رؤية 2030 بين متغيرات الواقع وتحدياته: من خلال اللقاء الأخير للأمير محمد بن سلمان2021/04/27

0 16

د. جمال الهاشمي

تتميز الدول الواعية بعدد من التحولات التي تساهم في التأسيس لأنموذج أكثر ارتباط بالواقعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا سيما عندما ترتبط بظروف التحولات الدولية و الإقليمية والسياسية التي تعمل فيها عكس عقارب الساعة،.

وتعد رؤية 2030 بداية لتحولات الحداثة التنموية في المملكة العربية السعودية على غرار الحداثة التي كانت مع محمد علي باشا في مصر، وبنفس مقاييسها ومعاييرها الاقتصادية، وبنفس التحديات مع اختلاف الأهداف لكليهما، وتدين مصر للبشوات بالفضل الذي مكانها من قيادة العالم العربي ثقافيا وعقائديا، والتي به تأسست الحداثة المصرية وتبوأت مكانتها في منطقة الشرق الأوسط وقد تقلصت دولة البشوات نظرا لطموحاتها التوسعية غير الواعية بالمتغيرات الدولية والإقليمية ومما أوقعها في صراعات متعددة الأولى مع السلطنة العثمانية المتهالكة في مناطق الشام والأخرى صراعاتها مع في جزيرة العرب، والثالثة وقد ساهمت طموحاته التوسعية باتجاه أثيوبيا من انحسار دولته الفتية وخضوعها للاستعمار البريطاني لاحقا لعدة أسباب خفية وأخرى جلية، ومن المفارقات أن المملكة بقيادة الملك سلمان لم تتبع سياسات توسعية، وإنما مارست سياسات وقائية لحفظ أمنها القومي على التخوم الملتهبة جنوبا وشمالا وشرقا، وسعت لحفظ الوضع السائد وإخراج دول الطوق من أزمة الصرعات المجتمعية والحروب الأهلية التي أدخلت المنطقة ضمن دائرة النفوذ والتدخلات الإقليمية والدولية.

لكن هل استفادت المملكة من النظريات التاريخية وهل ستغير رؤية 2030 سياسة المملكة العربية نحو اقتصاديات تنموية استراتيجية متوسط وبعيدة المدى؟

من خلال اللقاء الأخير للأمير محمد بن سلمان وقبل الحديث عن الرؤية وطموحاتها تركزت في حواراته القيم الحضارية والتي بدأت بوضوح من خلال أسلوب إدارة الحوار العفوي، ولأول مرة تتجدد سنة حضارية عربية تميزت ببساطة الحوار وخروجه عن التكلف والتصنع الإعلامي وهو ما أكسب الحوار حيوية اجتماعية وحضارية قربت المسافة بين الأمير وجماهيره الوطنية تارة بالإشارة إلى القيم المرجعية للدولة، وتارة أخرى بحديثه عن التنمية ومتغيرات الواقع.

 يدخل المحاور (عبد الله المذيفر) في الموضوع مباشرة ويفاجئه الأمير بالثناء فيستدرك الرد بمثله وتتحرك يده على صدره مباشرة مع كلمة التشريف التي أعاد تكرارها، حيث تعد لغة الإشارة من أبلغ العبارات العربية التي تترجم المودة البينية بين المرسل والمتلقي وهي في نظرية الاتصال من أكثر التأثيرات النفسية التي تترجم المشهد وتحوله إلى رسائل موجهة يتلاقها المشاهد بالقبول وتتحول إلى تغذية عكسية مؤثرة كما هو معمول به في نظرية الاتصال الجماهيري.

تمركز هدف اللقاء الرئيس على التنمية بدعوتين أحدهما للمستثمرين المحليين والأخرى للمستثمرين الدوليين، أشار خلال مداخلاته إلى دوره في إحداث تغيرات مناسبة للاستثمار في البنيتين التحتية والفوقية وفقا للمعايير والقوانين الدولية.

في الحوار أن يبادر الأمير في الثناء له قيمة عاطفية، وهو ما جعل الحوار عفويا على مدى ساعة وعشرين وست دقائق، وفي الدقيقة الثامنة وستة عشر ثانية بدأ الخطاب وديا وسقطت الألقاب في كلمة (لما تجي تجولي) والبساطة سمة عربية .

وفي إطار رؤية 2030  كانت منهجية الطرح كما هي منهجية الرد قائمة على مقاربات ومقارنات بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو جعلها أكثر علمية بل وانموذجا عربيا فريدا تعكس مدى اطلاع الأمير بمجريات وتحولات الواقع الإقليمي والمحلي والدولي ولأول مرة في تاريخ اللقاءات السياسية العربية نقف برؤية منهجية واضحة المعالم على عدة سياقات يمكن ابرازها بما يلي :

سباق الرؤية العامة:

بدأت الرؤية بأطروحات نقدية مقارنة بين ما كان عليه الاقتصاد الرعوي السعودي القائم على النفط، ا وبين ما يتطلبه واقع الدولة ومستقبلها من تنمويات متكيفة مع متطلبات العصرو الأرقام قيمة بيانية متولدة عن المنهج المقارن وهذه المنهجية من أهم المناهج الحضارية التي تستثمر سياقات تاريخية في واقع متوثب أو ينشد التغيير.

بدأت هذه الرؤية في 25 إبريل 2016 وهو العام الثاني من تولي الملك سلمان بن عبد العزيز، ومثل هذه الاستراتيجيات تحتاج إلى دراسات معمقة قد تأخذ وقتا طويلا ومن أهم متطلباتها تأسيس البنية التحتية، لا سيما إذا تعاملنا بالأرقام الإحصائية لقدرات المملكة على مستوى مواردها النقدية والأصولية والاحتياطية ومواردها المعرفية لمدة تستغرق خمسين سنة على أقل تقدير، وهي الفترة الاستراتيجية من حيث التوقيت التي تسبق عمليات الحداثة.

