دبلوماسية السلام والسلام الحقيقي: اليمن انموذجا

0 19

د. جمال الهاشمي

دبلوماسية السلام من أكثر المفاهيم التي تلجم القوة أو تكبحها عن تكوين مجتمع السلام، ذلك أن هذه الدبلوماسية تخلق الصراعات المتناقضة وتمنع أحادية القيادة ومركزية الدولة ومنطق العدالة.

فالدبلوماسية الغربية تتعامل مع القوة كواقع يمكن التعايش معه بين ثنائيتن متناقضتين داخل الدولة، ذلك أن تشكيل قوة تهديد من الداخل للنظام يسهم في ارغام النظام وقيادته على تنفيذ مشاريع الأقوى الثقافية والأخلاقية وحفظ مصالحه.

في العالم الغربي نشأت حزبيات مدنية تعمل على تثقيف منتسبيها بالثقافة المؤسسية، بينما نشأت الديمقراطيات العربية نشأة قبلية أو عسكرية أو عشائرية، أو طائفية، هذه المداخل المتعددة لا تعمل ضمن منطق ومعايير السلام الديمقراطي.

في منطق الصراع يلجأ الطرف المهزوم إلى تخويف السكان بسلسلة جرائم العنف واستخدام المقاصل والخوازيق أو تدمير المنازل وتفجيرها أو الإبادة الجماعية، ويسعى من خلال ذلك على تحقيق السلام الداخلي داخل المجتمع الذي يتخوف منه أو لا يثق به في فلسفة علم النفس السياسي،

أو يسعى لخلق السلام النفسي في قناعاته نظرا لعدم قدرته على تحديد أمدا  لنهاية الحرب، أو أنه لا يستطيع الخروج من الحرب إلا مهزوما بشروط الأقوى ، لهذا تكون صرخات المطالبة بالسلام دليلا على الانهزامية ووسيلة من وسائل الدبلوماسية للسيطرة على مزيد من الأرض.

إن السعي للسيطرة على الجغرافية خلال مناقشات السلام أو خلال تشكيل ممثلين دوليين واستئناف الحوار إنما يهدف من خلاله  إلى توجيه رسالتين:

  • الرسالة الأولى للاتباع: وهي رسالة إعادة الأمل بالنصر وتجديد الطاقات القتالية ولا بد من المغامرة بتحقيق بعض الانتصارات مهما كانت التكاليف البشرية.
  • الرسالة الثانية للخصوم: وهدفها بث الانهزامية داخل الصفوف ووسيلة من وسائل تفكيكها والتي قد يتوقع منها لحاق بعض قيادات الخصوم بالطرف الأخر، وقد يكون منها التنازل خلال الحوار عن كثير من الشروط المطروحة.
  • الرسالة الثالثة: هي رسالة للطرف المؤيد للأطراف الداخلية بأن القوة تنمو وتزداد ضراوة مع الوقت وأن المراهنة على الأطراف المحلية المقاتلة مراهنة خاسرة.
  • الرسالة الرابعة: رسالة للمجتمعات في الجغرافية التي تخضع لها لضمان الولاء وتحفيز الدعم الشعبي للمجهودات الحربية.

وأخطر الحروب تلك الحروب الأهلية التي لا تتسق بنظام أخلاقية الحرب، لأن سقوط المدنيين بمثل هذه الحروب يرجع إلى اتخاذهم كدوروع بشرية، وهو ما يؤدي إلى استمرار الحروب واستنزاف الشعوب وتفقيرها.

تعد الجماعات المتطرفة التي لم تكن جزءا من السلطة أو كان في محل صراع من السلطة غير مؤهلة مطلقا لإدارة دولة مدنية قائمة على المعايير الحديثة، أو دولة تاريخية بدليل التاريخ وما تلاه.

لأن تغيير الحكم لا يكون من خلال الحروب الأهلية والصراعات الحزبية وإنما يكون من داخل النظام ذاته، لأن الصراع من خارج النظام مع النظام القائم يحول الدولة القائمة  من دولة نظامية إلى دولة فوضوية.

ويحتاج النظام إلى إعادة تأسيس وهنا يسير على ثلاب بنيات: بنية التكوين الإنساني، وبنية التكوين الإداري، وبنية التكوين المادي، واهمال أحد البنيات أو عدم ترتيبها بحسب الأولوية يؤدي إلى طول أمد تكوين الدولة أو فشلها.

