شبكات التواصل الاجتماعي بين تصغير العالم ومركزية الثقافة الغربية

0 16

العايب ربيع

باحث في الدكتوراه فلسفة – جامعة قاصدي مرباح ورقلة- الجزائر

Rlaib85@gmail. Com

الملخص:
في ظل اشتداد ظاهرة العولمة، وزيادة الشعور بضرورة انجذاب العالم للأفكار التي تحملها، أحدث العديد من حالات الانفتاح المتبادل على مستوى العالم، ما أدى إلى نسف مركزية الدولة المحلية وإفقادها جزء كبير من سلطتها على مراقبة القيم الثقافية المحلية والوقوف عاجزة أمام طوفان المعلوماتية الجارف. ولعل هذا ما يبعث على ضرورة دراسة الدور الشامل لتكنولوجيا التواصل دراسة دقيقة، لا بوصفها أداة لتحقيق الهيمنة الثقافية فحسب وإنما باعتبارها تجسيدا لهذه الهيمنة ذاتها، لأن جاذبية التقنية ذات إغراء قوي ربما يمكن فهمه، لكن لا يمكن مقاومته خاصة بالنسبة إلى تلك البلدان الفقيرة وشعوبها. وهنا نستحضر أطروحة هاربرت ماركيوز التي مؤداها أن”القوة المحررة للتكنولوجيا – تحويل الأشياء إلى أدوات- تنقلب إلى قيد على التحرير، وتحول الإنسان إلى أداة (هابرماس، 2003، صفحة 5)، لهذا وجب الكشف عن مضمون تلك التكنولوجيا وأبعادها على مستوى القيم والأفكار والثقافات المحلية، فنطرح سؤال الأثر والانعكاسات، في تدويل مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، بين التعارف والهيمنة. فهل جُعلت تلك المواقع لتصغير العالم وتحقيق نبوءة العالِم والفيلسوف الكندي “مارشال ماكلوهان” بأن العالم سيكون قرية صغيرة ، لما أعلن في مطلع ستينيات القرن الماضي بأن: “العالم في طريقه بفضل ثورة الاتصال إلى أن يصبح قرية كونية صغيرة، أو لنقل قرية إلكترونية بشكل من الأشكال” . أم أنها تحمل مشروعا خفيا يكرس مركزية الغرب الثقافية ؟ وهل أضحى العالم خاضعا لبرمجيات استيلابية ناسفة لقيم الإنسان والحضارة؟ وما موضع القيم وأنماط الحياة الأخلاقية بين سيول التقنية الجارفة؟ وكيف السبيل لتحقيق الانسجام والفاعلية الوظيفية بين عالمية التقنية وبين مركزية التسيير لتنهيج وتقنين استراتيجيات التثاقف البشري في راهن الحضارة ؟
مقدمة:
بدأت قصة تكنولوجيا الاتصالات حين أعلن “ستانلي ميلغرام Stanley Milgram” في سنة 1969، أنه يكفي في المتوسط ستة روابط لربط اثنين من المجهولين في الولايات المتحدة الأمريكية…وبعد أن توسع نطاقها أسفرت العملية عند عدد هائل من المستخدمين؛ وصل إلى ما عدده 69 مليار صلة بين 721 مليون شخص كانوا على اتصال بموقع الفايسبوك في مايو 2011 وبذلك تحققت فرضية تصغير العالم بفعل الروابط التكنولوجية للاتصال والرسائل الفورية سواء من مايكروسوفت أو تويتر أو فايسبوك…وغيرها (Forse, 2012, p. 155)ولذلك فإن العالم أصبح أصغر، على هذه الشبكات الاجتماعية مما كان يُعتقد سابقا… فنجاح الفايسبوك اليوم والعدد الكبير جدا من مستخدميه في العالم أصبح مثيرا للاهتمام بطبيعة الحال، إذ حقق فرضية القرية العالمية الصغيرة من جهة، ومدّ جسور التواصل على نطاق عالمي من جهة أخرى.
ويتوقع العالم اليوم، بأن ذلك التوسع العالمي في نقل البريد الكترونيا وشبكات المعلومات ونظم استرجاع البيانات عن طريق بنوك المعلومات، سوف يؤثر تأثيرا هائلا في السنوات المقبلة لا محالة على الثقافات بدرجة أكبر من تأثير أي نظام للبث المباشر، لهذا يتعين على البلدان المنفعلة أن تضع في اعتباراتها كل تلك التحولات المستقبلية، فقيمها وخصوصيتها الاجتماعية على المحك. خاصة في ظل اشتداد ظاهرة العولمة، وزيادة الشعور بضرورة انجذاب العالم للأفكار التي تحملها، ما دفع إلى إحداث العديد من حالات الانفتاح المتبادل على مستوى العالم، ما أدى إلى نسف مركزية الدولة وإفقادها جزء كبير من سلطتها على مراقبة القيم الثقافية المحلية والوقوف عاجزة أمام طوفان المعلوماتية الجارف. ولعل هذا ما يبعث على ضرورة دراسة الدور الشامل لهذه التكنولوجيا دراسة دقيقة، لا بوصفها أداة لتحقيق الهيمنة الثقافية فحسب وإنما باعتبارها تجسيدا لهذه الهيمنة ذاتها، لأن جاذبية التقنية ذات إغراء قوي ربما يمكن فهمه، لكن لا يمكن مقاومته خاصة بالنسبة إلى تلك البلدان الفقيرة وشعوبها. وهنا نستحضر أطروحة هاربرت ماركيوز التي مؤداها أن” القوة المحررة للتكنولوجيا – تحويل الأشياء إلى أدوات- تنقلب إلى قيد على التحرير، وتحول الإنسان إلى أداة (هابرماس، 2003، صفحة 5)، لهذا وجب الكشف عن مضمون تلك التكنولوجيا وأبعادها على مستوى القيم والأفكار والثقافات المحلية، فنطرح سؤال الأثر والانعكاسات، في تدويل مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، بين التعارف والهيمنة. فهل جُعلت تلك المواقع لتصغير العالم وتحقيق نبوءة العالم والفيلسوف الكندي “مارشال ماكلوهان” بأن العالم سيكون قرية صغيرة ، لما أعلن في مطلع ستينيات القرن الماضي بأن: “العالم في طريقه بفضل ثورة الاتصال إلى أن يصبح قرية كونية صغيرة، أو لنقل قرية إلكترونية بشكل من الأشكال” . أم أنها تحمل مشروعا خفيا يكرس مركزية الغرب الثقافية، وهل أضحى العالم خاضعا لبرمجيات استيلابية ناسفة لقيم الإنسان والحضارة؟ وما موضع القيم وأنماط الحياة الأخلاقية بين سيول التقنية الجارفة؟ وكيف السبيل لتحقيق الانسجام والفاعلية الوظيفية بين عالمية التقنية وبين مركزية التسيير وتنهيج وتقنين استراتيجيات التثاقف البشري في راهن الحضارة ؟
أولا: شبكات التواصل الاجتماعي المفهوم والأثر:
ظهرت أول شبكة اجتماعية منذ عام 1997، اسمها سيكس دوغري SIX DEGREE إلا أنها لم تلق رواجا كبيرا إلا منذ حوالي خمس سنوات، مع انطلاق مواقع Freindster, My space, Facebook وتقوم هذه المواقع على فكرة بسيطة، يطلق عليها “الدرجات الست للانفصال”، أي الافتراض أن أي شخص في العالم تفصلني عنه ست درجات(أو أشخاص) واستطيع الوصول إليه عن طريق هؤلاء الأشخاص (رشا، 2010، صفحة 123).