بدأت هذه التحولات متأخرة في ظروف استثنائية محلية ودولية وإقليمية، لكنها سعت لتصحيح مسارات الدولة وتجييش قدراتها نحو المستقبل، على مستوى الفكر والتنمية والتعليم والثقافة والمجتمع، وهو ما يتطلب قدرات معرفية وموارد بشرية قائمة على الأصول المعرفية الواعية بمتطلبات الرؤية خارج سياق الوظيفة العامة، بمعنى آخر مجتمعات وموارد تتناسب مع طموحات الرؤية نفسيا وعقليا وتنمويا وهو موضوع التنمية الاجتماعية الذي غيب عن الساحة العربية منذ ارتباط مخرجات التعليم بالوظيفة العامة، ونظرا لغياب التشريعات القانونية التي تنظم العمالة خارج سياق الوظيفة العامة ونجاح المشاريع التنموية المتحولة يعتمد على مدى ما تمتلكه المجتمعات من قدرات تنموية في إدارة المعرفة، وقابلية/ وقياسا عليه يمكن الوقوف على الآتي:

  • أن المجتمعات التي تمتلك أصول المعرفة تستطيع التكيف مع تحولات التنمية أكثر من المجتمعات التي تفتقر لذلك، والمحذور منه أن يؤدي غياب أصول المعرفة إلى سيطرة المجتمعات الوافدة ومن ثم خلق نموذجا اقتصاديا بخلفيات ثقافية أخرى ستؤدي حتما الى تغييب المجتمعات الوطنية والتي بقت خلال فترات الاقتصاد الريعي محمية بتشريعات قانونية قائمة على نظام الكفالة أو نظام النسبة في الاستثمار، كما اعتمدت بشكل رئيس على وظيفة الدولة، وانفتاح المملكة على الاستيراد دون وضع معايير محددة مما أدى إلى ضعف التنمويات المحلية من جهة، واتكاليتها على أنظمة وقوانين الدولة.
  • أن القدرات المعرفية تقاس بمدى ما لدى الأفراد من قيمة حضارية؛ فالمجتمعات التي تتميز بقوة التأثير الثقافي وأصوليتها الحضارية تكون أكثر تأثيرا في الثقافات الوافدة. أما المجتمعات المتذبذبة فهي على شكلين: أحدهما يخشى الغرباء ويعتزل الحياة ومتغيراتها، فهذا سيقع ضحية المستقبل لأن ثقافته الضعيفة تمنعه من الاندماج في الحياة الاجتماعية والتأثير فيها مما قدى يؤدي الى تهديد الأمن أو تغييبه عن الساحة ويقاس ذلك بحجم المجتمعات الكمية. وثانيها المجتمعات الممانعة، وهي التي تسعى لرفض الآخر وتمارس العنف المعنوي والمادي خارج سياقات العدالة وهذه التصرفات ستخلق مجتمعات معادية لها لأن المجتمعات الوافدة جزء من دولها الأصل والحياة الدولية قائمة على الاعتماد المتبادل، وهنا يأتي التساؤل المنبوذ. لماذا يكرهوننا؟ وبطبيعة الحال فإن هذه المجتمعات أكثر بربرية من سابقاتها لأنها تمارس ثقافة منفصلة عن القيم الحضارية الإسلامية العادلة.
  • أن المجتمعات الحضارية هي التي تستطيع قيادة التحولات الاقتصادية من خلال من تمتلك من أصول معرفية تترجمه إلى أدوات منتجة مميزة ومنافسة على المستويات المحلية، وتجعل من الانفتاح المحلي مدعاة لخلق نموذج إقليمي ودولي، وتتميز هذه المجتمعات بثقافة دينية قائمة على مبادئ الصدق والعدالة والاتقان والتميز والابداع، وهي بذلك تزاوج بين قيمها الأخلاقية الدينية كأنموذج، وقيمها الحضارية والإنتاجية والمادية كقيم معرفية ثابتة في متغيرها القيمي ومتغيرة في متغيراتها المادية، وهو ما أشار إليه الأمير محمد بن سلمان في محاورته وجعل ذلك مرهونا بمدى قدرات المجتمعات السعودية على تبني القيم الحضارية، ومدى قدرتهم على التأثير في الوافد بما يمتلكونه من أصوليات حضارية وثقافية ودينية.

من جهة أخرى يعتقد المواطن السعودي أن رؤية 2030 تهدم القيم الوطنية بهذا الانفتاح وهذا الهاجس ليس مبني على أدلة علمية بقدر ما هي ظاهرة إعلامية أو آراء لا منطقية؛ فالمجتمع العربي مجتمع منفتح منذ طلوع فجر الإنسان ولكن القيم الحضارية الإسلامية حينها كانت تدمج المجتمعات الوافدة والشعوبية فيها بنسبين:

  • التعريب حيث كانت المجتمعات الشعوبية تتخلى عن لغاتها الأصلية وتندمج في قيم اللغة العربية لما تتميز به من جاذبية ثقافية وأخلاقية ودينية، بل إن أشهر من حافظ على التراث الإسلامي والنصوص الدينية والسير النبوية من أصول أعجمية.
  • الولاء إذ كان الولاء نسب إسلامي ومن أهم مفاهيم الاندماج الحضاري داخل الدولة الإسلامية حيث يحمل المولى نسب القبيلة الموالية واندمجوا عرقا وصهرا وبرز من هولاء علماء وقادة وحكماء أرسوا معالم الثقافة وأدخلوها في دولهم وتوسعت جغرافية الحضارية الإسلامية ، كما توسعت قيمها العابرة للحدود الحضارية العالمية عبر التاريخ.

ومن السلبيات التي تهدد أمن المجتمعات التحيزات القبلية والجهوية والعقائدية لا سيما إذا سيطرة الثقافات القومية والتاريخية، ورغم أن التباين الطبقي هو من سنن التاريخ من سنن القيم الحضارية، حيث تتمايز المجتمعات كما تتمايز الطبقات بفضائل تقدم أحدهما وتؤخر الأخرى، وهذه التفاضل لا ينفي واحدية الأصل الإنساني، كما لا يلغي سنن الاختلاف الذي هو من أهم موائد التاريخ والثقافات الخلاقة للتمايزات الطبقية والأخلاقية والعقائدية، وهنا يأتي دور الدولة في حماية الأصل الإنساني دوت تحيزات عقائدية أو دينية أو طبقية لأن وظيفتها حماية الأمن الفكري والاقتصادي والمجتمعي، وليس من وظيفتها إكراه الناس على معتقدات السلطة، وحماية عرقية نقية دون عرقية أخرى وإنما استثمار ذلك في إطار القيم الإسلامية الحضارية بالتي هي أحسن، ولو لم يكن ذلك ما كان تشريعات المؤلفة قلوبهم من أهم الأصول السياسية في الحكم، ومن أهم القيم المجتمعية الأخلاقية التي تولد الأمن. وقد أدركت الدول الغربية عظمة التشريع الإسلامي في توليف القبول وتمكنت من دمج الأقليات الإسلامية فيها دمجا ثقافيا وسلوكيا ولغويا وأخلاقيا.

