في منطق سيميائيّات الذات… القرن الواحد والعشرون أنموذجًا:

0 34

مصطفى غني/ الكلية التقنية الهندسية ـ بغداد.

تحتل السيميائيّة كنسق ثَّقافيّ مكانة كبيرة في نفوس المجتمعات البشرية والأفراد على حد سواء، وهي ضرب من ضروب إبستمولوجيا المعرفة الإنسانيّة، حيث كوَّن العقل الإنسان سيميائيّة خاصة به لشخص ما أو جهة ما أو فئة ما أو مجتمع ما، وأضفى صفات كطابع للإنسانويّة كصفة القداسة أو الرمزية أو المكانة المحترمة لأي موصوف كان مهما تمتع من رمزية زمكانيّة، وأخذ صاحب الوصف بسيميائيّة معينة مكانة مُقدَّسة لدى جمهوره ومحبيه. تتولد لدى العقل الإنسانيّ ثمة تساؤلات عن سبب إنتاج العقل سيميائيّة ما ولم أنتجها؟ وهل يحتاج الإنسان إلى وضع سيميائيّات في حياته؟ ولم ستصبح مُقدَّسة؟ ومَنْ أعطى شَّرعيّة القداسة لها؟ لعلَّ ربط الإنسان سيميائيّة ما بالسماء يمنحها رمزية خاصة أو يعتقد في قرارات نفسه حاجة أي مجتمع لمجموعة من السيميائيّات يجعلها تتغطى بأغطية وفق النظم الوضعية، وهنا يأتي عامل النظر في تلك السيميائيّة من أنَّها تتمتع بخصائص لا يسمح بمسِّها، ولا بالتقرب منها، ولا بنقدها ضمن أطر المعرفة، مع أنَّ جوهر بعضها بشرية من حيث الوضع، وبالتالي لا يوجد مانع من النظر في أمرها، والخوض في تفكيك ثنائياتها بحسب علاقتها مع المجتمع ونفسها كأداة سيميائيّة مستقلة، فالنظر يكون من جانبين يتعلق أحدهما بنفس سيميائيّة الذات والآخر يتعلق بطبيعة علاقتها مع جمهورها.

