علم أصول الفقه بين ثنائية الاستمداد والإمداد.

1 17

عبد الصمد ازليك:   

باحث مغري                                                                                      

يعتبر علم أصول الفقه من العلوم الجلية المهمة التي لا يستغني عنها كل مجتهد لبيان مراد الشارع، ولقد كانت بوادر هذا العلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ولم تكن الحاجة إلى ظهوره واستقلاليته بهذا الاسم، حتى القرن الثاني الهجري، الذي احتاج فيه إلى قواعد وضوابط تضبطه وتوصلنا إلى استنباط الأحكام من نصوصها، وطبعا كان هذا لأسباب، منها (1):

-اتساع الفتوحات الإسلامية واختلاط العرب بغيرهم، ودخل في العربية كثير من المصطلحات غير العربية، ولم تبق الملكة اللسانية على سلامتها.

-الجدال والصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي، والاحتجاج بما هو مخالف للشرع، ورد بعض ما يحتج به.

وهذا العلم ولد جنينا فصار يتدرج في النمو حتى شب وشاب وصنفت فيه مؤلفات كثيرة لا يمكن حصرها، ويعتبر كتاب –الرسالة- للإمام الشافعي من الكتب التي جاءت لتؤسس منهجا علميا تبنى عليه الأفهام والمدارك لخطاب الشارع، ونذكر هنا كلاما للإمام الرازي مبينا أهمية الرسالة، حيث قال: “اعلم أن الشافعي صنف كتاب *الرسالة* ببغداد، ولما خرج إلى مصر، أعاد تصنيف الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير، والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه، إلا أنهم كلهم عيال على الشافعي فيه، لأنه هو الذي فتح هذا الباب والسبق لمن سبق”(2).

وهناك كلام نفيس لابن خلدون رحمة الله عليه حيث قال: “واعلم أن هذا الفن –يقصد أصول الفقه- من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية… فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج الفقهاء والمجتهدون الى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه”(3)، لذلك قلنا إن الإمام الشافعي هو المؤسس والمبتكر لهذا العلم والواضع لقواعده وضوابطه.

1 ــ الاستمداد بين علم أصول الفقه والعلوم الأخرى:

إن أصول الفقه له تعريفات عدة، لكن يمكن جمع هذه التعاريف في تعريف واحد والقول بأنه: “عبارة عن قواعد عامة وأدلة إجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد”(4) إذن فهو تلك القواعد التي تنظم لنا الفقه الإسلامي.

وقد استفاد من هذا العلم علماء ومفكرون ودارسون ولغويون، استفادوا من مناهج وقواعد أصولية في علومهم ومسائلهم، وذلك في إطار التكامل المعرفي. فالتكامل أصبح أمرا ضروريا في هذا العصر بين العلوم، وكما قال الدكتور الحسان شهيد في تعريفه للتكامل المعرفي أنه ” ذلك التمادد في الخدمات والتبادل في المنافع العلمية بين العلوم، أي ما يعبر عنه بثنائية الإمداد والاستمداد في كل علم مستند إليه في بناء معرفة مفيدة تعود على الإنسان والكون بالنفع والتنمية والصلاح” (5).

وقد أدمج وامزج العلماء في مصنفات علم أصول الفقه بالعلوم الأخرى، كالعقيدة واللغة والمنطق والنحو والفلسفة، لما يوجد بين هذه العلوم من تداخل وترابط وتفاعل فيما بينها، وكما قال طه عبد الرحمان: “أما عن درجة تفاعل العلوم، فلم يكتف علماء الإسلام بالقول بتدرج العلوم فيما بينها، بل أقروا بمشروعية تفاعل العلوم بعضها مع بعض، وتشابك العلاقات بينها”(6) ثم أضاف قائلا: “وقد ساهم هذا التفاعل في إثراء العلوم والفنون بعضها لبعض وفي توجيه بعضها مسار البعض الآخر” (7). لهذا نجد علم أصول الفقه يستمد أصوله ومبادئه من علوم أخرى، من بينها علم الكلام، فعلماء الكلام حققوا قواعد هذا العلم تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ومصنفاتهم يكثر فيها النقاش في الأدلة ويكثر فيه الجدل والنظر والاستدلال. وفي هذا أشار الشيخ الإمام علاء الدين الحنفي في كتابه: “اعلم أن أصول الفقه والأحكام فرع لعلم أصول الكلام، فكان من الضرورة التصنيف في هذا الباب على اعتقاد مصنف الكتاب، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع”

وقال بعض المتكلمين: أن الأصول معرفة الله تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم، فكل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسما إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا، فالأصول هو موضوع علم الكلام، والفروع هو موضوع علم الفقه” (8).

