اليمن بين صراعات التحرير والعبودية

0 21

صراع الإله والعبودية

د. جمال الهاشمي

تعرضت المفاهيم العبودية الغربية لنقد فلاسفة التقدم، مفكرو الغرب المدانون بقوانين الكنيسة الدائنون لمجتمعاتهم بالتقدم؛ الفلاسفة الذين تحرروا من التقاليد والعادات البائدة، وكفروا بقوانين الكنيسة والسياسات السائدة،  هولاء هم  المنبوذون في خطابات السلطتين السياسية و الكنيسة،  هم الصابئة والخوارج المارقة، أحفاد  الساراسان البرابرة، وهم الذين حكمت عليهم مجتمعاتهم  أن يذبحوا  قربانا للكنيسة الوثنية الأوربية.

هذه المجتمعات الغربية هي التي كانت مجتمعات سقراط في العالم اليوناني القديم، ومجتمع الثلايا فيلسوف التحرير في الثورة اليمنية، ذلك الفيلسوف الذي لم يكن فقهيها، و الذي جعل من لعنة الشعب فلسفة جديدة بمعاني الحرية. هي نفسها فلسفة التلاعن الذي صنعته اللقاءات الكنسية  التاريخية، والتي تتناقض أو انحرفت عن مسار وفلسفة الأنبياء العادلة “إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن ترحمهم فإنك أنت الغفور الرحيم”.

وليست هي دعوة نوح عليه السلام ” رب لا تذر على الأرض من الكافرين” لأن الفرق واسع بين من يمضي عمره في صناعة الوعي والعلم والعقل والحرية، وبين من يسعى لتحرير الجسد الذي يحرر الإنسان من عبودية إنسان، ليدخله في عبوديته إنسان آخر.

في الحقيقة لم يكن الشعب اليمني يستحق اللعنة، لأنه تربى على ثقافة الجهل و العسكر، ولأن قائلها من العسكر.

  “لعن الله شعبا أراد لي الموت وأردت له الحياة”  هذه الفلسفة ليست أكثر من أناشيد التحرير ولم تكن إلا مدخلا لعبودية جديدة.

تلك المفاهيم الفلسفية التي حررت أوروبا من ثقافة الأخلاق الكنسية والسياسية لم تكن مفاهيم حضارية، بقدر ما كانت مفاهيم فكرية نقدية تبحث عن الحضارة في منظومتها النقدية، لم يغير الفلاسفة أنظمة الحكم، وإنما غيروا سلوكيات الحكم. فما تزال فيها ممالك قائمة، وإن تغيرت بعضها، لأن التغيير الفلسفي كان مبني على الغاية، وليس تغيير الصورة. تحددت غايتهم بصناعة جديدة تدعو الوعي الجماهيري لتجسيد  ثقافة الحرية والمساواة  والإنسانية ، قبل أن يدخل المجتمع في نظام عقد مع السلطة على نظام الحكم.

أما نحن  فقد ركزنا على تغيير صورة النظام وليس السلوك والغاية، أخرجنا من ثقافة الدين والتعاليم والنبوة إلى ثقافة الفلسفة السفسطائية الجدلية الانتقادية  وصناعة الفلسفة الرمزية، ثقافة البحث عن الدين من دين حضاري آخر، ثقافة المتدين الذي يسعى لمحاكمة الإسلام بثقافة الإنسان،  وبمدنية وحضارة الإنسان الآخر. ثقافتنا الإسلامية هي الوحيدة التي أوجدت حاكما كالمحكوم، إن لم يكن أدناهم في الدنيا وأعلاهم في الآخرة.

ونتيجة لاختلال مفاهيمنا عن الحرية والتحرير والحضارة والدين ما زلنا نتصارع  بعد ثورتين خلفتا حروبا أهلية جميعها  تسعى لتأصيل الرمزية في طوائفنا وجهوياتنا وقبليتنا وأحزابنا، رمزية الشهيد الثلاثا والعلفي والزبيري، والشهيد الذي حكم وابن الشهيد الذي سيحكم،  سلبية مائة عام من التمرد والاتقلابات والثورات ضد العثمانية والاستعمار وضد الأنظمة الحاكمة، وسلبية المحاصصة، وسلبية ابن الشهيد الحاكم، وهو يتغير حالنا في السلوك من الثورة إلى الصراع  إلى السلطة .