من جانب آخر فدول الخليج العربي بما فيها المملكة العربية السعودية ليست دولا منغلقة على الآخر وخصوصا مع تحولات الدولة من اقتصاد الرعي والزراعة إلى الثورة النفطية، إذا شهدت المملكة عمالة أسيوية وعربية وأفريقية مختلفة شكلت إثنيات منغلقة على بعضها وخصوصا في المناطق الاقتصادية كالسعودية، ولم تتمكن المجتمعات السعودية الأصلية من دمجها ثقافيا، بل وهناك مجتمعات اندمجت جغرافيا في كيان جغرافية الحجاز في عهد السلطنة العثمانية وقبل قيام الدولة السعودية. وما قد بلغت نسبة العمالة في المملكة العربية- بسبب التحولات الاقتصادية من الريع التقليدي الى ريع النفط- 47 في المائة من تعداد السكان. وقد تأثرت الهوية الوطنية بالكثير من المعتقدات الدينية المنفصلة عن الهوية الحضارية نظرا للصراعات العشوائية غير الممنهجة بين المعتقدات الاشتراكية والدينية ضمن عدة دوائر مختلفة عربية بقيادة الناصرية والصراع غير المباشر مع السعودية في اليمن، وعالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في صراعها غير المباشر مع روسيا في أفغانستان وكوسوفا والشيشان، ودوائر عرقية عقائدية خلال الحرب الخليجية الأولى بين العراق وإيران، والصورة الأخرى الحرب الأهلية في اليمن بين الشمال والجنوب وانحرافها عن القيم الحضارية الذي أعاد انتاج سياسات اقصائية جهوية وعرقية وعقائدية بعد انتصار التحالف الثنائي بين حزب المؤتمر والإصلاح على الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة علي سالم البيض.

كل هذه التحولات اثرت على منظومة الأمن القومي للسعودية والأمن المجتمعي عموما وهو ما أثر على أمن الدولة نظرا للتحولات الاقتصادية الذي صاحبه ارتفاع نمطية الاستهلاك في الحاجيات والكماليات على المستوى الاقليمي بين الدول وعلى المستوى الطبقي داخل الدولة، ووظفت تشريعات الدولة لصالح الطبقات المؤثرة في سياستها على رأس المال الاجتماعي حيث أظهرت فترة التسعينات في اليمن سياسة تراكم الثروة وتركيز التجارة في شخصيات لم تكن معروفة على الساحة التجارية، والتي ارتبطت بصورة أساسية بمعتقدات أيدلوجية خارج الدولة، وقبلية وحزبية ونفوذ إداري داخل الدولة أدى إلى إضعاف انهيار رأس المال الاجتماعي فاتسعت دائرة البطالة والفقر وتنامت ثقافة الجريمة وانهارت القدرات المعرفية وكانت العوامل المادية الأساس الذي أوجدت المعتقدات المتطرفة وأوجدت الثورة الشعبية.

ومن التجارب الواقعية أن المجتمعات الإسلامية في أوروبا جزء من النسيج الغربي بل أكثر تعصبا وانحيازا وولاء لدول التجنيس من دول الأصل، وهناك شواذ متمرد من المولدين وهم قلة، ومع هذا يتمتعون بحقوقهم في إطار القانون وعدالته ويجدون رعاية اجتماعية ونفسية لإعادة تأهيلهم ضمن نسيج المواطنة السوية المندمة وفقا للمعاير القومية وقيم الدولة وأيدلوجيتها الحاكمة، وترتبط الأقليات الإسلامية بقيم الدولة وقوانيها أكثر من ارتباطها بقيمها الحضارية الإسلامية وقيم المساجد الذين يترددون عليه يوميا أو أسبوعيا، إذ أن العبادات أخذت منعطفا سلبيا مهددا للسلوك الحضاري المعبر عن قيم الإسلام وأمانته، ورغم انضباط الأقليات العربية والمسلمة عموما بقيم دول الغربة أمام القانون إلا أن النزعة المادية تدفعهم نحو انحراف القيم الحضارية من التزام بالعقود وأمانة المهنة، كما أن المجتمعات المسلمة في دول المهجر تشعر بالاغتراب، وتشعر بمدركاتها الواعية واللاوعية بكراهية المجتمعات الأصلية أو المتأصلة قدما للغرباء لما لهم من آثار سلبية على القيم المادية وقيم النظام والثقافة الوطنية.

إن فكرة الخوف من الآخر غالبا ما يكون كامنا ومتأصلا في المعتقدات الضعيفة وهي المعتقدات تتناقض بين القيم الدينية وسلوكياتها الحضارية، أو المعتقدات السياسية التي تحدد النصوص والتعاليم الدينية بالمحددات النفسية والعرقية والرأي ، وهذه المعتقدات أكثر حضورا بين الأقليات المسلمة في دول المهجر، وهذه المؤشرات أبرزت ظواهر إشكالية أو ما يعرف النفاق المستتر، ويمكن معرفة ذلك من خلال معرفته استخدام مقاييس انفصام الشخصية والتناقض بين ظاهرة التدين وسلوكياتها، فالجواز الغربي عندما يحمله المتجنس يشعر بقيمة حضارية تتعمقفي مدركاته اللاوعية وتتحول إلى ردود فعل واعية ثم عفوية عندما يقابل عرقيات من جنسه وهنا يشعر بقيمته الذاتية لتفريغ الكبت الذي يسيطر عليه في دول الاغتراب. لكنه عندما يقابل أحد أفراد الدولة الحامل لجنسيتها يقدم جنسيته الأصلية لأن المدركات الواعية ترسل إليه إشارات انطباعية عن الآخر في أنه غير معترف به عرقيا وثقافيا، بقدر ما هي اعترافات تنظيمية وقانونية برعاية الدولة، وهو ما جعله يعيش تناقضا بين هويته الأصلية والهوية المكتسبة، بين أخلاقيته التي يمقتها في شخصيات بني قومه ، وأخلاقيات النموذج الحضاري المتجنس بجنسيتها.

في سياق سابق تنبأت رؤية الأمير محمد بن سلمان بأزمات قد تهدد الاقتصاد الريعي القائم على النقط وبدأت خطواته تتجه نحو بناء الدولة وفقا للمقايس الحداثية العالمية والغربية وعاجلته أزمات متعددة أحدهما ضمن سياقات الارتباط بمنظومة الاقتصاد العالمي كووباء كورونا في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2019، وأخرى موجهة كالتسيس الأمريكي الغربي لحقوق الإنسان إثر مقتل خاشقجي، في 2 أكتوبر 2018، ثم سياسة الممانعة مع انطلاقة سياسة حرب أسعار النفط في 8 مارس 2020، وأخرى تحديات أمنية إقليمية، دفع بالمملكة للدفاع عن أمنها من خلال الأطراف الشرعية الدولية في دول الأزمات والحروب الأهلية المحيطة بجغرافتها قبل أن تنحاز بعض الأطراف الشرعية إلى قوى إقليمية وظيفت المعايير الغربية (الديمقراطية وحقوق الإنسان والمظلومية) للتدخل في شؤون الدول الأخرى كالضغوط التي مارسته تركيا على السعودية إثر مقتل خاشقجي وأخرى وظفت المعايير الإتينية والعقائدية كالتدخل الإيراني في مناطق الطوق المحيطة بالمملكة العربية السعودية.