وما يزيد هذا وضوحا ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في باب بيان ما يجب تكفيره من الفرق، حيث ذكر كلاما رائعا يبين مدى أهمية ترابط وتداخل علم أصول الفقه مع علم الكلام، وخلاصة ما جاء في كلامه “معرفة الكذب والجهل يجوز أن يكون عقليا وأما معرفة كونه كافرا أو مسلما فليس إلا شرعيا، بل هو كنظرنا في الفقه في أن هذا الشخص رقيق أو حر، ومعناه أن السبب الذي جرى هل نصبه الشرع مبطلا لشهادته وولايته ومزيلا لأملاكه ومسقطا للقصاص عن سيده المستولي عليه، إذا قتله، فيكون كل ذلك طلبا لأحكام شرعية لا يطلب دليلها إلا من الشرع. ويجوز الفتوى في ذلك بالقطع مرة وبالظن والاجتهاد أخرى، فإذا تقرر هذا الأصل فقد قررنا في أصول الفقه وفروعه أن كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافرا إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل” (9).

فبعد هذا البيان، نقول إن علم أصول الفقه لا ينفك عن علم الكلام، وذلك لتوقف معرفة كون الْأدِلّة الْكلية حجّة شرعا على معرفة الله تعالى بصفاته، وصدق رسول – صلّى اللّه عليْهِ وسلّم – فِيما جاء بِهِ عنه، ويتوقف صدقه على دلالة المعجزة.

أما استمداده من اللغة العربية، فلا يمكن أن نفهم ما جاء في الكتاب والسنة دون إلمامنا باللغة العربية إفرادا وتركيبا، وهي التي تشكل وحدة قومية وثقافية تجمع بين كل الناطقين بها، وجعلها الله عز وجل حاملة لرسالته المعجزة –القرآن الكريم-، فقد وصفها الحق عز شأنه في كتابه بالبيان {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسان عربي مبين}.

إن اللغة العربية مفتاح هذا العلم والعلوم الأخرى، فأصول الفقه يبحث في كيفية استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، وهي منزلة باللغة العربية، لهذا تكون اللغة العربية هي موضوعه. وهنا نشير إلى كلام الإمام الشافعي (204هـ) رحمه الله تعالى الذي يبين مدى أهمية اللغة العربية في البحث الأصولي، قال رحمة الله عليه: ” وإنما بدأت بما وصفت، من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جمل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجِماع معانيه، وتفرقها. ومن علِمه انتفتْ عنه الشّبه التي دخلتْ على من جهِل لسانها” (10).

وأما علْم الْعربِية، فلِتوقّفِ معْرِفةِ دلالاتِ الْأدِلِة اللّفْظِيةِ مِن الْكِتابِ والسنّةِ وأقوال أهْلِ الْحل والْعقْدِ مِن الْأمةِ على معْرِفةِ موْضوعاتِها لغة مِنْ جِهةِ: الْحقِيقةِ، والْمجازِ، والْعمومِ، والْخصوصِ، والْإِطْلاقِ، والتّقْيِيدِ، والْحذْفِ، والْإِضمار، والْمنطوقِ، والْمفهوم، والِاقتِضاءِ، والْإِشارةِ، والتّنْبِيهِ، والْإِيماء، وغيْرِهِ مِمّا لا يعْرف فِي غيْرِ علْمِ الْعربِيةِ (11).

والحاصل في الكلام أن هناك تعاون بين أصول الفقه والعلوم اللغوية الأخرى، بما فيها علم النحو والتصريف والبيان وعلم المعاني وغيرها، فلا يمكن للأصولي أن يكون في قمة الاجتهاد دون أن تكون له دراية وإلمام واسع بهذه العلوم، فمثلا الأصولي في علم النحو يأخذ منه ما يتعلق بوظيفة الكلمة وموضعها في الجملة، قال الزمخشري في مقدمة كتابه –المفصل في صناعة الإعراب- معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيا على علم الإعراب.

كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فالأصولي يقول إن الأمر للوجوب، لهذا وقع الخلاف في الأرجل هل يجب فيها الغسل أم المسح؟؟ فلا يمكن أن نفهم المعنى ونحن نجهل علم النحو.

كما أن الأصوليين تحدثوا عن الاستثناء سواء كان متصلا أو منقطعا، فمثلا نأخذ قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}. فالأصولي يدرك أي نوع هذا من الاستثناء.

وكذلك قول الله تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه} الأصولي المتبحر في علم النحو يفهم هذه الآية، ويعلم هل فيها استثناء أم لا.

أما في علم الصرف، فهناك تعاون وتكامل بين هذا العلم وعلم أصول الفقه، حيث أن علم أصول الفقه يبحث في دلالة الأمر هل هي للوجوب أم للندب أم غير ذلك؟، بينما علم الصرف فيبحث في صيغة هذا الأمر، وصيغ العام…الى غير ذلك، وهذا يذكره كثير من المؤلفين في علم أصول الفقه، فمثلا عندما يقول لك الأصولي صيغ الأمر هي كذا، أو صيغ العام هي كل وأجمع …الخ، فقد استفاد هذا من علم الصرف، الذي يبحث في هيئة الكلمة وما يطرأ عليها من تغيير. فمثلا عندما يقول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فالأصولي الذي له دراية بعلم الصرف يعلم أن كل من صيغ العموم، لهذا يقول هذا عام قطعا ليس فيه تخصيص.

أما ترابطه وتفاعله وتعاونه مع علم البيان، وذلك من حيث أن مباحث الأصولي تبحث في دلالة الألفاظ من حيث وضوحها وخفاؤها وما تحتمله من حقيقة أو مجاز، والمفهوم والمنطوق، فهذا كله من مباحث الأصولي.

نأخذ على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {فاقْتلوا الْمشْرِكِين} لو لم يكن الأصولي على دراية بعلم البيان، لما فهم أن المراد، ولجاز قتل كافة المشركين حتى غير ذي حرب.

وخلاصة القول، لا يمكن فصل علم أصول الفقه عن هذه العلوم اللغوية، ولا يمكن الخوض في استنباط الأحكام مع الجهل بها، وذلك لاشتراك هذه العلوم فيما بينها في موضوع واحد ومادة بحث واحدة.

وفي هذا قال الإمام الحرمين: “ومن مواد أصول الفقه العربية، فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة العربية” (12).

وهذا ما صرح به الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”، حيث قال: “إن النظرة الكلية لها ما يبررها سواء تعلق الأمر بعلم البلاغة أو بعلم النحو أو علم الفقه وأصوله أو بعلم الكلام، فهذه العلوم مترابطة بصورة تجعل منها مظاهر أو فروعا لعلم واحد (هو البيان).

أما من حيث استمداد هذا العلم من الأحكام الشرعية، وذلك من خلال تصور تلك الأحكام ومعرفة حقائقها حتى يتصور إثباتها أو نفيها، لكن هناك من قال إنه يستمد من الفقه، وهذا كلام لا يستقيم، لأننا إذا قلنا إن علم أصول الفقه يستمد أصوله ومبادئه من الفقه، لما عرفنا الأصول إلا بعد الفقه، ولن يستفيد الفقيه من الأصولي في استنباط الأحكام من أدلتها الجزئية، لهذا فالفقه لا يعرف إلا بعد معرفة علم أصول الفقه، لهذا نقول إن وظيفة الأصولي هي القواعد ووظيفة الفقيه هي تطبيق هذه القواعد على أدلة جزئية.

لهذا نقول إن علم أصول الفقه استمد أصوله ومبادئه وقواعده من الأحكام، أي تصور معنى الواجب والحرام والمكروه والمباح والصحيح والفاسد ونحوها من الأحكام (13).  

2-إمداد علم أصول الفقه وبعض العلوم (تداخلية العلوم):

كما أشرنا سابقا أن بين العلوم تكامل وتقارب، فكثير من العلوم يبنى بعضها على بعض، ويترتب بعضها على بعض، فلم يعد على المتخصص أن يكون ملما بعلم واحد فقط، بل ينبغي أن يكون كذلك وينفتح على علوم أخرى، لأن عصرنا الحديث يدعو إلى ذلك من أجل القضايا المعرفية والمنهجية، التي ينبغي على الباحثين أن يستفرغوا فيها الجهد لبناء معرفة منهجية ناجعة مثمرة.