إن  الثلايا لم يكن فيلسوفا في الحقيقة، بل كان متحررا ومنبهرا بثقافة الآخر،  ولم يكن مهندسا لمفاهيم الحرية بل كان تابعا لمفاهيم الثقافة الناصرية، والفرق بين المفهومين في أن الأول يترجم الثاني يودخل منه ، والثاني يؤطر للأول ويهندس له، الأول وسيلة لغاية، والثاني منظومة وغاية ، الأول سلوك الجسد والنظام والقوة،  والثاني هندسة العقل والنظام والثقافة.

لكن عندما ينفصل  السلوك الجسدي عن إدارة العقل وذهنيته التنظيمية يتحول الفيلسوف والثائر إلى أداة أو اللاوعي ، وهنا يمكننا القول بأن الثلايا  والعلفي والحمدي  لم يكونوا إلا مهندسين لنظام الجهل العسكري، القبلي، والأيدلوجي المركب، وما تزال  ثقافة الارتزاق العسكري تنقاد لوظيفة، وتحارب من أجلها.

وعندما خرج الحمدي بأدواته العسكرية لفرض المدنية الغربية وسلوكياتها المنتظمة، أدرك في الأخير أن المجتمع اليمني رغم الخطابات التي تحمل مفاهيم التحرر والحرية لم يكن بمستوى الوعي القادر على حماية فلسفة التحرير بالحرية أقصد بالوعي العام للشعب والجندية والإدارة، الوعي  الذي يحقق الانسجام العام مع مفاهيم الحرية. وتحولت اليمن من بعده إلى أسوأ ما كانت عليه قبل الجمهورية.

. هذه الثقافة الإدارية القبلية ، وثقافة القوة والجندية هي التي انتجت لنا مجتمعات فوضوية مادية، تعبد المادة والمصلحة والذات في الوقت التي تعبد فيه الله، وبأموال الرشوة والحيل والمال العام يعالج الموظف زوجته العاقرة ، ويحج بها إلى بيت الله الحرام,.

إن فلسفة الجهل صناعة نظام عسكري لم تكن في دولة الفلاسفة ولا في دولة الإسلام الممتدة حتى نهاية دولة بني العباس، ولا في أمريكا وأوروبا المتقدمة، إن الجهل العسكري هي فلسفة اليوم فلسفة البشير القائلة  بأن قطرة الدم أغلى من قطرة الحبر،ولو كان قد تعلم لأدرك  بأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن العلماء هم فلاسفة الخشية وفلاسفة النجاة وأصحاب الأمر.

إن الدماء ليست مقدسة بذاتها، وإنما تتقدس بالنبالة والعلم، الرسالة، الهدف بالغاية التي تدافع عنها، وقدسية الحبر ليس بالشهادات والعمامة، وإنما بالأخلاق، بالقيم، بالصدق، بالأمانة، بالفضيلة.  ف الدم وسيلة لحماية الحبر والشرف والفضيلة، والثاني وسيلة لحماية العلم والشرف والفضيلة.

لم تكن ألقاب النبالة والشرف موقوفة ومتوارثة، وإلا لما كان اليهود من بني إسرائيل حقراء العالم، ولما كان من قريش أغيلمة سفهاء أفسدوا المعالم. إذا فالنبالة والسيادة والشرف لم تكن علما بذاته.

هذا الفرد النموذج الذي يقلده مثقفو العبودية ، ويتجشمون ثقافاته وتعاليمه وأوامره. هو السيد الذي يضيء حضارته بسلوكه وكتاباته، هو المثقف الذي يطور تاريخ آباءه وأجداده، هو الذي يترجم في كتاباته قيمه ومعتقداته.أما مثقفي اليوم أقصد مثقفي  العالم المستعبد، مستحمري اليوم حمير الغد، وحملة أحجار المعبد،  ليسوا أكثر من أصداء  طبلة مقارعها في الغرب. هذه ثقافة التاريخ التي  ننقدها، وهذه كتابة التاريخ التي ننقلها  ذلك الصنم الأعظم، والمعلم الأكبر، ذلك التاريخ الذي اغتصب شرائع الإله واحتجب.