في عصورنا ازدات سميائيّات بني البشر وتعددت مشاربها وتوسعت من حيث اتسامها ببعض السمات التي زادت من درجة عصمتهم، مع أنَّ أفضلية شخص على آخر أمر طبيعي يجعل الإنسان يسير خلف الأفضل، وأنَّ منطق التحليل لأي واقع يعطيك دلالة واضحة على جوهرها، فنحن في عصر وزمان يختلف بالكلية عن الأزمنة السابقة يجعلنا ملزمين بالوقوف لتفكيك قضية مهمة في حياة الإنسانيّة حول ضرورة مراجعة العقل الإنسانيّ لسيميائيّاته التي منحها صفات مُقدَّسة تمنع العقل الإنسانيّ من نقدها، وفي الواقع أنَّك حين تجري عمليات الحفر المعرفيّ ستجد تيارات فكريّة متعددة المشارب تختلف من شريحة إلى أخرى، وكلُّ شريحة منها لها سيميائيّات خاصة بها بنحو أضحى المجتمع الواحد متفككًا يحمل كلُّ واحد منها سيميائيّات خاصة، وأصبحت وفق هذا السلوك الإنسانيّ منتجة لمجتمع متفكك ومتشضي يقودها سيميائيّ ما، وله مواصفات تختلف عن غيره في مجتمع الآخر، لمَ هذا يا ترى؟ وهل المجتمع الواحد يحتاج إلى هذا التفكك كالتفكك الأسري ليصبح المجتمع مجموعات يقودها سيميائي هو ربُّهم وقائد حملتهم المعرفيّة والإيمانيّة والفكريّة و… وأنَّ واقعنا بلا شك يختلف عن واقع من سبق بنحو يلزم أفراده كذوات مستقلين للنظر في أمرهم وفي معارفهم وتوجهاتهم، وأنَّ يعيدوا النظر في سيميائيّاتهم التي وضعوها وكبَّلوا ذواتهم بها، وهذا المنطق يعني أنَّنا نعيد النظر في المعرفة للذات أولًا وللمجتمع آخرا، ونتعرف على طبيعة إنتاج المجتمع لأيِّة سيميائيّة وتوجهاتها وميولها وثَّقافاتها الذاتيّة التي ساعدت بنحو كبير بتكوين المجتمع والذات معًا للسيميائيّات، وهذا لن يتم من دون تغيير في طبيعة تعاملهم مع واقعهم وآلياتهم المعرفيّة ومنهجيات المعرفة، وفهم طبيعة تفكير هؤلاء للوقوف على مدى إدراك الوعي ووجوده لدى ذواتهم، والوقوف على نوع الخطاب الذي يقدِّمه صاحب السيميائيّة لجمهوره؛ لمحاولة تفكيكه عنه تفكيًا معرفيًّا، وممارسة عمليات حفرية تزلزل ثوابتهم؛ لمعرفة حجم الهيمنة على عقله وسلوكه مع أنَّ نشاطه هذا في بعض الأحيان آخذ بالتآكل لجسده ووعيه وثقافته حين يسلِّم زمام أموره بيد غيره، فهو يمضي دون بوصلة معرفيّة تجاه سيميائيّة ما، ولا يمكن التخلص من هذا السلوك الإنسانيّ لدى الفرد والجماعة دون ممارسة نقد وحفر مرجعي لتوجهاتهم لتحديد المسار المستقبلي لهؤلاء, فهو يسير دون أجوبة شافية تتوفر لديه لدى سلوكه هذا من أجلِّ أنَّ تحتل منهجية التحليل سواد البشرية, مع كون هذا في بعض الأحيان حلم يصعب تحقيقه في دول العالم الثالث, ويمكن أنَّ يخص الذكر الجيل الحالي في كلِّ مجتمع عربيّ حيث نحتاج إلى تغيير منهجيات فهم وتحليل وخطاب الجيل المعاصر؛ لأنَّ هذا الجيل خاص وله مواصفات خاصة به تختلف عمن سبقه، وله عقلية وتفكير وحياة تختلف عن سابقاتها فهو يفهم ما يشاء بما يريد لا بما يريده الآخرون، ويعيش عالمًا مستقلًا عن عالم واقعه، وتسيطر عليه وسائل التواصل بقوتها بنحو أصبح منسلخا عن واقعه وهويته، ولعلًّ ما تقدَّم يمكن اعتباره عند شخص ما أو فئة ما أو جهة ما ضربًا من ضروب السفسطة من حيث أنَّ لكلِّ فرد وجماعة طريقة تفكير مغايرة للأخرى تنبع من تجاربها وإحساسها وإدراكها الذاتي بنحو يمكن القول بمنطق تفكيك ثنائية الوعي كذات مستقلة عما هو لا موضوعي.

أتصور أنَّ عمليات الحفر المعرفيّة ضرورية للوقوف على جوهر سيميائيّة الذات والنَّسق الثَّقافيّ، وأنَّ منطق تحليل أيَّة سيميائيّة ضرورية إنْ كانت تتمتع فعلًا بتلك الهالة والقدّسية، ومن يتخوف من ممارسة عمليات النقد لأية منها فهذا يعني إمّا أنَّ سيميائيّته فيها فجوة يتخوف من كشفها للعام، أو أنَّ نفس العملية ستفتح الباب نحو الأكثر خطورة وجرأة، ولذا لم يكن عند بعض المجتمعات تخوف لنقد سيميائيّ ما بنحو أضفت قوّة ومكانة بعد إجراء عمليات النقد المعرفيّ، والنقد الذات للذات السيميائيّة نفسها ضرورية قبل نقد المتلقي لها، ومن دون نقد فإنَّ المجتمعات ستبقى مولدة لسيميائيّة تتمتع بخصائص سرعات ما ستزول في المستقبل، وإنْ بقيت تتمتع زمنًا معينًا، فالحياة تدوم لأيِّة سيميائيّة تفتح المجال للنقد والتقويم للنهوض بواقعها والرقي بها.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.