رحيل آخر تلاميذ الإمام الشوكاني مفتى الديار اليمنية العلامة محمد بن إسماعيل العمراني
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلمءا حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا..
في فترة عصيبة من فترات الصراع الحزبي والمذهبي والطائفي والعرقي في اليمن واختلاط الأفكار وانحرافها يودع اليمن في هذه الفترة أحد المرجعيات اللامذهبية العالم بالمذاهب جميعها، وقد نهل المذاهب من منابعها الأولى.
العلامة العمراني لم يكن زيديا ولا شافعيا، بل كان شوكانيا صغيرا مقلد لأستاذه وشيخه المعروف محمد بن علي الشوكاني صاحب تفسير فتح القدير ونيل الأوطار والكتاب الأصولي إرشاد الفحول وكتاب النقد المنهجي السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، وشهرة التلميذ من شهرة استاذه، فقد كان مجادلا كابن حزم الأندلسي مهتديا بأداب المناظرة لعضد الدين الايجي وحجة في الاستدلال كابن تيمية، ومحققا كمحمد الشهيد وورعا كالحسن المغربي وموسوعيا كعبد القادر الكوكباني.
وبهذا الموروث الحضاري المتنوع وغيره من العلوم الذي اقتبسها من علماء آخرين سابقين لعصره كالمقبلي والجلال وابن الوزير وابن عبد الوهاب اختزل الشوكاني تلك المعارف وجعلها سلوكا و ثقافة وقيما وحضارة
واستجمع تلك الشخصية مع معارف أخرى اكتسبها آخر تلاميذه المعروفين باللامذهبية إلا ما كان من استدلال منوط به الوعي بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين وكبار علماء الآئمة.
أما دوره في مقاربة الزيدية بمذاهب السنة فقد كان آخر معاقلها الذي جدد الربط بينها وبين أصول السنة ولم تشذ عنه وإن وقفت عليها مذهبا لا تكاد تفرق بينها وبين مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان. أما الأصول الدينية فقد كانت متقاربة أو مرتبطة بأصول الفقه الأكبر.
لم تنتج مدارس اليمن وجامعاتها التي تسيطر على مساحات جغرافية قليلا مما انتجته هذه المنابع العلمية التي قادها علماء مشهورين كالعمراني من داخل المسجد،إن لم نقل أن الجامعات اجتالت الناس عن طريقهم، وافسدت فيهم الفطر،إن المساجد كانت تغذي الأخلاق وتزرع القيم قديما فلم تكن مربضا للحزبيات والسجالات الطائفية والنزعات العرقية ولا قيم الديمقراطية والتظاهرات السلمية والتطرف والإرهاب.
لقد عجزت الجامعات المتخصصة في علوم الدين أن تنتج علماء كما انتجتها أربطة الاجازات علما ونقلا وأصولا ومعرفة واستدلالا.
ما أحوجنا ونحن نودع هذا العالم بعالم كنا قد أدركنا بعض حلقاته وأعجزنا الطلب عن المتابعة، ومن قبله صاحب موسوعة الصحيح فيما لم يرد في الصحيحين على منهجية إبن أبي حاتم في اليمن، وعلماء آخرين في الأمة الإسلامية. بينما تعج الساحة المليئة بالصراع الفكري عجزا أن تملأ ما خلفوه من فراغ أو أن تسد ثغرة من ثغورهم، وقد أصبح التعليم لا يرقى إلى مستوى الكتابة الصحيحة.
لقدأخرج هذا العالم من جامعه القريب من بيته ما لم تخرجه الجامعات المتخصصة التي سيست الدين على غير أصوله واستعملته على غير دليله، وجعلت التزكية الحزبية شرطا من شروط القبول، حتى صار العلم أشبه ما يكون بعلوم البراهمة فلا تكون إلا مخصصة حرمت الأمة من عقول أبنائها وأوجدت متطرفين زعموا العلم بالوراثة.
لقد ودعت مساجدنا علماء عاملين لا يفترون عن التعليم والتوجيه والإرشاد، بهم أمنت المجتمعات فكانوا عدولا ومن العدول كان عدلا فلا عدل دون عدول تقام بهم الشهادات.
وقد حل مكان العلماء وعاظ ملؤا الآذان صراخا، وفجروا ساحات المسجد صياحا فلا هم غزو فأمنونا من خلفهم ولا هم أمنوا ساحتنا فاستقمنا بهم، ولا نحن سلمنا من ظلمهم أو ما يجروه على الأمة من جوع وتشريد وضياع.
وأحلوا البغضاء والتشاحن والخراب مكان الألفة والتسامح والإعمار.
هذا العالم الجليل وغيره من السابقين كانوا في مجتمعات حقيقية وليسوا في مجتمعات افتراضية، فمن يرى مصيبة الأمة في دعاتها وعلمائها على وسائل التواصل يقصون من بطون الكتب ويتناسون حقيقة وجودهم يدرك قيمة العلماء في الواقع، وقيمة العالم في المساجد معلما ومؤسسا لا على القنوات قارئا ومترنما.
إن الخطابة والوعظ من على المنابر وتلاوة الترانيم والقرآن أو الاختلاء والتعبد في معزل من الناس من الأمور اليسيرة التي يتقنها العجزة فقط. أما الواقع فهو مختلف وفيه يقاس منزلة العلماء والمصلحين بما يعلمونه للناس من أصول المعرفة والدليل.
وقد قيل بيننا وبينهم الجنائز تلك الجنائز التي لم تكن حزبية و إعلامية، لأن العامة تدرك الحقيقة بما تجد من متعلمين وتدرك وهم الحقيقة بما تسمع آخبار.
وقياس الأولى منهجا والثانية وهما.