إن قوة الأمن والاستقرار في أي دولة تتجه بعجلتها نحو الانفتاح وفقا للقوانين الدولية يعتمد على القدرات التنموية المحلية وهذه تعتمد على حجم القدرات التشغيلية والثقافية ودور المجتمع المتمركز بإرادة السلطة السياسية إلا أن الفارق بين انفتاح السعودية على العمالة التي بلغت رقما مساويا لحجمها أو أقل منه قليلا وبين الانفتاح التي تقوده الرؤية هو أن الأول كان سلبيا أثر في منظومة القيم من خلال انتشار ظاهرة الخدم بلغات أعجمية أبعدت الأطفال عن أصولية التربية الأمومية كما أثرت على التنمية من خلال التحويلات المالية، وذلك في الأساس نظرا لخلل إدارة التعليم العامة التي لم تتخذ روضات ومدارس حضانة وطنية تعمق أصول التربية والتنمية منذ الصغر إذ لو كان للتربية والتعليم والشؤون الاجتماعية توجها تنمويا لكان ذلك قد حقق عدة مكاسب وطنية وتنموية وثقافية.

سياق الرؤية الاقتصادية: 

ساهمت كل تلك الأزمات في تعميق مفهوم الرؤية بنظرة أكثر واقعية والتي أعادت تدوير الفكر الاقتصادي والسياسي والسيادي والثقافي على عدة محاور استراتيجية أهمها:

  •  إعادة تدوير رأس المال السيادي: عند متابعة المؤشرات الدالة على حجم الاستثمار السيادي للدول العربية نجد المملكة العربية السعودية مساوية أو أقل الدول استثمارا مقارنة بالدول العربية في دول العالم المتقدم رغم قدراتها الاقتصادية إلا أن رؤية 2030 اعتمدت على رأس المال السيادي للدولة وهو ما شكل تهديدا لكثير من الدول العالمية والتي يرتب عليها سحب رؤوس الأموال المطروحة للاستثمار خارج حدود الدولة نظرا للتحولات العالمية التي تسعى لإعادة خارطة العالم وإخراجها عن مركزية القطب الواحد إلى تعدد الأقطاب، وما قد يترتب عليه من انهيار الأوراق المالية، وتغيرات جذرية متوقعة في اقتصاديات 2050، إضافة إلى الكثير من تحديات السلم والأمن الدولي والقوانين الدولية.
  • إعادة تحويل النفط لتشغيل الاقتصاديات المحلية وتحويله من قيمة ريعية إلى قيمة تنموية.
  • إعادة خلق التغذية الثقافية الحضارية لمفهوم المواطنة والأصالة التاريخية.
  • إشراك المواطن والمجتمعات الوطنية في تحمل المسؤولية من خلال خلق المبادرات والبرامج العلمية والتنموية والاستعداد برؤية أكثر واقعية تتميز بمساحة جغرافية أكبر من المساحة التي كانت منغلقة وسلبية بالعمالة الوافدة الأكثر تأثيرا على القيم المجتمعية.
  • معالجة خلل التحويلات المالية التي تستنزفها عمالة الخوادم المنزلية والروتينية، وإنقاذ الثقافة الحضارية داخل الأسرة التي أحدثته عاملات المنازل وتحويلها الى ثقافة تعايشيه من خلال قطاعات السياحة، وعلى المجتمع تحمل مسؤولية بالتشارك مع الدولة في تأسيس مدارس حضانة للأطفال أثناء انشغال الأبوين في الأعمال ومن ثم منح الطفولة حقها من الاهتمام بعد الانتهاء من الدوام.

وبهذه القرارات تسهم رؤية 2030 في خلق دور المجتمعات تنمويا وحضاريا وثقافيا وقد أكد على أن تسعين في المائة من القدرات المجتمعية معطلة أو كامنة، وقائمة على عادات وتقاليد والثقافات التنموية خلال عقود الستينات والخمسينات.

وستسهم رؤية 2030 من إعادة تمركز الذات الاقتصادية وسيطرة الاقتصاد المحلي، ويتوقع إن استمرت تنمية القدرات المحلية أن تتقلص ميزانية الاستهلاك المحلي الى ربع الاستيراد المحلي في استراتيجية ثلاثينية عام قادمة، وفي المقابل ستدخل المملكة عالم المنافسة الإقليمية، كما سيسهم إعادة تدوير الثروات النفطية داخل المجتمع المحلي وإعادة تشغيلها خلال السنوات العشرينية القادمة من تأسس البنية التحتية للاقتصاد الوطني، بحسب قراءتها للتحليلات النفطية التي تشير إلى تراجع القدرات النفطية في كل من روسيا وأمريكا والصين، ولكن قد يكون هناك رؤية أخرى للطاقات البديلة في العالم المتقدم وقد انفقت الكثير من الأموال لتشغيل الطاقات النووية في كثير من الأغراض والصناعات والاستهلاك المحلي وأخيرا السيارات الكهربائية، ومع هذا سيبقى النفط عنصرا مهما لدى مجتمعات الحداثة ما لم تتغير أنماط الصناعات العالمية لا سيما مع تنامي السياسات الاجتماعية وحماية البيئة العالمية، وقد يكون من الضروري توظيف النفط في خلق طاقات بديلة، وتحويله من مادة خام تباع في الأسواق العالمية إلى قيمة إنتاجية محلية.

وبالنظر إلى المعايير فقد تتصدر خلال الخمسينية القادمة كل دول الإقليم ، وهذا مشروط بقدرتها على تأسيس البنيات الاقتصادية المحلية ليس على مستوى القيم المادية بل والقيم الأخلاقية والتشريعات القانونية والإدارية إذا استثنينا من ذلك قطاعات السياحة والاستثمارات العقارية نظرا لارتباطها بمرحلة بلغت فيه الذروة وبدأت بالانحسار. وقد تتحول قطاعات السياحة إلى أزمة اقتصادية مستقبلية على غرار لبنان وغيرها من الدول المتمحورة عليها إذا جيشت الدول كل إمكانياتها لتنمية هذا القطاع وقطاع العقارات على حساب التنمويات الحضارية كالصناعة والزراعة والتجارة والتعليم والثقافة.