ويعتبر علم أصول الفقه من العلوم المنهجية، التي تشكل وحدة موضوعية لبقية العلوم الأخرى، وذلك لأنه انطوى على أسس البناء العملي المنهجي في ميادين الحياة، كما قال الأستاذ محمد الناصيري في كتابه “العلاقة مع الآخر في ضوء الأخلاق القرآنية”: “أثمرت الأمة الإسلامية في اتصالها الأول السليم بالقرآن، منهجا حواه علم أصول الفقه، الذي أسس النظر في الجوانب الحياتية المختلفة، وانطوى على أسس البناء العملي المنهجي في ميادين الحياة، بحيث اعتمد علماء أصول الفقه على عمليتي الاستنباط ثم الاستقراء، وهما عنصران في أي منهج” (14).

فعلم أصول الفقه هو الذي يشكل المنهج الكلي للعلوم الإسلامية والإنسانية، بحيث أنه يهتم بالإطار العام لقضية الاستنباط والاستدلال.

وهذا ما أشار إليه مصطفى عبد الرزاق في كتابه: “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”: “أن علم أصول الفقه هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يكاد يعنى بالجزئيات والفروع … بل يعنى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها وذلك هو النظر الفلسفي”(15).

فعلى الباحث أن يتبنى منهجا أساسا ويكمله إذا اقتضت الضرورة بالاستعانة بمنهج أو منهجين آخرين بصفة تكميلية كما قال بذلك رشدي فكار.

إن علم أصول الفقه كما قلت له ارتباط وثيق بعلوم أخرى (كعلم الحديث، وعلم الفقه، والتفسير، والقراءات القرآنية، وعلم المقاصد، وعلم الاجتماع… وغيرها من العلوم التي لها علاقة وطيدة بهذا العلم، فلا تكاد تجد عالم الآن محدث دون أن يكون له إلمام بأصول الفقه، لهذا نقول بعض الأحيان الحافظ المحدث الفقيه الأصولي، وكذلك بعض المفسرين يذكرون في كتبهم أدلة أصولية أثناء تفسيرهم للآيات، فهذا ما يبين لنا أن هذه العلوم متداخلة ومترابطة ويمد بعضها بعضا.

  • علم أصول الفقه والحديث: إن علم أصول الفقه وعلم الحديث علمان متداخلان، ويخدم بعضهما بعضا، فالأصولي يستفيد من المحدث، وذلك من خلال قبول الأخبار أو ردها، وكذلك من خلال الكلام عن التواتر والآحاد.

فعلم أصول الفقه يستمد من الحديث ليس للبحث عن الاستمداد للأصول، بل هناك تداخل موضوعي بين علمين غايتهما البحث عن أصول شيء واحد فيشتركان في الموضوع، أو يندرج موضوع أحدهما في الآخر، وهذا الاشتراك في بعض الأحكام والدليل السمعي الذي هو موضوع الأصول من حيث يوصل العلم بأحواله إلى القدرة إلى إثبات الأحكام لأفعال المكلفين، فيندرج فيه السمعي النبوي الذي هو موضوع علم الحديث اندراج الجزئي الإضافي تحت الكلي، فظهر أن مباحث السنة من مباحث الأصول أصالة، ومباحث الإجماع والقياس والنسخ من مباحث الأصول المختصة به. (16).

وكما تقرر في كثير من كتب الأصول أن من شروط المجتهد “معرفة حال الرواة في القوة والضعف ليميز المقبول من المردود”.

كما أن كثير من المصطلحات التي تحدث عنها الأصوليون هي نفسها التي تحدث عنها المحدثون (كالسنة، قول الصحابي، المتواتر، الآحاد، المرسل، المنقطع، التعارض، النسخ…الخ.

كما أن العلاقة بين هذين العلمين تقوم على أساس تطبيق قواعد أصول الفقه على قواعد الحديث، ففي الحديث تثبت قيمة الرواية وفي أصول الفقه تثبت حجيتها.

  • علم أصول الفقه والتفسير: هذان العلمان متداخلان ومترابطان، لا يمكن لأي مفسر أراد أن يفسر ويبين كلام الله عز وجل أن يخوض في التفسير دون دراية وإلمام بالقواعد الأصولية، كما أن علماء أصول الفقه استفادوا من جهود علماء التفسير، خاصة في مسائل التأويل وما يرجع إلى تفصيلات تفاسير الأحكام، وكذا توظيف الآيات القرآنية في الاستشهاد على إثبات حجية بعض الأدلة.