وتكشف إحصائيات نشرت في سنة 2014 عن الأرقام الآتية:
 بلغ مستخدمي الفايسبوك Facebook1,184 مليار مستخدم حيث بدأ الموقع في عام 2004 كشبكة لبعض الجامعات الأمريكية حينها تم فتح الموقع لانضمام كافة المستخدمين.
 بلغ عدد مستخدمي موقع غوغل بلاس 300Google plus مليون مستخدم حيث بدأ الموقع في 2011.
 بلغ عدد مستخدمي موقع لينكدإن 259Linkedin مليون مستخدم حيث بدا الموقع في عام 2003.
 بلغ مستخدمي موقع تويتر 232 مليون مستخدم حيث بدا الموقع في سنة2006 (لونيس، 2020، صفحة 33).
ومع تطور وسائل الإعلام الالكترونية بدأت حقبة إنسانية جديدة، تم من خلالها إلغاء حاجز المسافة الذي كان يبعد بين الدول الشعوب، والإعلام كسلطة تكنولوجية ذات منظومة معقدة تستخدم تقنيات متطورة في نقل المعلومات والأفكار والإيديولوجيات وقد تعددت وتوسعت مهام وسائل عولمة الإعلام بعد أن أضيف لها وسائط اتصال حديثة وفعالة أهمها أقمار الاتصال وقنوات البث الفضائي والحاسوب والانترنيت” (عبدالله، 2006، صفحة 268)، فتوحدت الأطر الثقافية العامة للمجتمع الدولي وهو ما خلق مفارقة تتعارض مع خطاب التعددية الثقافية الذي نصت عليه شرائع والهيئات العالمية كهيئة الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، وخرجت بتوصيات الحفاظ على فكرة الثقافات الموازية أو المتساوية كرصيد إنساني مهما كانت صفات المجتمع التي تحويها. بل أفضى توسع ولا محدودية شبكات التواصل الاجتماعي إلى إيجاد ثقافة مركزية، تحتل مركز الثقل والشدة ومبدأ القوة والفعل، ومصدر الإلهام والطاقة الفكرية التي تنتشر على نطاق واسع ويصل تأثيرها إلى أبعد نقطة في العالم بواسطة قدراتها التكنولوجية العالية. فأصبحت تشكل -تلك الثقافة المركزية- إمبراطورية فكرية ونموذج إمبريالي فريد. “فتفجر الظاهرة المعلوماتية الاتصالية، ينذر بتقلص ثقافات إفريقيا واسيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي وانحصارها في شكل كيانات فلكلورية هشة لا مكانة لها في المسار التاريخي والبناء الحضاري، وتنذر هذه الثورة الاتصالية التي لم تعد تتقيد بعوائق الوقت والجغرافيا بتحول العالم إلى ما سماه مارشال ماكلوهان  Marshall McLuhan إلى وحدة قبلية أو قرية واحدة” (عزي، 1990، صفحة 90).