  • تنمية رأس المال الاجتماعي: وهي ما تعمل عليه الرؤية من إعادة تدوير رأس المال الاجتماعي المحلي وتسهيل إجراءات الاستثمار وفقا للمقاييس العالمية والمقاييس الخاصة بالمملكة انطلاقا من رؤيتها الحضارية وهو ما يمنحها قيمتين القيمة الأولى تعمق ثقة المستهلك بمعايير الجودة والرقابة الوطنية على الإنتاج المحلي وهو ما سيمكن المنهج المحلي من أخذ صدارة الأسواق المحلية خلال العشرينات القادمة، وهذا له أثر إيجابي على نمو الاستثمارات المحلية والأجنبية وتحديدنا هذه الفترة العشرينية مبنية قياسات إحصائية متوسطة، والقيمة الثانية إجرائية والتي تتمثل بإعادة تحويل سبعين في المائة من دخل شركة أرمكوا للاستثمارات المحلية، وفي هذا نموذج الدعوة بالقدوة تقدمه الدولة للمستثمرين.

ولإعادة تنمية الاقتصاد الاجتماعي عدة إيجابيات مستقبلية تتمثل أهمها: في أمن واستقرار المجتمعات المحلية والنظام السياسي وتنمية قيم التعاون والاعتماد المتبادل والثقافة المجتمعية من جهة، وتشغيل القدرات المحلية، وتصفير البطالة، وتنمية اقتصاديات الموازنة العامة إضافة على تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي من جهة أخرى. وهناك قيم أخرى لا تقل أهمية عما سبق ذكره من تنمويات قائمة على استراتيجية تدوير واستقطاب رأس المال الاجتماعي الوطني.

استراتيجية الرؤية:

يعتبر مفهوم الاستراتيجية من المفاهيم التي تؤسس لدور الدولة خارج حدودها والتي تكون فيها المنافسة على أشدها، وفي المقابل لا ينطبق مفهوم الاستراتيجية على الاقتصاديات المحلية لخلوها من صفة المنافسة ولارتباطها بقرارات سيادية.

ومن ثم فإن مفهوم الاستراتيجية يؤهل الدولة أو الشركات المحلية لدخولها الأسواق الإقليمية والعالمية، ويقاس على ذلك الاستراتيجيات الثقافية والفكرية والتعليمية والعسكرية وحتى الدينية عندما تتخطى حدود الدولة باتجاه الخارج أي تنطلق من مركزية الدولة ومن عمقها الحضاري باتجاه الأطراف خارج حدودها السيادية نحو العالمية.

ولأن رؤية 2030 تبدو طموحة وواقعية قياسا على الأرقام المطروحة والتي عكست قدرة الدولة في سيولتها النقدية وأصولياتها الثابتة، فإن مفهوم المنافسة المشار إليه في الحوار منحها من حيث المتوقع صفة الاستراتيجية، كون المملكة العربية السعودية تتميز بموقعها الاستراتيجي وعمقها الحضاري واتساع مجالاتها الحيوية البحرية والبرية وثقافة أصولية تاريخية وجغرافية مقدسة، إضافة إلى قدراتها الاقتصادية الطبيعية، وكل هذه المقومات تبدو من حيث المادية مناسبة لسياسة الانفتاح، لكن الأساس المعتمد هو في مدى استجابة القدرات المجتمعية والمعرفية ومدى استعداده ثقافيا وحضاريا وأخلاقيا ومهنيا للدخول في المنافسة المحلية كمقوم أساسي لخوضه غمار المنافسة الإقليمية.

وبهكذا فإن الرؤية بنيت على جملة من السياسات التحديثية والإصلاحية والتغيرية في نمط المؤسسات الإدارية والقانونية، والأمنية، والثقافية، وستساهم هذه التبيئات المحلية في إدارة القدرات المحلية وخلق النموذج الاجتماعي الحضاري، وإن بدأ التقارب واضحا بين عالمية القيم الإنسانية وخصوصية القيم الحضارية وهنا نقف على ثلاث مسارات أساسية:

  • مسار الاقتصاديات المحلية.. ولها ضوابط ومعايير يمكن استنباطها من ثقافة المجتمع واحتياجات السوق المحلية.
  • مسارات الاقتصاديات الإقليمية.. ولها ضوابط متعددة ومختلفة ترتبط بشروط مختلفة للأسواق ومعاييرها الاقتصادية المختلفة، وهنا سنقف على مستويات مختلفة من المعايير النوعية.
  • مسارات الاقتصاديات العالمية: ولمها ضوابط ومعايير محددة تبنى على الوعي بالتشريعات الاقتصادية والثقافية والمجتمعية والأمنية، وقد تكون أكثر تقاربا وانسجاما من المعايير المعتمدة في المحيط الإقليمي لدولة المملكة العربية السعودية؛ هذا في حال كانت العالمية والسوق المفتوحة وحرية المنافسة بعيدة عن الضغوط السياسية والعسكرية.

ويبقى عامل السياسة من أهم العوامل التي تدير الاقتصاد، والتنمية، والاستثمار، وكلما كانت عقلية النظام السياسي براجماتية كلما ساهمت في السيطرة الناعمة على الأسواق الإقليمية، وتمكنت من وضع معايير صارمة لحماية المستهلك وفقا لمبدأ الأمانة الإنتاجية ودور الدولة الوظيفي في حماية المستهلك من الحيل الاقتصادية.

سياق الرؤية الاجتماعية:

قدم الرؤية سلسلة من الإجراءات الإدارية التي توفر المال والوقت على المواطن، وتمنعه من الاحتكاك الروتيني المباشر بالمؤسسات الوطنية، أو تقليله إلى الأدنى، وهذا النموذج هو أول النماذج الناجحة في بلدان العالم العربي نظرا لعوامل نفسية وقبلية وعقائدية وثقافية شريطة أن يكون وسيلة من وسائل التهذيب للإدارة المباشرة ، وعلى الرغم من حداثة التجربة إلا أن هذه النقلة النوعية خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة يؤكد على نجاحها في المستقبل كانموذج لدول المنطقة إذا توفرت البنية التقنية، هذه البنية لها محددات أهمها:

  • تدريب المواطنين على كيفية التعامل الواعي بنصوصها وأدواتها أو تعيين موظفين تابعين للإدارة الإلكترونية يعالجون مشكلة الأمية الإلكترونية ومزامنتها بالتدريب المستمر لمعالجة أزمة الأمية الكترونية التي قد تخلق طبقات افتراضية بين فئات المقتدرين والعاجزين.
  • تأسيس شبكة وطنية تغطي كافة المساحات السكانية في المنطقة.
  • مراعاة فوارق الدخل الاجتماعي في حال تعميم استخدامات الشبكة الافتراضية أو خلق بدائل أخرى لمعالجة خلل الإدارة الافتراضية..

