتصاديات المنافسة على المستعمرات والذهب والسيطرة على العالم بالبنوك المركزية.

لم تكن اللعبة مع بروز الصين وروسيا لصالح الغرب الذي تخلى عن العدالة عندما كانت عليه، ويطالب بها لتكون لصالحه في ازواجية التناقض بين فكر الأنا والفكر الآخر.

هنا يلمح الكاتب إلى أن العالم الغربي بدأ يتحرك نحو ابتعاث دور الدولة لاحجام تصرفات الشركات وأمبراطوريات الثورة الذي لم يحتكروا المال فحسب بل وانهكوا الطبيعة التي تسببت بالعديد من الكوارث الإنسانية، وهزت من شرعيات الدولة.

وفي المقابل يتجه العالم العربي نحو ليبرالية الاقتصاد، ويستهلك ما لفظه العالم الغربي لأن منظومة الأفكار ليس لها معالم هادية ولا محددات واعية، فالاقتصاد ما يصنعه العالم المتقدم والقوى الدولية.

يتجه الكاتب نحو أعادة رسم خارطة التحولات الواقعية ومنها ينطلق نحو حشد المتغيرات التي ستعيد رسم خارطة العالم، فهو يصور الولايات الأحادية كقطب ضمن أقطاب عالمية مؤثرة أخرجتها عن قواعد التنظيم واللعبة الأحادية إلى قوى أخرى لها مرجعيات ومنظومات وأفكار ومصالح تتناقض معها وتشكل تحالفا استراتيجيا لاثبات وجودها وفي دائرتها دول إقليمية فاعلة، وهناك عشوائية في التحديث والتحول يعمل على إعادة بلورة وجود القوى ضمن خارطة عالمية، وتتمركز الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وبالخصوص منطقة العالم العربي الذي يشكل لا وعيا تاريخيا لدى العالم الغربي مع بروز تجاذبات المحيط الهادي.

وهنا يصح الباحث إلى أن منطقة الشرق الأوسط يعاني من أزمة الموقع الجغرافي الذي جعله منطقة التنافس العالمي منذ عصر الاسكندر وحتى الاستعمار الحديث، وهنا حدد توجهات السياسات الغربية  بمحددي الإسلام السياسي وتوظيف الدين في السياسة والبترول، الاقتصاد والفكر هما المحددان الذين ينظمان وجود الدول ونهايتها.

ويقف الكاتب على دور الثورة المعلوماتية التي عكست قهرا إرادة المعرفة المنظمة وتغير وضعها من عن خدمة ونشر قيم الديمقراطية ونهاية التاريخ وبناء الشخصية العالمية، إلى آلية لا إنسانية  تخدم الأمن والديكتاتوريات وتهدد أيدلوجية الأنسنة وشرعية الحقوق الذي طالما اتخذها الغرب معلما لثقافته المدنية والخلاص العالمي الديمقراطي للبشرية.

يرى الكاتب أن تحرير الإنسان يبدأ بتحرير الاقتصاد وكما تحررت من سلطة الكنيسة ووجد العقل الغربي ينشط في صناعة الحضارة المعجزة بالعلم فإن تحريره من غلواء الاقتصاد هو الذي سيجدد الحضارة ويحرر الفكر الإنساني الذي  به يتجدد  اقتصاد الحضارة الإنسانية.

ومن هنا نجد المقاربة التاريخية لمحددات العالم الجديد بقادة قطبي الصين والولايات المتحدة من خلال مساءلة النموذج الأمريكي بتاريخه الغربي اليوناني- الروماني ومقاربة الإخفاقات كتلك كان الباحثون الأمريكيون يدروسون فيها اخفاقا بريطانيا العظمى وانحسارها عن مملكة الشمس .

لكن الحضارات لا تدوم فقد تتجدد في مناطق مع عالم المعارف، ورغم تفائل الصين في حسر القيم المسيحية إلا أن الولايات المتحدة ما تزال قوى فاعلة ومؤثرة خلال العشرين سنة القادمة وأنها إن تراجعت أن حادية قطبيتها فإنها ستظل فاعل دوليا منافسا.

فهو يحلل الواقع من مدخل الفكر ويكاد يكون الوحيد الذي يربط بين فعل الأفكار وحركتها التاريخية، ولم تكن المقاربة التاريخية للنماذج الدولية كافية لدى الباحث ذلك أنها تظل فكرة مشوهة وجزئية ولكنه ينشد في منهجيته استقصاء المعرفة الكاملة فهو يضع مقارنة فكرية بين الصين الصاعد وأمريكا المنحسرة بين قوتين لكل منهما مخزونا حضاريا وقيما وثقافات مختلفة.

ثم يعيد رسم خارطة العالم من مدخل الأفكار، ويحدد مناطق النفوذ وتحديات الهيمنة، ومع ذلك لا يختزال العالم بالقوتين وإنما يجعلهما محورين أساسين في إعادة التوازن مع ظهور قوى إقليمية مؤثرة  كالهند، والبرازيل، ولكن المارد الآخر هي بروز قيصر الروس كقوى تتربع على موروث حضاري وأيدلوجية أعادت انتاج نفسها وأصبحت واحدة من القوى المؤثرة رسم خارطة العالم الجديد.