تلك الثورة الاتصالية كانت إيذانا ببداية عصر العالم المتناهي وقد بدأ بوصفه نهاية لتعدد العوالم، هناك عالم واحد يتجه إلى أن يغدو عالما متماثلا، وهذا الانعدام للتمايز بين الكائنات البشرية على مستوى الكرة الأرضية هو في الواقع تحقيق للحلم الغربي القديم، وبالامتثال لطريقة الحياة الأمريكية، تكمل الكائنات البشرية انجاز الحلم الجامح، لـ”تيودور روزفلت” بأمركة العالم. بل كان كذلك حلم كل الامبرياليين وكما يقول “أناتول فرانس Anatole France “: الحلم بإنجلترا عظمى، بألمانيا عظمى، بأمريكا عظمى يقودنا مهما شاء المرء أو فعل إلى الحلم بإنسانية عظمى” (لاتوش، 1992، صفحة 30). ففكرة عولمة الثقافة هي جوهر المركزية الحضارية عبر التاريخ وروح الحضارة الغربية الحالية التي استطاعت أن تفرض نموذجها وتوجه التنوع الحاصل على مستوى ثقافات الشعوب والأمم نحو الوحدة والتجانس، إنها فكرة تتجاوز الحدود الجغرافية والمؤثرات الطبيعية كالبرودة والحرارة وطبيعة الأرض، وذلك عن طريق توسيع شبكة الاتصالات العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ فلقد عرفت الثقافات منذ القدم تقييم ذلك الرصيد الحضاري لمقومات الهوية المحلية والأعراق الشعبية، وحملت تصنيفات الأعلى والأدنى، المتحضر والمتخلف أو المدني والبربري سواء على أساس عرقي أو جغرافي أو ديني، فكانت الثقافة السائدة هي ثقافة المركز المتمدن، ولاشك أن استخدام الدراسات الثقافية للاستراتيجيات والنظريات التي تزحزح المركزيات والأصوليات وأثار الاستعمار وغيرها من الاتجاهات الثقافية والفكرية، هي ذات أصول وأهداف، رأسمالية وفكرية برجوازية . هكذا فإن ” إن السيطرة على البشر وعلى المجتمعات تتطلب في الوقت الحاضر الاستخدام الموجه للكلمات والصور. فمهما كان جبروت القوة التي يمكن استخدامها ضد شعب ما، فإنها لا تفيد على المدى البعيد(والذي لا يمكن ألا يستمر طويلا) إلا إذا تمكن المجتمع المسيطر من أن يجعل أهدافه تبدو مقبولة على الأقل، إن لم تكن جذابة بالنسبة لهؤلاء الذين يسعى لإخضاعهم. من هنا تمثل مناهج ورسائل (وتوجهات) وسائل الاتصال أهم أدوات أصحاب السلطة والنفوذ المحدثين وأكثرها حيوية. فالحالة الشعورية لسكان بلد ما لها دورها الملموس في تحديد سلوكهم السياسي. والمعتقدات والآراء قابلة للتأثر إلى حد بعيد بذلك الضرب من التوجيه الجماهيري المضلل، الذي يمارسه النظام الأمريكي للسلطة بمهارة فائقة” (شيلر، 1999، صفحة 171).
لاحظ “جورج جربنر George Gerbner (1919-2005)” في مقال له بمجلة سينتفيك أمريكان” أن السؤال الحقيقي لا يتمثل فيما إذا كانت أدوات الاتصال الجماهيري حرة أم لا، وإنما يتمثل في كيف، ولأي هدف، وعن طريق من، وبأي نتائج مترتبة تتم ممارسة عمليات التوجيه والسيطرة التي لا محيد عنها؟ (شيلر، 1999، صفحة 28). والجواب هنا ممكن وبارز في اغلب الأحيان، فلد أفرزت أدوات الاتصال محورين عالميين الأول تشكله الدول العظمى والأخر تشترك فيه باقي الدول النامية، وبذلك فإن تحرير تلك التكنولوجيا من أية إيديولوجيا أمر شبه مستحيل، فبالرغم من الهدف الاقتصادي والتجاري الواضح إلا أن الفعل الاتصالي يحمل مضامين ثقافية دفينة، ترجمتها مركزية أمريكا الثقافية، التي رصد لها العديد من الباحثين والمفكرين التنظير والتأييد وحتى النقد والتصدي إلا أنهم وجدوا أنفسهم أمام حقيقة ساطعة لا يمكن تجاهلها، أسست لتربع أمريكا على عرش الاتصالات وما العملاق غوغل Google، وشبكات التواصل الاجتماعي ك فايسبوك وتويتر وانستغرام، ولينكدإن خير دليل على تلك الهيمنة، فما كان منهم إلا أن أجهزوا على ثقافة وفكر بقية العالم. “وبدأ الأمريكيون ينشرون معتقدات إيديولوجيتهم على نحو مستتر وفي نفس الوقت يقوضون الثقافات الأخرى التي يزعم الأمريكيون أنها هشة ويؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى ضرب من الميوعة وهيمنة مراكز التسويق التجارية لتطويع وتشكيل الحياة في كل أرجاء الكوكب الأرضي” (الخليل، 2014، صفحة 38). فتكنولوجيا الاتصال، باستخداماتها الحالية، تروج لتوجهات بلا تاريخ، وبالتالي فهي توجهات مضادة للقيم المحلية.
ثانيا- أثر شبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز العولمة:
ظهر مفهوم العولمة ليرفع شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف بديلا عن التمزق والتشتت والفرقة، وتقاطع الأنساق الثقافية، فبدت كأنها تُسقط على تاريخ المجتمعات الإنسانية شروطا جديدة لتغيير مسارها التقليدي، حيث تتمركز حول جملة من القيم والرؤى المحدَدَة، فكانت العولمة بذلك وسيلة لتعميم نزعة الحداثة على مستوى العالم كما أنها تعبر عن نزعة إيديولوجية أفرزها التمركز الغربي الحديث. إذ “تريد العولمة سيطرة دولة واحدة، قطب واحد، على النظام العالمي، أما العالم فيريد تعددا للقطبية ودورا لجميع الدول صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها في تقرير مصير العالم ونوع النظام الذي يسوده” (شفيق، 1999، صفحة 74)، وبهذا تشطر العولمة العالم إلى شطرين، وتعمق بينهما التناقض: عالم تمثله المجتمعات التقليدية، وعالم آخر تمثله المجتمعات الحديثة. بذلك ذوبّت نزعات الحداثة والعولمة بعض الحدود الرمزية الفاصلة بين التجمعات القومية والعقائدية، وفكّت الانحباس التقليدي المتوارث فيها، وجذّرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم التمركز والتفوق والتفكير بسيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، وهو أمر نشّط مرة أخرى المفاهيم المتناقضة. إذ أن العولمة ترسم سيطرة دولة واحدة تكنولوجيا وسياسيا، وسيطرة شركاتها المالية على السوق العالمية وكل ما يباع ويما يشترى في العالم، ممتدتا إلى كل الأسواق المحلية، كما سيشمل هذا إلى جانب المال والثروات والصناعة والتجارة سيطرة موازية على التكنولوجيا والعلوم والاتصالات والإعلام والثقافة…وغيرها، فيكون العالم ذو ثقافة واحدة هي الثقافة الأمريكية في طبعتها الحديثة، وقيمها التي تجاوزت أو راحت تتجاوز الثقافة والقيم الأمريكية التي عرفتها أمريكا منذ ثورة الاستقلال حتى وقت قريب (شفيق، 1999، صفحة 74)، ومن الأعراض أو النتائج الثانوية لسيادة العولمة المالية وتفكك الدول القومية، ارتفاع أصوات النزاعات الطائفية والثقافية، في ظل هذه الأوضاع الجديدة يشتد حنين الإنسان إلى خصوصية صميمة وهو يحيا في بيئة متشابكة مربكة تنذر بزوال قضيته العامة، أو خصوصيته القومية (صامويل، 1999، صفحة 19)، أي أن العولمة تقوم على مبدأ تعميم الشيء وإكسابه صيغة العالمية وتوسيع دائرته ، ليشمل العالم أجمع.