وبما أن رؤية تركز على التنمية المحلية فإنها وضعت استراتيجية خلق رأس مال اجتماعي عبر القروض ، وهو ما يؤسس لاستراتيجية الاندماج الاجتماعي – السياسي أي خلق رؤية موحدة بين قاعدة الجماهير والسلطة، وأيضا لتقليص فوارق الدخل بين فئات المجتمع، وله عدة مدخلات تنموية منها، القضاء على البطالة وتشغيل القدرات، تنمية ثقافة العلاقات الاجتماعية وتجفيف سلبيات التوحش، تعميق مفهوم الرؤية الوطنية والأمن القومي للدولة.

ومن مدينة نيوم وتنموياتها السياحية كجزء من مشاريع الرؤية المخصصة لمعالجة البطالة،ومنافسة القطاعات السياحية في دول الخليج الأخرى، إلى الاستثمار في مدينة الرياض الذي يبدو أنه يمثل نصف الاقتصاد السعودي على حد تعبيره، ولكنه أيضا يندرج ضمن اقتصاد الخدمات أيضا لكن على المستوى الاقليمي نظرا للكثافة السكانية التي تعد أهم مصادر التنمية والاستهلاك، إلا أن التنوع في الاقتصاد شرط من شروط الصحة الاقتصادية للدول الاستراتيجية، ذلك أن الارتباط بنمط اقتصادي قد يخلق أزمات مفاجئة في اقتصاد الدولة، لا سيما في ظل التحولات التي غالبا ما تهدد قطاع السياحة على مستوى التهديدات الأمنية والأوبئة والصراعات الثقافية.

وفي المقابل فإن إشراك المواطن في تحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الدولة وانخراطه في ممارسة قيم الخصوصية الحضارية من أهم مقومات وروافد الانفتاح على العالم ومن أهم أدوات التنمية، ذلك أن تنمية قيم المواطنة تتجسد في مدى التزام المواطنين بما تقدمه الدولة من تشريعات ضريبية متغيرة تتواكب مع ظرفية التحولات العالمية، وتحمل المسؤولية الاجتماعية وذلك في مسألتين: أحدهما يرتبط بالتزامات المواطن تجاه الدولة وتسمى الواجبات، ويجب أن يكون واعيا بها كقيمة قانونية وسلوكية وأمنية ، والثانية التزاماته تجاه قيمه الاجتماعية والحضارية كأصل من أصول تكويناته الثقافية والثالثة تجاه الأخر الإنساني كممارسة سلوكية نابعة عن قيمه الأخلاقية، وفي المقابل الوعي بحقوقه من خلال التشريعات القانونية.

سياق الرؤية الإدارية:

أحدثت رؤية 2030 تحولات كبيرة في هيكلة الدولة وسياساتها الإدارية، انطلاقا من إشكالية غياب مركزية الدولة في السلطة التنفيذية، وقد ترتب عليها عدة سياسات إصلاحية وهي عملية دائبة ومستمرة وكان من أهم سياساته الإصلاحية:

  • الوقوف على خلل القدرات الإدارية وغياب الحوكمة وإدارة الفريق ، وفي ذلك أشار اللقاء إلى أزمة الروتين الإداري في المؤسسات السيادية، وقد بلغت وفقا للأرقام الإحصائية ثمانين في المائة من حالات الضعف الإداري في الوظائف العامة، وقد تداركها بسياسات إصلاحية قائمة على التأهيل وإعادة تعيين الكفاءات الإدارية، ولعل هذا الضعف كان يعالج بقدرات الدولة النفطية وتدني حجم السكان مقارنة بواقع المملكة خلال الألفية الثانية، تبقى المعايير المتبعة نسبية و خاضعة للرقابة والتجديد، وحدد عددا من الآليات المتبعة مع توجهات الرؤية منها :
  • معالجة خلل إهدار الوقت والمال للمستثمرين نظرا للتنقل بين المؤسسات والوزارات والهيئات للحصول على التراخيص وهو ما عالجه في خلق حكومة إلكترونية أو افتراضية موازية وواعية بأهمية الوقت في التنمية.
  • تقليل الاحتكاك المباشر بين المستثمرين المحليين والدوليين مع المؤسسات إضافة الى المعايير الأخلاقية الجديدة التي تميز بها موظفي العمالة الإلكترونية لما يقدمونه من خدمات لإرشاد وتوجيه العملاء، ومتابعتهم.
  • تصنيف القيادات الوزارية بألوان مختلفة وبعدد 20 في كل وزارة.
  • وضع مركز لصناعة الاستراتيجيات والبرامج المواكبة لرؤية 2030 وتكييفها مع القدرات.

وقد أشار إلى معيار حضاري في انتخابه للقيادات الإدارية وحدده بالشرف، وهو المفهوم المرادف في القيم الغربية لمفهوم النبالة التي كانت وما تزال سائدة في العالم الغربي جزءا من التقاليد السياسية، والغطرفة التي كانت سائدة في الأندلس، وكان لها تأثير عميق العالم الغربي ، وكما كانت سائدة في العصر الأموي وصدر الدولة العباسية.

وتعطي الأرقام البيانية الإحصائية ثقة بالرؤية وخصوصا فيما يتعلق بالأزمة الإدارية، إذ أشار الأمير إلى أن خمسين في المائة من الوظائف سلبية، وقد يتبادر إلى الذهن ارتباطها بالفشل الإداري كمعوق في الإدارة العامة، إلا أنها تحمل قيمة أخلاقية وإنسانية وقانونية هدفها تجويد الوظيفة الإدارية التنموية، حماية المال العام والمال الاجتماعي من الفساد والرشوة، كما تتعلق ببعد إنساني وحضاري يؤسس لقيم ومعايير الشرف الحضاري. وهذا ما يتوافق مع فلسفة التحديث الإداري.

وقد أدت سياسة التحديث إلى ارتفاع معدلات الاستثمار الأجنبي بمعدل ثلاث مرات، وارتفاع معدلات استثمار القطاع الوطني من 3000-4000 ألف نقطة إلى عشرة آلاف نقطة خلال فترة زمنية مقدرة بأربع سنوات، وهذا من المؤشرات الايجابية.