يذهب الكاتب إلى مقاربة التنبو والتحذير مع كيندي وفلسفته في انهيار الحضارات ومع جوزيف نائي الذي يقدم مفهوم القوة الناعمة إلى جانب القوى التقليدية في صناعة القوى الدولية ومنها برزت القوة الذكية التي تعتمد على حشد الحلفاء كما حدث مع العراق الذي سقطت فيه قيم أمريكا الأخلاقية.

ولكنه وبالمقابل يستعرض الأفكار الذي رسمت الهوية الأمريكية مع مونرو وفلسفته الانعزالية بعد الاستقلال وبين دور أوباما وتصحيح القوة الاقتصادية، ولكنها مع ترامب تخلت عن مسؤوليتها الدولية.

أما العلاقة مع العالم العربي فقد جعلته أمريكا موضوعا للقولبة والتشكيل على النحو يرسم له في صناعة الإرادة الأمريكية ولو باتجاه ذاته، وعوضا عن الشراكة أصبح يدا تنفيذيا للسياسة الأمريكية ومع أحادث الحادي عشر من سبتمبر  اهتزت ثقة أمريكا بالحليف السعودي الأبرز، ولأجل ترميم العلاقة كلفت السعودية بمتابعة الإرهابيين بحكم معرفتها بسجلاتهم.

وقعت السعودية مملكة الكراهية كما وصفها الباحث الأمريكي “دوري غولد” وهذا النسق الاستراتيجي استهدف القيم التي تتبناها السعودية على حد وصف الغرب بالوهابية، وهو وصف استعارها الغربيون عن الخصوم المذهبيين، بينما اعتبرها توماس فريدمان محطة بنزين، وهو ذلك المفهوم الذي ذهب إليه كسينجر في خطابه مع الملك فيصل اثناء توظيف النفط واستغلاله كورقة سياسية لمواجهة إسرائيل.

يرى الكاتب أن لكل أزمة شخصية أمريكية يسعى لتجاوزها ومنها أزمة 2008 الاقتصادية التي برز فيها أوباما الرجل الأسود في تاريخ المملكة، والذي أعاد تجسيد القيم الديمقراطية وقيم التغيير التي حركت شعوب العالم، لكنه أعاد تمرير العلاقات الدولية بلمساته الناعمة أولها بانسحاب قواته من أفغانستان والعراق والثاني تمثل في خطاباته الداعية لحوار الحضارات من جغرافيتين مؤثرتين أحدهما من القاهرة والثانية من استطنبول.

خلال تلك الفترة كانت الخطابات بشارة في تغيير العالم العربي الذي بدأ بثورات تونس ولم يجني العرب منه سوى الخطابات بينما توصل إلى حل الملف النووي الإيراني والتسوية السياسية مع الصين.

بدأ العالم لدى الكاتب دون معالم يمكن الوقوف فيه  والاهتداء به والسير عليه، فكل تلك الاضطرابات الكونية في عالم الأفكار وتناقضاتها وبروز فن الممكن وقوة الاقناع والنفعية واستبدادية الاقتصاد.

لم يكن محور الكتاب مبنيا على فلسفة تجريدية ومنحوتات لفظية، فقد عمد إلى حشد الأدلة الفكرية وسياقاتها الواقعية وانحرافتها أو ارتباطاتها بالفكرة الشمولية وجغرافية التغيير والتغذيات العكسية للتاريخ واستدعاءاته في تحولات واقعية.

بهذه القراءة كان التساؤل يرسم مسارات المستقبل من خلال مدخلين:

الظاهرة: وهي إشكالية منهجية تعددت فيها الحالات وأوجدتها كقضية بحثية تحتاج إلى معالجة، ولكن الظواهر الذي حشدها تربو على ثلاثين ظاهرة إشكالية.

الفكر: وهي القيم الوظيفية لمفهوم التاريخ ومعتقداته وحضارته وثقافته، وقد ساعد هذا المدخل على استيعاب الظواهر ونظمها في أنساق معرفية .

والنسق المعرفي هو الذي المنتظم المتنوع، ووظيفته ترشيد المدخلين في أطر تحليلية بدأت من أين ومن  وكيف وما هي وإلى أين. سؤال البداية والأشخاص والمنهج والهوية والأينية المكانية.

ومن خلال ذلك برز مفهوم الزمان كنسق تفسيري لعالم المتغيرات والتحولات، والدور لعالم الأشخاص والقيم في عالم الأفكار.