ووفقا لما ذكره “كاي نيلسنKai Nielsen “فإن كلمة عولمة في بحد ذاتها، لا تعني سوى تجاوز الحدود، وإفساد المناطق، وحقيقة أننا نشاهد العالم كله كمكان واحد، وهو الوضع المناسب للحداثة المفضلة من تزايد تداول السلع والرسائل والأفكار والأشخاص. ويرى نيسلن أنّه من المناسب، التمييز من الناحية المفاهيمية بين أمرين: أولا، سيكون من الضروري التمييز بين العولمة والعولمة الرأسمالية، التي ستكون الشكل الحالي للعولمة، ولكنها لن تكون أقل من شكل ممكن بين أشكال أخرى. ويمكن أن تحدث العولمة أيضا في إطار اشتراكية عالمية أو اتحاد كوسموبوليتيكي بمعنى كانط (Couture & Courtois, 2005, p. 1). ويضيف كاي نيلسن في هذا السياق، أن هذا الوصف للعولمة لن يكون دقيقا إلا بشكل جزئي، حيث أنه لا يتفق إلا مع شكل معين واحد، وليس مع كل أشكال العولمة. ولكن نيلسن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: فهو لا يرغب في التمييز بين العولمة والعولمة الرأسمالية فحسب، بل وأيضاً بين العولمة الرأسمالية والإمبريالية. إذ أن الامبريالية، التي تتكون من السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية للعالم من جانب قوة إمبريالية، تجسدها الولايات المتحدة حاليا، ستكون شكلا من أشكال الاستغلال الأكثر تهديدا وخبثا للناس (Couture & Courtois, 2005, p. 1).
أدى بروز وسائل “الإعلام الاجتماعي” الجديدة، إلى ظهور أشكال متعددة للعولمة من أهمها العولمة الثقافية والتي تعززت بفضل تقنيات التواصل الجديدة وتزايد أعداد مستخدمي ورواد مواقع التواصل الاجتماعي .لقد أصبح العالم قرية واحدة بفضل تواصل الأفراد مع بعضهم البعض على منصات –السوشيال ميديا-، فيتناقلون فيها معلومات جديدة تغذي عقولهم وتغيير ميولاتهم واتجاهاتهم مما أدى إلى بروز تيار عولمي جديد يهدد النسيج الاجتماعي للشعوب، ويعمل على تفكيك الهوية الثقافية المستقلة مما يطرح إشكالات عديدة حول مخاطر عولمة شبكات التواصل الاجتماعي، مع تزايد أعداد مستخدميها حول العالم. وقد أشارت “إليزابيث ليندر ” المختصة في السياسات والشؤون الحكومية في الفايسبوك إلى أنه بات من المواقع التي تستخدم يوميا من قبل الناس، بحيث يكتبون ويضعون كل المعلومات التي تهمهم على صفحاتهم. وأكدت أن هذا الموقع يلبي حاجات الناس من خلال مراقبتنا ما يفعلون، ففي البداية لاحظنا أنهم يحبون تبديل الصور الشخصية وتيقنا أن موضوع الصور يهمهم، لهذا أضفنا إمكانية تحميل الصور على الموقع، في إشارة إلى أن القائمين على الفايسبوك يهتمون بتلبية رغبات العملاء من خلال مكاتب دراسات متخصصة تمكنهم من ضبط التوجهات العامة التي يميل إليها المتعاملون، وقالت أن الموقع لم يعد محددا ضمن أطر التواصل الاجتماعي فقط، فكل شخص يجد اهتماماته عليه، إذ يمكنه أن يتابع الأخبار السياسية إن كانت تهمه، أو أي مجال آخر (زرزايحي، 2020، الصفحات 545-546) ، أي أن الفايسبوك يمنحك ما ترغب في رؤيته باستمرار فقط، فيحد من منظورك للأشياء ويأسرك داخل رغباتك، تلك هي سياسة الاستحواذ على العقول والاهتمامات التي تنتهجها مواقع التواصل الاجتماعي عموما.
هكذا اجمع الباحثون الغربيون أنفسهم على ارتباط العولمة الثقافية بالامبريالية الغربية التي تتجدد فعليا من خلال مشروع العولمة، كما أنهم لم يخفوا تخوفهم من هذا المد الأمريكي الداعم لبرنامج عولمي عام، تأكيدا على النزعة المركزية الأمريكية لا غير، وسط العالم فحتى أوروبا-مهد المركزية الغربية- وجدت نفسها داخلة في بوتقتة الفكر الأمريكي ونزعته الإمبراطورية الهادفة إلى الهيمنة على العالم، وهو مشروع وحقيقة تكرَّس أكثر من خلال سياستها الخارجية والاقتصادية القائمة على مبدأ الزعامة والفوقوية، وإذا كان هذا هو حال أوروبا، فما هو حال عالمنا العربي الإسلامي اليوم في ظل العولمة الأمريكية ؟ الذي لا يملك نصيبا من تلك التكنولوجيا فيغدو شبابه منفعلا وليس فاعلا خاصة وأن الفايسبوك وغيره أصبح يجعل من التافهين والمغامرين وحتى الفاسدين بمثابة أشخاص أكثر تأثيرا ومتابعة، على عكس تلك المنشورات التي تدعو إلى العودة إلى الثقافة والقيم والعادات المحلية.