سياقات الرؤية البيئية:

وضعت رؤية سياسة مشاريع التغطية النباتية ومعالجة التصحر والاجتياحات الرملية وهذا سيكون له ليس كقيمة جمالية وسياحية وإنما كقيمة صحية تقلل النفقات على قطاعات الصحة، وقيمة بيئة ستسهم ستسهم في تغييرات مناخية كأحد الحلول ضمن استراتيجيات مرحلية تبدأ بتغطية جغرافية تصل مقدرة مائتين في المئة من أربعين في المائة وتصل خلال عشر سنوات إلى ألف في المائة من مساحة الدولة.

لكن هذه الجزئية تحتاج إلى إعادة معالجة من أجل تخفيف الضغط على موازنة الدولة، ويكون ذلك بإشراك المجتمعات وتفعيل دورهم في حماية البيئة كقيمة مجتمعية عامة.

سياقات الرؤية والتعليم:

ركزت هذه الرؤية على استراتيجية التنمية الذاتية أو ذاتية التعلم، واقتصرت الرؤية على فكرة الوصول إلى العالمية بعدد من الجامعات أو جامعة على الأقل، واستخدمت منهج المقارنة الافقية لمفهوم التحديث في السياسات التعليمية، إلا أن هذه الرؤية ليست مكتملة أو غير واضحة المعالم لأن التعليم المرتبط بالمعايير العالمية سيظل مستهلكا للتقاليد الحداثية وهو ما يبعده عن مفهوم القيم الحضارية والتنمويات الخاصة.

سياق الرؤية والصحة:

أخذت هذه الرؤية بثلاث جوانب إنسانية وتنموية وحكومية، يساهم القطاع الحكومي الى جانب القطاعات المجتمعية غير الربحية وقطاع الاستثمار للاسهام في رفد هذه القطاع الصحي، وهذا هو السائد في أكثر الدول المتقدمة التي تعتمد سياسة التأمينات الصحية كقيمة إنسانية وتمنح المواطنين حقوق متساوية بحسب معايير الدخول ومستوياتها، وفي كل جزئية من الرؤية يحاول إشراك المجتمعات إلى جانب الدولة في تحمل المسؤولية.

سياق الرؤية الحضارية من منظور القيم الدينية:

وضع محور الاعتدال في رؤية حضارية مرتبط بأصولياته الثابتة القرآن والسنة ومقتضيات المصلحة، وفي هذا السياق تحدث عن قيم التشريع في السياسات المدنية، على منهاج النبوة والخلافة الراشدة في الممارسات العملية للأحكام، ثم الدولتين الأموية والعباسية حيث كان الفقه من أهم معالم علم السياسات المدنية، من اجتماع وسياسة ومالية وعلم نفس متحددة بالمصلحة الشرعية، أو المصلحة العقلية، ويمكن تتبع المتغيرات والاستدلالات والظروف الاجتماعية والواقعية التي ساهمت في تدوين العلوم الفقهية.

وأشارت المداخلة إلى مفهوم الاعتدال وهو الجانب التطبيقي لمفهوم السلوك السوي أو المستقيم ، والاستقامة أو المسيطرة في مصطلح الفقه المغاربي يبنى على أصولية ومحددات العدالة الشرعية أو الإنسانية التي تتناسب مع متغيرات الواقع ووفقا لمقاييس النص القرآني وليس وفقا للمقاييس الحضارية العالمية، ومن ثم ستكون المحرمات المنصوص عليها في القرآن مستبعدة لأنها من المعايير العالمية التي لا تتوافق مع مفهوم الخصوصية الحضارية، وهذا ما أشار إليه بمركزية القرآن والسنة وخضوع السلطات التشريعية والسياسية لأحكامه ونصوصه والانضباط بحدوده ومحدداته.

وحتى لا يؤخذ بالنص القرآني متجردا عن القيم العملية لتطبقاته في السنة النبوية فإن موضوع التطبيق المنضبط بنموذج الغامدية له دلالات حضارية متعددة أهمها:

  • تنمية ثقافة الرقابة الذاتية (الورع) في علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بالناس وفي ذلك أعاد ضبط لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بإلغائه وإنما بتهذيبه وفقا للضوابط والمقاييس الشرعية لسيرورة الدول الحضارية الإسلامية المشهورة والتي كانت في الأساس تعالج الظواهر العامة أو تتحول الرذيلة إلى قيمة مجتمعية وما كان مستورا فلا يجوز الكشف عنه، وتتمحور قيم الذاتية الحضارية بما تقدمه الأسرة والمجتمعات ومؤسسات التعليم والتشريعات من نماذج تربوية .
  • ربط العقوبة بشروط النص المعتمل به في سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اطار تعامله مع المرأة الغامدية وماعز الأسلمي، وتتمحور على قيم الرحمة الإنسانية وتتحدد بمعايير نفسية واجتماعية وإنسانية.
  • تعميق ثقافة التربية الدينية وفقا للمنهج الحضاري الخاص وتطبيقه بحسب الظواهر التي تهدد قيم المجتمع وأصولياته الحضارية.
  • خلق ثقافة الاجتهاد بمحدداته الشرعية واشتراطاته الواقعية وضوابط المصلحة العقلية.
  • اعتمال المصلحة في مدونة الأحوال الشخصية بحسب المحددات الأصولية من قرآن وسنة، والمحددات العقلية المبنية على فلسفة المصالح الواقعية .

أما سياق الرؤية في مفهوم الهوية الحضارية، فلم تكن بدعة حداثية إذ كانت المجتمعات الإسلامية منذ عصر النبوة مرورا بعصر الدولة الأموية والعباسية وحتى نشوء الدول القطرية المعاصرة تمارس الانفتاح الإسلامي على الآخر ثقة بقيمها الحضارية وثقة بمواطنيها الأكثر وعيا بالذات، والآخر والدور والوظيفة، وقد كانت المجتمعات الأخرى تخشى على هويتها من تأثير الهوية الإسلامية، وتمارس الإرهاب والعدوان الذي كان يمنح الحق للدولة الإسلامية في الرد بالمثل، بل تبنت الدول الإسلامية الحضارية حماية الحقوق الإنسانية على المستوى العالمي، وحرية الانفتاح وحماية الدول المخالفة لها في الدين والثقافة والعرق وفقا للمعايير النبوية والراشدة والتي مارسته الدولة الأموية والعباسية بعد ذلك ، وقد كان التفاعل الاجتماعي و الفردي العربي القيمي والأخلاقي واللساني نموجا ومنهحا يستقطب الآخر ومدعاة لانتشار القيم الإسلامية، قبل أن تختزل القطريات الدين في هويات قومية مذهبية وعقائدية أفسدت مضمون التدين وقيم الانفتاح والحضارة الإسلامية، وانغلقت عن الآخر حتى دخل عليها في عقر دائرها وقد فقدت مركزية وجودها اجتماعيا وسياسيا وعالميا، وأصبحت من أهم مداخل التطرف السياسي والاجتماعي والعرقي.