وتعتبر القواعد الأصولية أداة للتفسير الصحيح والاستنباط السليم، والعلم بهذه القواعد يعتبر شرطا في تفسير كلام الله عز وجل. قال الراغب الأصفهاني: “فجملة العلوم التي هي كالآلة للمفسر، ولا تتم صناعة إلا بها، هي هذه العشرة: علم اللغة، الاشتقاق والنحو، السير، الحديث، أصول الفقه، علم الأحكام، علم الكلام، وعلم الموهبة” (17).  فذكر ضمن شروط المفسر الإلمام بأصول الفقه.

وأما أصول الْفقه فلمْ يكونوا يعدّونه مِنْ مادّةِ التفْسِيرِ، ولكِنّهمْ يذْكرون أحْكام الْأوامِرِ والنواهي والْعمومِ وهِي مِنْ أصولِ الْفِقْهِ، فتحصّل أنّ بعْضه يكون مادّة لِلتّفْسِيرِ وذلِك مِنْ جِهتيْنِ: إِحْداهما: أنّ عِلْم الْأصولِ قدْ أودِعتْ فِيهِ مسائِل كثِيرةٌ هِي مِنْ طرقِ اسْتِعْمالِ كلامِ الْعربِ وفهْمِ موارِدِ اللّغةِ أهْمل التّنْبِيه عليْها علماء الْعربِيّةِ مِثْل مسائِلِ الْفحْوى ومفْهومِ الْمخالفةِ، وقد عدّ الْغزالي علم الْأصولِ مِنْ جمْلةِ الْعلومِ الّتِي تتعلّق بِالْقرْآنِ وبِأحْكامِهِ فلا جرم أنْ يكون مادة لِلتفسير.

الْجِهة الثّانِية: أنّ عِلْم الْأصولِ يضْبط قواعِد الِاسْتِنْباطِ ويفْصِح عنْها فهو آلةٌ لِلْمفسِّرِ فِي اسْتِنْباطِ الْمعانِي الشّرْعِيّةِ مِنْ آياتِها. (18).

ومما يزيد ذلك وضوحا قوله الله تعالى {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} اللمس يحتمل أن يكون حقيقة أي اللمس باليد، ويحتمل أن يكون مجازا بمعنى الجماع، وهذا اختلاف بين الأحناف والمالكية والشافعية، وذلك راجع إلى قاعدة “احتمال اللفظ الحقيقة والمجاز”.

وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم بعد إيمانكم كفارا} فقد قال الزهري وقتادة أنه “كعب بن الأشرف” وقال غيرهم عكس ذلك، وذلك راجع إلى اختلافهم في العام. وكما أشار: ” أن العام يبقى على عمومه، وتخصيصه خلاف الأصل فلا يقبل تخصيص إلا بدليل مخصص” (19).

وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} فالباء: يحتمل أن تكون زائدة ويحتمل أن تكون للتبعيض، وقد ترتب عن هذا حكم، وسبب اختلاف العلماء راجع إلى الاشتراك الواقع في الحرف.

وكل هذه الأمثلة تبين لنا حاجة المفسر لعلم أصول الفقه، وقواعده الأصولية.

  • أصول الفقه وعلم القراءات: يعتبر علم القراءات من العلوم الجليلة التي تخدم القرآن الكريم، وقد عرفه ابن الجزري بأنه: “علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها يعزو لناقله” (20).

فهذا العلم له ارتباط وثيق كذلك بعلم أصول الفقه، وذلك من خلال أن الأصولي يبحث في حكم القراءات الشاذة وما يتعلق بها من أحكام، فمن الأصوليين من احتج بها، كأبي الحسين البصري، والسرخسي، وابن قدامة، والطوفي، وغيرهم. وهناك من لم يحتج بها كالغزالي، والآمدي، والجويني، وابن الحاجب وابن العربي…الخ.

  • أصول الفقه وعلم المقاصد: علم المقاصد علم لا يتجزأ من أصول الفقه، فقد استمد منه بعض المباحث كما قال الريسوني: “فقد كانت المقاصد نقطة معينة تذكر أو يشار إليها بمناسبة كذا أو كذا من المباحث الأصولية” (21).