منذ سقوط النظام في الصومال لم تقم الدولة وكذلك الحال في اليمن وليبيا لا ولن تقوم الدولة لأنه ليس لها وجود على الأرض رغم امتلاكها الشرعية.

تعتبر اليمن هي الدولة الأكثر فشلا من بين الثورات العربية، لأسباب متعددة منها:

  • تقاسم النفوذ العسكري داخل الدولة وارتباط منظومة العسكر بالمنطومة القبلية.
  • طغيان الهوية الجهوية والمناطقية على الهوية الأصلية والمدنية للدولة.
  • ميوعة المصلحة وتقلبها كثقافة مادية تتعمق بين رواد النفوذ وطغيان المصلحة الشخصية.
  • ثقافة الفتوة التي تشكلت داخل النظام السابق وهو من أهم أسباب تقمص الأساطير البطولية والتاريخية.
  • التوظيفي العاطفي للتدين تحت شعار الطائفية وتنميط مفهوم الشهادة كأداة من أدوات التجييش الشعبي للمجتمع.
  • التوظيف العرقي بين أبناء الجنس الواحد وتدمير بنياته تحت شعارات الأصل والفرع والقائد والتابع والمقدس والمدنس.
  • اختزال المبادئ الإسلامية والعدالة والمساواة وتدويرها بتصورات العرق والمعتقد.
  • انقسام المجتمعات بحسب المصالح المادية وتغييب المبادئ في التحيزات.
  • تسيس السلام والتحالف والتعاون كوسيلة من وسائل الغدر بالخصوم.

يذهب البعض إلى أن الطرف الخارجي هو الأساس في الأزمة، وهذه إشكالية تمويلية وليست إشكالية فعلية، ذلك أن  التدخلات تستقطبها الصراعات المحلية، وتعدد القوى الطامحة للنفوذ داخل الدولة.

ما دون ذلك فهي أزمة في الفهم والإدارك والوعي وأن الانتصار أو السلام لا يصنع إلا بارغام المهزوم على قبول العدالة والمساواة المدنية المنصوص عليها شرعا وتقنينا.

الصراع في اليمن غير مرتبط بنسق غائي وإنما بانساق دعائية وطموحات جهوية وشخصية وفردية، هذا التنوع هو الذي افقد مصداقية القوى أمام القوى الدولية نظرا لعدم وجود قوة قادرة على صياغة دبلوماسية واعية بمدركات الواقع العالمي والمحلي والإقليمي ومتغيراته، وعدم القدرة على صياغة برامج تنموية قادرة على استغلال المنح والقروض الدولية صياغة تنموية راشدة، وغياب المنظومة المالية الدقيقة لمعرفة كيفية استغلال الموارد وايراداتها.

إن الدولة التي تستمر إلى مالا نهاية عالة على دول الجوار أو مهدد لها  أو تستخدم قوتها لجلب المساعدات غير عالمة بأصول المنافسات التنموية دولة فاشلة وإن كان نظامها قائما.

ذلك أن الزعامة والشهرة من أكثر الأمراض النفسية التي تعاني منها البلدان العربية، ومن هنا يتبين أن الدول التي تكثر فيها الصراعات تعاني من أزمات مركبة تتعلق بطرق التفكير على مستوى الفرد والتنظيم والطائفة والمجتمع.

لهذا فإن اليمن والصومال وليبيا من الدول التي تحتاج إلى إعادة تأسيس بنيتن قبل الدخول في البنى الإجرائية والإدارية، حيث تتعلق البنيتان بإعادة تشكيل الشخصية الحضارية وهي من أعظم البرامج وأكثرها أهمية قبل البداءة في التنمية الحضارية؛ إذ أن الفشل في هذه بتلك.

إن السلام هو قيمة حضارية ونتيجة لها من حيث التشكيل وهو المعتمل الأول، والتكوين وهو المعتمل الثاني.

ومن ثم فإن أصول التنمية يكون بالتكامل مع دول الجوار كأساس استراتيجي تنموي، وليس كبدبلوماسية قائمة على الاتتهازية. لهذا كانت اليمن منذ تأسيس الدولة الحديثة دولة تقوم على تضخيم القوة العسكرية على حساب التنموية.