ثالثا: مركزية الثقافة الغربية مشروع لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي:
نعني بالمركزية الثقافية، وجود نظام ثقافي أممي تحتل فيه بنية ثقافية ما، مركز الهيمنة ومركز للانبعاث الثقافي والحضاري والقيمي، فتتموضع ثقافتها فوق كل الثقافات، وتتغلغل في قالب لاشعوري يقع في لاوعي أفراد الثقافات الهامشية، أو الأقل تأثيرا فتشعرهم بتخلفهم وضعف بنيتهم المعرفية، فتكون ثقافة المركز بمثابة المحور ومركز الثقل، التي تستعير منه باقي الثقافات هياكلها وبُناها لما لها من جاذبية، وفي هذا السياق نلمس حركية تجديلية من لدن المشتغلين على قضايا التثاقف بين طرفي كماشة، فإما الأخذ بها أو تركها لصد ذلك المجال المغناطيسي المنبعث والجاذب من ثقافة المركز. كما تعتبر ثقافة المركز قوة صانعة للتاريخ، تمارس ضغطا وحربا، تغزو فيها باقي الثقافات وتسعى إلى احتوائها، هذه المكانة المركزية هي نتيجة حتمية لمركزية المركز الحضارية وهي عملية طمس آلية للمضامين الثقافية للهامش، التي تحمل هوية ثقافية ومنظومة من القيم والعادات واللغة والتقاليد والمعتقدات والتاريخ المشترك. ومركزية الثقافة كذلك، “هي ما يشكله في ثقافة ما ترسخ من العقائد والفلسفات والعادات وقوانين الملكية والمؤسسات الاجتماعية، التي تعطي التميز الحاسم بين الذات والآخر مضمونة ” (إسماعيل، صفحة 10). ويمكن أن نقول باختصار أن الثقافة المركزية هي الثابت في ثقافة ما بالمعنى النسبي لمفهوم الثابت، الذي لا يجوز التنازل عنه للآخرين على الأقل في زمان ومكان محددين.
على هذا الأساس فإن المتـأمل في تضاريس الخريطة الثقافية في العالم اليوم، يتبين له أن معظم الثقافات المعاصرة إنما نبعت من التراث اليوناني والروماني أو امتزجت بتعاليم المسيحية واليهودية المحرفة التي وصلتها؛ ولهذا فإن معظم الثقافات السائدة في هذا العصر تعبر بصور متعددة عن روح الحضارة الغربية الحديثة، التي تتسم بالتركيز الشديد على التكنولوجيا بدلا من التركيز على التفسير وتوسيع نطاق التفاهم والتواصل بين الناس، ولأجل هذا تم تهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية (عبدالعزيز، 2015، الصفحات 37-38)، والواقع أن شكل الاتصال أو الإعلام، على النحو الذي تطور به في البلدان التي يسود فيها اقتصاد السوق وخاصة الولايات المتحدة، هو تجسيد فعلي للتحكم في الوعي وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة تامة في تقنية نشر المعلومات المستخدمة على نطاق واسع في أمريكا” (شيلر، 1999، صفحة 31).
ومن هنا أمكن تعريف مناطق الثقافة الهامشية -وهي القابعة في البلدان الغير صناعية والفقيرة- بأنها: “منطقة ثقافية متاخمة لمنطقة أخرى تتميز في الغالب بالفقر العام أو بكونها ذات طراز عتيق، أو جماعة ثقافية هجرت بعض تقاليدها المميزة لها، وتقبلت قيم وأساليب الحياة في جماعة أخرى. أما الثقافة الهامشية فهي ثقافة تقطع على تخوم حضارة متقدمة، وتقطع بجوار ثقافة أخرى، أغنى منها في الموارد والتقنية والثقافة العامة” (أحمد، 1999، صفحة 322). وفق هذا المنظور فإن مركز الثقافة فهو ذلك الجزء من مجال ثقافي ما، حيث يكون مركب من السمات الثقافية في المجال الواحد في منتهى القوة والكثافة مقارنة بغيره من الثقافات، أما المركز فهو المكان الذي تسود فيه سمة أو مركب ثقافي معين في صورته الأكثر انتشارا، فينطلق فيض ثقافي بمعنى فريد من بلدان المركز ويجتاح الكرة الأرضية بتدفق صور وكلمات، وقيم أخلاقية، وقواعد قانونية، واصطلاحات سياسية، ومعايير كفاءة، من الوحدات المبدعة على بلدان العالم الثالث يساهم فيه الإعلام كالصحف، والإذاعات، والتلفزيونات، الأفلام، الكتب اسطوانات، والفيديوهات، وكذا شبكات التواصل الاجتماعي؛ التي وضعت على أساس تصغير العالم وإلغاء الحدود وتمكين مستخدميها من التعارف والتقارب الثقافي والتبادل العلمي، غير أننا نعلم بأنه يرتكز الجانب الأكبر من الإنتاج العالمي للعلامات في الشمال، أو يصنع في معامل يسيطر عليها أو حسب معاييره (لاتوش، 1992، صفحة 27). لهذا يمكننا الحديث عن سيادة ثقافية للبلدان العظمى بشرط أن نفهم آلياتها جيدا، إذ توصف بأنها هبة وليس اغتصاب، بل يجد المركز نفسه متمتعا بقدرة استثنائية على السيطرة، فجلي أن “سوق المعلومات شبه محتكرة لأربع وكالات: اسوسيتيد برسAssociated press ويونايتد برس United press (الو.