وهذا ما ذهب إليه الإمام الشاطبي، حيث جعل علم المقاصد مبحث من مباحث الأصول، قال رحمه الله تعالى: ” أَنّ وَضع الشرائع إِنمَا هوَ لِمصالحِ الْعِباد فِي الْعاجل وَالْآجل معا” (22). والشرائع هي الأحكام المستنبطة من الأدلة بطريقة الاجتهاد التي هي من مباحث أصول الفقه.

فالإمام الشاطبي رحمة الله قسم كتابه الموافقات إلى خمسة أجزاء، لا تخرج عما قرره الأصوليون في كتبهم. قال الدكتور محمد سعيد البوطي: “لو عمد إلي تصنيف كتاب الموافقات تحت الموضوع المناسب له، لما صنفته تحت اسم أصول الفقه، ولو أني فعلت ذلك لكان هذا من قبيل المجاز، أي من قبيل تسمية الكل باسم الجزء، فكتاب الموافقات ليس كتابا في أصول الفقه، لكن بعض موضوعاته هو أصول الفقه أما سائر البحوث والمسائل التي يفيض بها هذا الكتاب فهي تدخل تحت فلسفة التشريع أو تحت أسرار التكليف كما قال الإمام الشاطبي عن كتابه وكما وصفه” (23).

كما ربط الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى الأحكام التكليفية، التي تعتبر من مباحث الأصوليين بمقاصد الشريعة.

قال رحمه الله تعالى: “تَكالِيف الشّريعةِ تَرجِعُ إِلَى حِفظِ مَقاصدِهَا فِي الْخَلقِ، وَهَذهِ الْمَقَاصد لَا تَعدو ثَلَاثةَ أَقْسامٍ: ضرورية وحاجية وتحسينية” (24).

ونجد نور الدين بن مختار الخادمي في كتابه “علم المقاصد الشرعية” ذكر بعض المصطلحات الأصولية التي لها صلة بمقاصد الشريعة، كالعلة، والحكمة والمصلحة وسد الذرائع.

– فالعلة: والتي تعتبر الوصف المعرف للحكم المؤدي إليه، كمثل الإسكار: فإنه محرم لمصلحة حفظ العقل والمال، والزنى يؤدي إلى الجلد وذلك لمصلحة حفظ الأنساب.

– وكذلك منع ما يجوز الذي يؤدي إلى ما لا يجوز، كمثل: الخلوة بالأجنبية ذريعة إلى الزنا، والبيع وقت الجمعة ذريعة لترك الجمعة…الخ من المصطلحات التي تبين مدى صلة المقاصد بسد الذرائع، الذي يعتبر من المباحث الأصولية.

  • أصول الفقه والفقه: تتجلى تداخلية وتكاملية هذين العلمين في كون الفقيه يعتمد على القواعد الأصولية في أدلة جزئية لاستنباط حكم معين، فمثلا: الأصولي يقول إن الأمر للوجوب، والنهي للتحريم…وغيرها، يعني وظيفة الأصولي هي الأدلة الإجمالية.

أما الفقيه فيأخذ هذه القاعدة مثلاالأمر للوجوب ـ فيطبقها على قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة} فيقول إن الصلاة واجبة والزكاة واجبة، فلا يمكن للفقيه أن يستغني عن هذه القواعد ويتحدث في المسائل الفقهية دون إلمام بعلم أصول الفقه وما يتعلق بها من قواعد.

ولعلنا نجد من العلماء الجهابذة المجددين المبدعين الفطاحلة الذين مزجوا بين هذه العلوم _الطاهر بن عاشور_ في كتابه “التحرير والتنوير”، حيث أنه عند تفسيره لآية معينة يذكر ما جرى فيها من اختلاف في علم النحو، والحديث، والقراءات، وأصول الفقه، وغيرها من العلوم التي أدخل بعضها في بعض، وهذا يوضح لنا ويبين لنا أن هذه العلوم يحتاج بعضها إلى بعض.

  • أصول الفقه وعلم الاجتماع: بالنسبة لعلم الاجتماع فهو علم يقوم بدراسة الظواهر الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات الإنسانية.

ويمكن أن يستفيد علماء الاجتماع من بعض المباحث الأصولية في دراسة الظواهر الاجتماعية، مثل القياس، العلة، والتعارض والترجيح.

فأما القياس، فمن حيث قياس ظاهرة معينة بأخرى، وهذا ما يبينه كلام ابن خلدون في كتابه “المقدمة”، حيث قال: ” وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط” (24).