وقد ركز الأمير محمد بن سلمان على مفهوم الهوية الحضارية وهو المفهوم العام الذي جعله فوق اعتبارات الهويات القطرية أذ أن الكل لا يختزل في الجزء ، وهو ما أكد عليه برفضه للمواطن الضعيف القابع بين متهاهات العزلة وكراهية الغرباء أو المتماهي مع الآخر ثقافيا ونفسيا ووجدانيا.

ويرى أن الموطن المتعمق بقيمه ومبادئه الحضارية والدينية أكثر تأثيرا وأعمق رسالة من ذلك الذي يتوجس من ثقافة الآخر، وإن كانت نظرية ابن خلدون تؤكد على أن المغلوب مولع بتقليد الغالب والمغلوب هو الضعيف فكرا ومعتقدا وعلما وليس الضعيف في بنيته وإمكانياته وقدراته.

ولا نخال أن غياب الثقة والخوف من الآخر وضعف الهوية الحضارية الدينية لدى الفرد المسلم شكل أزمة هوية متناقصة بين رغبته في غلق جغرافيته عن الآخر، في الوقت الذي يسمح لنفسه الدخول في جغرافية الآخر وربما التعايش معه والبقاء فيه، لا سيما الكثير من الذين تبنوا قيما دينية وسمحوا لأنفسهم البقاء في دولة مخالفة فكرا ودينا ومعتقدا بحجة الفرار من الاستبداد، وفي الوقت ذاته يرفضون بقاء الآخر خوفا على الرابطة الإيمانية والعقائدية والثقافية، مع أن مبررات الخوف لم يعد مجديا مع نظام العولمة المتعددة المجالات.

كما يشكل أزمة وجود للممتدين المعاصر مقارنة بالمسلم العالمي المنفتح على الآخر بقيمه وأخلاقه وعدالته، وهو ما أشار إليه الأمير محمد في أن يكون للعالم العربي قيما وأصالة وحضارة وتاريخا يؤثر في الثقافات العالمية ويتحصن بها ليس بالانغلاق وإنما بالتواصل.

من خلال التفسير الواقعي عزا أسباب نشو التعصبات والتطرف الديني إلى دور الأيدولوجيات القومية والاشتراكية كأفكار وقيم هجينة أو وفادة أوقدت التطرف بما قدمته معتقدات متناقضة أو تتناقض مع هوية المجتمعات العربية الإسلامية وأصولياتها.

وبهذه فإن التعصب الديني والعنف مبني على ردة فعل معاكسة ساهمت في تكوينه وتشكيله الدول القومية، وساهم في تكوينه الاستعمار الغربي والمعتقدات التاريخية القديمة التي انحرفت عن سياقاتها الحضارية وقيمها الإسلامية.

رؤية والسياسية الخارجية:

تقوم هذه الرؤية على فلسفة المصلحة القومية وهو بهذا يتكيف مع الفلسفة البرجماتية في إطار الالتزام بخصوصيات الدول الأخرى ومواثيق الأمم المتحدة، وباتباع سياسة منفتحة مع كل دول العالم بما يخدم مصالح الدولة أو تبادل المصالح المشتركة، ويرى أنه لا توجد عداوة دائمة ولا صداقة دائمة كأنه يتبع في سياسته الجديدة النموذج الصيني القائم على رؤية اقتصادية، ويرى أن كل الحلول ممكنة، حتى مع دولة إيران إذا لتزمت بشروط التعايش الدولي تحت مظلة القانون الدولي،

ويشكل المواطن السعودي محور القيمة الرئيسية لاستراتيجية رؤية 2030 ، وهو ما يعني ارتباط التحديث بمفهوم المواطنة السعودية الذي يجسد دور المواطن في شراكته مع الدولة.

ورغم تعدد الأزمات العالمية وسقوط دول عالمية، من ضمنها دول متقدمة كإيطاليا وإسبانيا إلا أن المملكة العربية السعودية تمكنت من مواجهة التحديات التي تعرضت له اقتصاديا وأمنيا، وما تزال تقدم رؤى تنموية اقتصادية نجد معالمها تتلمس الواقع؛ فهل بمقدور الدول المأزومة بثورات الربيع والحروب الأهلية الخروج من أزمة الصراع على الثروة والنفوذ إلى استراتيجية التنافس في استثمار القيم والثروة وإعادة الأمن والتعايش السلمي والإقليمي وبناء مؤسسات الدولة وفقا لمبادئ العدالة والحقوق الإنسانية؟.

ويمكن اجمال المقومات التي ستسهم في إنجاح رؤية 2030 بما يلي:

  • القدرة الإدارية: ويتوقف على مدى ما لدى مؤسسات الدولة من استراتيجيات وبرامج علمية عملية.
  • القدرة المجتمعية ويتوقف على ما لديها من أصول معرفية وقناعة وإرادة تنموية.
  • القدرة السياسية من خلال خلق البيئة الآمنة للاستثمار وحمايتها من أي تهديدات تعرقل مسيرة التنمية.
  • القدرة التشريعية في خلق قوانين المواطنة المتساوية لكل القائمين على جغرافية الدولة.
  • القدرة الحضارية بما لديها من قيم حضارية أخلاقية قادرة على التأثير في ثقافة الآخر .
  • القدرة التعليمية من خلال تجويد النوعية في مخرجات التعليم المؤهلة للانخراط في سوق العمل.
  • القدرة الاستراتيجية وهو مفهوم يرتبط بعدة مجالات قائمة على الخطط الواقعية التي تتناسب مع واقع الدولة وامكانياتها .

وعلى الرغم من أن مشروع نيوم شبيه بمشاريع قائمة في الامارات وقطر وتركيا وبعض الدول الأخرى إلا أن نجاحه قد يهدد أو يضعف دول تتبنى الاستثمار في قطاعات مشابهة، كما أن للدبلوماسية قيمة محورية في رؤية 2030 وهو النهج الذي أخذه في سياسته القادمة، وهو نهج جديد قائم عن خبرة وتجربة تختزل تاريخ الدولة منذ التأسيس وحتى العقد الثاني من الألفية الميلادية الثانية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.