ومن بين ذلك الوجود المتصلب كانت الهوية الحضارية للباحث هي إشكالية البحث وهو موضوع العالم لأنه جغرافية العالم العربي أصل الحضارات ولقيم والثقافات وعلم الإنسان وبدايته، ولكنه في مهب التحولات والتجاذبات فهو في العمق لكنه بلا معالم، ويقصد بالمعالم الأفكار التي تحدد فلسفته الوجودية ووظيفته الاجتماعية وقدراته السياسية.

ليس هذا فحسب فالمعالم تتهاوى مع الصرعات الطائفية والسياسية والحزبية والقومية وقد أزاحت القومية العربية التي نظر لها الكواكبي السلكنة العثمانية وألغت مفهوم الإسلام لصالح العربية القومية ولكنها فشلت في حماية وجودها وتحررت لتستعبدها الحرية الغربية وجعلتها أكثر بؤسا وفوضوية مع بروز أيدلوجيات دينية لم تستطع السيطرة بناء دولة آمنة أو حضارة فاعلة.

لكنه يستدرك الرجوع إلى الإسلام السياسي، وخلال بحثه عنه لا يجده في العرب الذين تحرروا منه آنفا فالإسلام السياسي يتأرجح بين ثنائية الخلافة والديمقراطية، والسلطة والمجتمع، والسلمية والعنف فهو مقيد بأزمات فكرية وسلوكية تجعله غير قادر على خلق النموذج.

ومن جهة أخرى فإن الإسلامي السياسي يقوده غير العرب ويتنافسه مركزان العثمانية الجديدة، وإيران الإسلامية التي تتبنى أيدلوجية المظلومين وهنا يقف العرب إلى جوار أحد القطبين الإقليمين.

إن  هي التي تقدم نموذج الإسلامي السياسي وعبر جسوره  الإسلامي السياسي إلى العالم العربي. أما السعودية فترفض الوجود التركي الذي تحررت منه باسم العروبة، وبما أنها من منابع العروبة إلا أنها ارهصت الفكر العروبي في مصر والعراق (الناصرية والبعثية)، واتخذت من الإسلام كأيدلوجية من

منظور  الوهابية، وهو جعلها تتعرض لتحديات دولية دفعها إلى التخلي عن التشدد التي كانت عليه إلى التفسخ والميوعة، وإبراز قومية قطرية حددتها بالقومية السعودية في ظل تشظي القوميات العربية المعاصرة.

هذا المعمار الهندسي لعالمية الإسلام وتماسك العروبة كهوية دون هوية أخرى جعل جغرافية الشرق منطقة مأزومة طاردة للسكان، لكن وفي المقابل تحولت بدت أنماط جديدة لمفهوم الهجرة نحو الشمال من هجرة العمالة إلى العمالة الانتقائية وهذا له مآلاته على العالم الشرق أوسطي والعالم العربي الذي تغيرت فيه مفاهيم التسمية ولكنها لم تتغير أحواله.

ولأن الكتاب فيه حشد معرفي تميز صاحبه بقدرته على التعاطي مع المرجعيات بلغتها ومصادرها فإنه يرسم خارطة طريق تبدأ بعالم الأفكار والتي هي أهم معالم العوالم والحضارات.

لا شك أن القراءة المنهجية تحتاج إلى إحصاء رقمي يربط بين النسق العام والأنساق التكميلية والنسق الثانوية. وهذا جهد يضاف من الأهمية لإعادة برمجة الكتاب في قرارات سيادية:

فالأولى هو تحديد معالم الداخل والثانية للتعامل مع فوضوية العالم، والإسهام في انتاج معالمه.

وختاما دافع الكاتب عن الحضارة الإسلامية التي هي غير الإسلاموفوبيا الفرنسية، ودعا إلى إعادة تصحيح مسارات الإسلام السياسي والقومي بالتخلي عن الأحادية القطرية والجهوية والطائفية تلك التي جعلت عالمنا الإسلامي والعربي عالم بلا عوالم في عالم عالمي يشهد اندراسا متلاحقا لتلك المعالم.

وبين متغيرات الذات إلى تحولات العالم، ينقسم العالم بين قوى تسعى للحفاظ على الوضع السائد ودولا تسعى لتغيير ملامح النظام العالمي. أما العالم العربي فهو البيت المسكون الكامن التي تتحكم به التحولات وتستبد به المتغيرات.

كانت هذه قرآتي الأولية وتستدعي قراءات أخرى أكثر تأنيا وعمقا، وندعو المتخصصين من الباحثين والسياسين في حقل الفكر والسياسة والحضارة والتاريخ النظر فيه، والاستفادة منه.

فهو ليس كتابا في التاريخ بل هو كتاب في وظيفة التاريخ  وحركته وسرعة تحولاته من الفكر والمعرفة إلى الواقع السياسي والاجتماعي؛ ومن الواقع إلى الفكر، وفي منهجة الحركة الوظيفية للتاريخ تبرز في الكتاب شخصية فيلسوف العقد الاجتماعي توماس هوبز، وعند مقارنة البيئة السياسية والاجتماعية والفكرية بواقعه نجد أن الواقع من أهم روافد ومصادر الفكر وصناعة المفكر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.