فابن خلدون في كلامه هذا ذكر بعض المصطلحات الأصولية، كالقياس، والسبر، والتقسيم، وهذا يبين وبوضوح توظيف المنهج الأصولي في تحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية.

وهنا نشير إلى كلام الدكتور الحسان شهيد: “وقد اعتمدت العلوم الاجتماعية الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس على قاعدة القياس من خلال ربط العلاقات الاجتماعية والنفسية بغيرها لاشتراكهما في علة واحدة أو السبب الواحد أو المقتضى الواحد، وذلك في إطار التشخيص والتفسير لتلك الحالات” (25).

كما يمكن لعالم الاجتماع أن يعتمد على مبحث التعارض والترجيح، وهذا المبحث الأصولي النفيس لا يمكن أن يستغنى عنه في العلوم الإنسانية في دراسة الظواهر الاجتماعية، فعند تعارض الظواهر فيما بينها يمكن اللجوء إلى ما سطره الأصوليون في مبحث التعارض والترجيح.

فالتعارض والترجيح قضية إنسانية تقع في العلوم الإنسانية عموما، فعند تحليلنا لجزئيات ظاهرة معينة، قد تتعارض هذه الجزئيات أو قد تتعارض الظاهرة مع أخرى.

ولا يمكن أن نصل إلى حل دون الرجوع إلى قواعد الأصوليين في هذا المبحث، فقد نوفق بين الظاهرتين وإما أن نفكك جزئياتها ثم ندرس كل جزئية على حدة.

كما أن المجتهد الأصولي قد يستفيد من مناهج علماء الاجتماع ويعتمد عليها في بناء القواعد واستنباط الأحكام الشرعية.

قال الدكتور الحسان شهيد: “ويمكك الاستفادة من علم الاجتماع من خلال مناهجه العلمية المستثمرة في التأسيس للنتائج، كمنهج الاستقراء أو التتبع والاقتفاء للحالات والقضايا المعروضة اجتماعيا، وكذا من التجارب السننية والاجتماعية في معرفة الخيوط الرابطة بين المقدمات والملاحظ والنتائج، هذه كلها آليات منهجية للمجتهد أن يستفيد من نتائجها، أولا في بناء القواعد واستنباط الأحكام الملائمة” (26).

إذن فلا ريب ولا شك ولا جدال في أن قضية التكامل المعرفي بين العلوم أصبحت ضرورة من ضروريات البحث في العصر الحديث، حيث أن العلوم تتشابك وتفاعل وتتداخل وتتناصر وتناظر فيما بيها، والأفكار والمعارف تنتقل من علم إلى علم آخر، وذلك إزاء تحقيق رؤية شمولية منظمة.

المصادر المعتمدة:

  • عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه، الطبعة الأولى: 1435هـ/2014م، ص 15.
  • فخر الدين الرازي، مناقب للإمام الشافعي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، ط: الأولى، 1406هـ/1986م، ص 158.
  • ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط: 2، 1408هـ/1988م، ص575.
  • فخر الدين الرازي، المحصول، دراسة وتحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1418هـ/1997م، ص 80.
  • الحسان شهيد، التكامل المعرفي بين العلوم، ط:1، دولة الكويت، 1435هـ/2013م، ص 21.
  • طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط: 2، ص 90.
  • نفسه.
  • الشهرستاتي، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، ج 1 ص 41.
  • أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في علم الاعتقاد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط: 1، 1424هـ/2004م، ص 134.

10-الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، مكتبة الحلبي، مصر، ط: 1، 1350هـ/1940م.

11-الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق لبنان، ص 8.

12-أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: صلاح الدين بن محمد بن عويضة،

ط: 1، 1418هـ/1997م، ص 7.

13-عياض السلمي، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، دار التدمرية، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط: 1، 1426هـ/2005م، ص 23.

14-محمد الناصيري، العلاقة مع الآخر في ضوء الأخلاق القرآنية، نشر دار الهادي، ط: 1، 1430هـ/2009م، ص 364.

15-مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة، ص 230.

16-محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير بادشاه الحنفي، تيسير التحرير، دار الفكر، بيروت، ص 48.

17-الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق 1
  1. ABDERAHIM AZAIKOU يقول

    تبارك الله عليك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.