م.أ) رويترز البريطانية Reutersوفرانس برس France press وتشترك هذه الوكالات في كافة إذاعات العالم وكافة شبكات تلفزيون العالم، وصحف العالم، ويتدفق 65% من المعلومات العالمية من الولايات المتحدة الأمريكية ومن 30% إلى 70% من البث التلفزيوني مستورد من المركز، وعلى أية حال يستهلك العالم الثالث السينما أقل 5 مرات، الإذاعة أقل 8 مرات، التلفزيون أقل 15 مرة، الصحف الورقية أقل 16 مرة مقارنة بالمركز” (لاتوش، 1992، صفحة 27)، يمثل تدفق المعلومات في اتجاه واحد إلى حد كبير انطلاقا من المركز إلى المحيط موطن القوة فعليا، كذلك الأمر فيما يتعلق بترويج انتشار لغة واحدة هي الإنجليزية، وتبذل الجهود من أجل إيجاد واكتشاف تكنولوجيا اتصالية سريعة وشاملة، يتم استخدامها عن تماثل وثيق مع بنية واحتياجات القوى المهيمنة في مركز النظام (شيلر، الإتصال والهيمنة الثفافية، 2007، صفحة 21). هذه النسب الحسابية لم تكن وليدة اليوم بل أنها عبارة عن مشروع للهيمنة الاتصالية والمعلوماتية، أُعلن عليه سابقا من طرف مسؤولين أمريكيين كبار كـ”ليونارد ماركس Leonard Marks (1916-2006) ” المدير السابق لوكالة المعلومات الأمريكية، في الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر الذي نظمته وزارة الخارجية الأمريكية في عام 1974: “لا يمكن أن تنهض إستراتيجيتنا على نظام وسائل الاتصال الراهن…، وقبل أن يغدو البث المباشر عبر التوابع الصناعية ممكنا ستوجد مع ذلك شبكات الكترونية عالمية وسوف يطرح وجودها مشكلات واقعية بصدد تدفق المعلومات والتكافل الثقافي… وسوف تنقل هذه الشبكات كميات ضخمة من المعلومات عن طريق دوائر كهربائية بالغة السرعة تخترق الحدود الوطنية، وفضلا عن ذلك فإنها لن تكون في متناول الأشكال التقليدية للرقابة والسيطرة، والسبيل الوحيد “للتحكم في” شبكة الكترونية تنقل 648 مليون بيت bit)) في الثانية هو فصل أداة التوصيل الكهربائي ليس إلا ” (شيلر، الإتصال والهيمنة الثفافية، 2007، صفحة 71).
وعليه فإن حجم التمركز الثقافي يمكن قياسه وتقديره كميا، على اعتبار أن احتلال قلب العالم معرفيا وتكنولوجيا ليس مسألة ماورائية أو خيالية بل هي أمر ظاهر للعيان، يمكن الكشف عنه عدديا واستنطاقه رقميا، من خلال ما تبينه الإحصائيات والمنصات الرقمية الغربية، وهو مالا يمكن إنكاره وتجاهله، إذ تغيب عن هذه المعادلة ثقافة الهامش لتواضع نسب مساهماتها في الرصيد الثقافي العالمي، وبالتالي تحولت إلى مجرد متلقي ومستقطب لكل منتجات الحضارة الغربية، وعلى رأسها تكنولوجيا الإعلام والاتصال والشبكات الرقمية، هذا ما دلت عليه النسب والأرقام السابقة. من هنا يجد المركز” نفسه متمتعا بقدرة استثنائية على السيطرة؛ على أن هذا المنطق الخانق للهبة يعمل فيما يتعلق بكافة عناصر الثقافة بالمعنى الواسع وليس فقط فيما يتعلق بالسلع الثقافية بالمعنى الضيق، ونلقاه من جديد فيما يتعلق بالتغذية وبالتكنولوجيا” (لاتوش، 1992، صفحة 28). فالإعلام الجديد نتيجة حتمية لتطور تكنولوجيا الاتصال، أتاح للمواطن خيارات جديدة للتواصل فاتحا بذلك عهدا جديدا للمنافسة مع القنوات الفضائية، إذ أصبح الفرد ينتقل بيسر بين التطبيقات التي أتاحتها شبكة الانترنيت دون رقابة إلا من نفسه أو من ضميره ووفق إمكانياته الثقافية واللغوية (زرزايحي، 2020، صفحة 540).
هكذا فإن الحديث عن النموذج الثقافي الواحد والكلي يحيل مباشرة إلى شمولية نموذج قيمي وثقافي هي العولمة التي تقوم على تعميم الشيء وإكسابه صيغة العالمية وتوسيع دائرته، ليشمل العالم كله ومن هنا جعل العالم أجمع ذو ثقافة واحدة هي الثقافة الأمريكية في طبعتها الحديثة وقيمها التي تجاوزت أو راحت تتجاوز الثقافات والقيم الوطنية الأخرى التي عدتها ثقافات ثانوية لشعوب هامشية.
أما تاريخيا فلقد أصبح تأثير أوروبا مسيطرا على نطاق كوني بعد 1800 فقط، عبر الصناعة والتجارة وتحسين الملاحة وتنامي طول القبضة العسكرية والاستعمار والامبريالية، كما يشمل التأثير الغربي العلم والقومية ومؤسسات الدولة مثل الدساتير والبيروقراطيات الحديثة (بيترس، 2015، صفحة 190).