التاريخ الملوث بدماء الجهل، أو تلك الآداب السلطانية التي جعلت من السلطان ظل الله ووكيله الأكبر، هو ذلك التاريخ وإسرائيلياته التي أخضعت تعاليم  الإله للعرق. ذلك التاريخ الذي أطلق العبيد والقنان من قيود العبودية الكنسية إلى رحى المعارك الصليبية، وهو التاريخ نفسه يتجدد ويقذف بنا في رحى الصراعات الجغرافية والقومية والحزبية والطائفية والسياسية.

إن مصيبتنا اليوم نحو طريق الجحيم، هي نفس اللعنة التي كانت تلاحقنا في التاريخ القديم، وما يزال القرآن ينهانا عن عبودية التاريخ “غير المغضوب عليهم ولا الضالين”، يطلب منا الوعي باالتاريخ وليس عبادته “قل سيروا في الأرض فانظروا”. وكما أن السير هو الغاية من النظر، فإن التحرير هي الغاية من الحرية، حرية العقل وحرية النفس وحرية السلوك التي تعاني مقاسمة الحرية بين الإنسان وتحرر الإنسان من عبودية الإنسان.

لم يكن فقراء الصليبية يسعون للقاء الإله المحتجب، ليتحرروا من عبودية الروح، ولم يكن الموت اختيارهم، ليتحرروا من عبودية الجسد، وإنما كان يعبدون الموت لأن فيه خلاصهم، هذه العبودية هي التي يسعى إليها العربي اليوم ، ويمر على القبر فيقول يا ليتني كنت مكانه.

هولاء وأولئك كانوا يعلمون أن العبودية امتهان لكرامتهم، ويرون في فلسفة الموت تحرير لأجسادهم، وبدلا من تحطيمه والثورة عليه، سعوا في مغامرات الموت للدفاع عنه. أليس هذا هو الوعي اللئيم الثمل برواسب الجهل؟ أو ليس هذا هو مستنقع الأفكار المرذولة؛ المحطمة لقداسة العقل. هو ذلك العالم الأوربي الذي تحرر بفلاسفة اليوم، وهو عالمنا اليوم الذي حررنا من حرية الأمس؛ نفي النفي. هذه فلسفة العبيد يزعمون أن الولوج إلى حرية الروح يكون بتحرير مسالك الموت، ليس شوقا للقيا الإله وإنما خلاصا للروح بتحرير الجسد.

رحل الكثير وتحرروا من الدنيا،  وبقي الكثير وقد تحرروا من سلطة الروح، ولم يتحرروا من عبودية الأنا ، ومن ثقافة العبودية أو امتهان الآخر، كما تحرر المهاجرون الذين عبروا البحار بحثا عن الخلاص،.. لكنهم لم يتحرروا من عبودية الفقر والفكر والتقليد، غيروا مظاهرهم، و ثقافاتهم، و أخلاقهم، وظنوا ذلك منتهى التقدم،  ولم يستطيعوا تغيير نظرة الآخر.

إن الأزمة   ليست في الجغرافيا الطبيعية التي أكرمتنا بفيروس كورونا، وليست في الحروب التي تطحن رحاها في دمائنا واقتصادنا، وليس في أعدائنا، وليس فقرنا واحتياجنا… إنما الأزمة في أخلاقنا؛ صدقنا أمانتنا، ثقتنا، مسؤوليتنا. وليس الوباء في سارس و كورونا؛ إنما الوباء في رذائلنا: غشنا، كذبنا، خيانتنا، جشعنا، تقعرنا، تعالمنا، تعالينا، جهلنا، تظالمنا.

المشكلة في جغرافية العقل البشري أقصد بها الثقافة، ثقافة النظام العام الذي يطالب بالوحدة السياسية، وينسى ثقافة العدالة والمساواة والمسؤولية، ثقافتنا التي تطالبنا بالدفاع عن الجغرافيا والوطن والنظم السياسية وتنسى الحرية والعدالة والمساواة الإنسانية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.