أما المرحلة الثانية أي مابعد العولمة المعاصرة سنة 1950، حينما “أحيت الحرب الباردة تعبير الحرية الغربية (أو العالم الحر) في مواجهة الشيوعية، وبعد نهاية التاريخ وتراجع الحرب الباردة أعيدت للحياة مرة أخرى لكن في مظهر جديد، حيث عادت في صدام الحضارات لبرنارد لويس Bernard Lewis وصمويل هنتيغتون Samuel Huntington، وقد أخذ المحافظون الجدد الدوليون وإدارة جورج بوش Georg Bush بهذا الأمر على أنه المعركة الإيديولوجية لجيلنا والحرب الكبرى للقرن الواحد والعشرين” (بيترس، 2015، صفحة 191)، إنها حرب معلوماتية بامتياز وفوبيا اتصالية ترجمتها – خير ترجمة- المجادلات الأخيرة بين أمريكا والصين بخصوص التداعيات المحتملة لهيمنة الصين على تكنولوجيا الجيل الخامس 5 G ببلد العم سام؛ إنّها فوبيا نقرأ فيها ما يتجاوز مجرد تنافس ذو طبيعة تجارية بحتة، بقدر ما نقرأ فيها رهابا وفوبيا حضارية عارمة تمكنت من قلب العالم الغربي فزحزحته من حالة المنفتح على العالم، المولع بتحطيم أسوار الأنظمة الدكتاتورية المنغلقة على نفسها، إلى دولة تخشى على أسرارها المدنية والعسكرية أن يتم السطو عليها ممن كان يعتقد إلى وقت قريب انه يقع في هامش العالم، فالشبكات لم تخلق وحدة عالمية من أي نوع على ما يبدو، بفعل الاتصال الفائق. ولم تتوقف عند حدود تصغير العالم بقدر ما كرّست هيمنة القطب الغربي على الشرقي في صورة إعادة إحياء الحرب الباردة بصفة غير معلنة.
يوجز جوزيف ناي Joseph Nye الهيمنة الثقافية العالمية الاستثنائية لأمريكا بقوله:” الإنجليزية لغة مشتركة كاللاتينية، وأمريكا هي المصدر الأول في العالم للأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية وعدد الكتب التي تنشرها يفوق عدده في أي بلد آخر ومبيعات سوق الموسيقى تفوق بمرتين سوق اليابان التي تأتي بعدها وتستضيف 28% من طلاب الجامعات الذين يدرسون خارج بلادهم والبالغ عددهم 1.6 مليون طالب (مويزر، 2008، الصفحات 309-310)، ويرى ناي بأن أمريكا تمتلك ثقافة استثنائية وشاملة وعالمية تعكس تنوع العالم ويقدم الحجة على أنه حين تشمل ثقافة بلد ما قيما وسياسات واهتمامات عالمية شاملة يشترك بها الآخرون فهي تزيد احتمال الحصول على النتائج المرغوبة بسبب علاقات الجذب الواجب توحدها…فالولايات المتحدة الأمريكية تستفيد من ثقافتها العالمية الشاملة (مويزر، 2008، صفحة 310). بهذا يعتبر ناي بأن التعددية الثقافية الأمريكية النموذج الأصيل لثقافة عالمية بازغة يشعر ناي أن المجتمع الأمريكي المتعدد الثقافات يشمل ويمتص ويمثل حاليا كل شيء وكل شخص وكل مكان آخر، والثقافة العالمية تعكس المجتمع الأمريكي المتعدد الثقافات، مثلما يعكس المجتمع الأمريكي المتعدد الثقافات الثقافة العالمية…قال: العالم كان، وهو الآن، ويصير أمريكا، فلماذا نكابد عناء تغييره ؟ (مويزر، 2008، الصفحات 310-311).
إن الثقافة المتمركزة حول نفسها تعد مصدر الإلهام لباقي الثقافات والشعوب، فتجدها تنتشر بين ثنايا الثقافات المحلية دون وعي أصحاب تلك المنظومات؛ بل هي بمثابة القوة الناعمة أو الساكنة والخفية التي تنتقل دون إحداث ضجيج أو جلبة، وهكذا فالحديث على هذا النمط المركزي لمفهوم بنية المركز ومفهومه لن يستقيم إلا باتخاذ نموذج ثقافي سائد حتى نستخرج شروط التمركز الثقافي والحضاري منه، فمركز العالم الثقافي اليوم هو أمريكا التي تحمل سمة العالمية والانتشار الواسع المجاوز للحدود، الماوراء جغرافي، وهنا تفرض مقولة العولمة نفسها، لأن الحديث عن ثقافة مركزية معناه ثقافة عالمية سائدة تدور حولها جميع ثقافات العالم من جهة تستعد لمقاومتها ومن جهة أخرى لا يستقيم وجودها واثبات ذاتها إلا في مقابل مركز ثقافي آخر مغاير لها، إنه صراع من أجل البقاء وإثبات الذات، فمحاكاتها ومجاراتها أو مقاومتها كلاهما يصنع ثقافة الذات الأخرى الهامشية بالنسبة للثقافة المركزية، “فعملية التجانس الثقافي والإيديولوجي للعالم لا تنتجها أمة واحدة بل يمارسها نظام متكامل من قطاعات وطنية مختلفة، التزام بشكل محدد من التنظيم الاجتماعي الاقتصادي” (شيلر، الإتصال والهيمنة الثفافية، 2007، صفحة 21).
عموما يجب أن ندرك أن التكنولوجيا-ولاسيما تكنولوجيا الاتصال- قد تم إدراكها وتطويرها وتشبعها بمصالح الرأسمالية الأمريكية ومواصفاتها منذ الحرب العالمية الثانية بوجه اليقين ومازالت كذلك حتى الآن، ويجب التسليم بإمكان أن تستخدم التكنولوجيا مهما كانت منابعها على نحو بديل…فبما أن التكنولوجيا الغربية لا تعد جزءا لا يتجزأ من النظام الاستغلالي فحسب، إنما تعمل على توسيع وتعميق ذلك الاستغلال” (شيلر، الإتصال والهيمنة الثفافية، 2007، صفحة 80).
الخاتمة:
ختاما فإن، الثورة الاتصالية الثالثة تنطوي في داخلها على نفس بذور الإخفاق التي لازمت تاريخيا كل الابتكارات التي شهدها حقل وسائل الاتصال. فبدلا من خلق مستقبل جديد، تدعو التكنولوجيا الحديثة جمهور الشعب للمشاركة في طقس من السيطرة والتوجيه ويحجب الافتتان بالتكنولوجيا العوامل التحتية للسياسة والسلطة” (شيلر، المتلاعبون بالعقول، 1999، صفحة 208)، وهنا يتوسط نسق ثقافي ما، محمل بمعاني ثقافية دينية، فكرية، وعرقية تكونت تحت شروط تاريخية معينة، واعتبار معطياته وقدراته الثقافية على إنها الأفضل استنادا إلى معنى محدد للهوية قوامه الثبات وإنتاج ذات مطلقة النقاء، ينتج إيديولوجية استبدادية ضد الآخر، تقوم بطمس كل المعالم التي تتعارض مع مفهوم الهوية كما أنتجتها تلك الثقافة واستبعادها بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم تحميها من المتغيرات التاريخية. إلا أننا لا يجب أن ننكر بأن “الإعلام الجديد والذي تتمثل أهم تجلياته في المدونات الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي ومواقع نشر الصور والفيديوهات ومواقع الويكي، قد أحدثت نقلة نوعية في أساليب حياتنا وطرق تفكيرنا وتواصلنا وهو ما أثر في تمثلاتنا لذواتنا وهوياتنا. وإن كان البعض يتخوف من إنتاج هوية الكترونية افتراضية مفرغة من الانتماء والاستناد إلى قيم واضحة، إلا أنه لا يمكننا نكران أو تجاهل التأثيرات الايجابية لتطبيقات الإعلام الجديد اتجاه الهويات المحلية إذ يساهم هذا الأخير في إعطاء فرصة للمنتمين إلى هوية واحدة للالتقاء ببعضهم البعض ومناقشة مواضيعهم المشتركة بكثير من الحرية ما يؤدي إلى تشكيل ضمير ووعي جمعي لا يفتأ يكبر يوما بعد يوم بكثافة لا يضاهيها ما يمكن أن يحدث في الواقع الحقيقي” (لونيس، 2020، صفحة 40) هذه الحقيقة تمتلك سند إثباتها في مساعدة العالم على الخروج من الأزمة الذي خلفتها جائحة كورونا مطلع العام الجاري، إذ أن ما قدمته شبكات التواصل الاجتماعي من فتح للحدود وللبيوت على نطاق واسع رغم الحضر المطبق من طرف الدول على شعوبها والتضييق على حريتهم في الانتقال والتحرك التزاما بالأوامر الصادرة عن الهيئات الصحية المحلية والعالمية للوقاية من انتشار فيروس” كوفيد 19″، يشهد لها على ضرورتها في حياة الأفراد والمجتمعات، حيث أضحت مواقع التواصل الاجتماعي هي المتنفس الوحيد لشعوب العالم؛ أما في بعض البلدان التي تعاني ضعف فاعلية الإعلام خاصة السياسي مثلت تلك المواقع الإعلام البديل والحر لتبادل الأفكار والآراء. ويبقى الاستخدام العقلاني والواعي لتلك الأدوات هو المعيار المحدد لايجابية أو سلبية تلك الشبكات خاصة بين شعوب البلدان المتخلفة، لأنه للمنتج دوما هامش من الربح يدفعه المستهلك.
المصادر والمراجع:
1) أحمد, ص. م. (1999). الشامل قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية (éd. 1). الرياض: دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع.
2) إسماعيل, أ. ا. جدلية المركز والهامش(قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان).
3) الخليل, س. (2014). دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي. لبنان: دار الكتب العلمية.
4) بيترس, ج. ن. (2015). العولمة والثقافة المزيج الكوني (éd. 1). (خ. كسروي, Trad.) القاهرة: المركز القومي للترجمة.
5) رشا, ع. (2010). الثقافة العربية في ظل وسائط الاتصال الحديثة. العربي (81),.
6) زرزايحي, ز. (2020). العولمة والهوية الثقافية في زمن الاعلام الجديد. مجلة المعيار ,
7) شفيق, م. (1999). في الحداثة والخطاب الحداثي (éd. 1). الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
8) شيلر, ه. (2007). الإتصال والهيمنة الثفافية. (و. س. المسيح, Trad.) القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
9) شيلر, ه. (1999). المتلاعبون بالعقول. الكويت: سلسلة عالم المعرفة.
10) صامويل, ه. (1999). صدام الحضارات(اعادة صنع النظام العالمي) (éd. 2). (ط. الشايب, Trad.)
11) عبدالعزيز, ع. ا. (2015). الثقافة العربية والثقافات الاخرى (éd. 2). القاهرة: منشورات المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة(ايسيسكو).
12) عبدالله, ا. (2006). البث الفضائي العربي وتحديات العولمة الاعلامية. الاسكندرية: المكتب الجامعي الحديث.
13) عزي, ع. (1990). الاعلام الاسلامي(تعثر الرسالة في عصر الوسيلة). الجزائر: حوليات جامعة الجزائر.
14) عماد, ع. (2016). سوسيولوجيا الثقافة (éd. 3). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
15) لاتوش, س. (1992). تغريب العالم (éd. 1). القاهرة: دار العالم الثالث.
16) لونيس, ب. (2020). الهوية المحلية والهوية الافتراضية في ظل الاعلام الجديد(حدود التلاقي والتلاغي). مجلة دراسات وابحاث , 7 (19).
17) مويزر, ك. (2008). الإمبرياليون الجدد إيديولوجيا الامبريالية (éd. 1). (م. الإمام, Trad.) الرياض: مكتبة الكعيبان.
18) هابرماس, ي. (2003). العلم والتقنية كإيديولوجيا (éd. 01). ألمانيا: منشورات الجمل.

19) Couture, J., & Courtois, S. (2005). Regards philosophiques sur la Mondialisation. kanada: presses de lUniversite du Quebec.
20) Forse, M. (2012, 07). LES RÉSEAUX SOCIAUX D’AUJOURD’HUI (UN MONDE DÉCIDÉMENT BIEN PETIT. revue de l’OFCE ,

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.