وهذه الثنائية التي سعت إليها السياسات الدولية في أن تقسم المناطق على ثنائيتي الشر والخير، أحدهما تمثل السلام والتنمية، والأخرى الشر والقوة العسكرية، ويكون اضعاف هذه بتلك، ومن هذه النماذج كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، واليمن والسعودية، وروسيا وأوروبا، وفي حالات أخرى تسيس  دولتين  عسكرتين متصارعتين كالعراق وايران، وكل هذه الصراعات والحروب لم تهدد المصالح الغربية أبدا ولن تهددها بل هي  من المشاريع التي صنعت لهذه المهمة لأهميتها في حماية  مصالح الدول الصناعية المتقدمة والإمبريالية العالمية.

وهناك دويلات صغيرة توظف لتفكيك الدول الكبرى كاستخدام الكويت لتدمير العراق، وادماج كل من قطر والامارات واليمن لتفكيك السعودية  وجميعها توظف السلام  من أجل التدمير.

من جانب أخر تسيس الاستبداد إذا في الحكم لتفكيك الدولة وتدميرها كما حديث مع دول الربيع وأفغانستان والعراق، ووظيفة الاستبداد في كونه يعمل على خلق منظمات معارضة لوجوده . إما على أساس الدفاع عن القيم المجتمعية والتاريخية، أو للدفاع عن القيم العقائدية، أو للمطالبة بالتنمية.

هذا السلام القادم من خلال مداخل الديمقراطية والتدخل الدولي لحماية الأقليات وتوظيف الإرهاب وحقوق المرأة والليبرالية المطلقة وحماية المهمشين لا يحقق السلام وإنما هو أداة من أدوات الحرب الدبلوماسية القائمة على التناقضات المجتمعية وتناقضات الشعب والسلطة، سواء كان ذلك الصراع على النفوذ والحكم،  الصراع على القيم، أو صراع الدفاع عنها، ومنه الصراع لغياب المساواة الذي من أهم أسبابه تهميش السلطة وتحيزها لمجتمعات دون الأخرى، أو تركيز التنمية في جغرافية دون الأخرى، وهذه صفة غالبة في الدول التي لم تستطع حتى من تأسيس النظام على الواقع كاليمن.

إن الدولة الفاشلة في الأساس هي التي تسعى لجعل جغرافيتها ميدان لصراع النفوذ والقوى الإقليمية المتنافسة وتعمل على خلق فوضوية القربى، وإساءة الجوار أو استغلاله.

ومن أهم أسباب ضعف الشرعية في اليمن هو غياب السلطة الحكومية عن الأرض وعدم قدرتها على تشكيل جغرافية آمنة لوجودها داخل الآراضي التي تسيطر عليها.

ذلك أن عدم وجود القيادة الشرعية على الواقع يفقد الشعب الثقة بوجودها الحقيقي كما أن عدم وجودها وملامستها لحياة جماهيرها واحتكاكها بالشعب كدعاية حقيقية لمعرفة تميزها في مجالات الإدارة والعدالة والتنمية والتنظيم، يفقدها الواقعية.

فالإعلام إذا لم يترجم إلى واقع يقلص الرضا الشعبي ويضعفها، وأيضا يضعف حماس القيادة الشرعية ويجعلها اكثر استلابا ذلك أن عدم وجودها في الجغرافية التي تحفز قدراتها وتخلق من معاناتها الابداع تكون جزء من الأزمة وليست من الحلول المطلوبة.

إن الحكومات المدجنة هي تلك التي لا تستطيع ملامسة الواقع والانطلاق منه وإليه في تحركاتها المحلية والدولية.

أما السلام الدبلوماسي فهو وسيلة من وسائل تمكين الخصم الأضعف ليكون مساويا للخصم الأقوى، وليس من أجل فرض عمليات السلام، فالسلام يولد من الواقع ويلامسه بالقوة العادلة وبقوة التنمية وبقوة الطرف يستطع أن يكون جزء من معاناة الناس وليس من الذين يعسكرون الشعوب كفرصة أحادية، ويفرضون عليها الدعم الحربي بالقوة .

ومن تجارب النشأة أن بريطانيا العظمى تخلت عن حليفها الاستراتيجي شريف مكة واعترفت بعبد العزيز  بعد فشل دبلوماسية السلام التي حاولت بها تجزئة الجزيرة العربية الشمالية  بين ثلاث دول: الحجاز ونجد ودولة الإدارسة في الشمال منها.

غير أن القوة هي الوحيدة التي فرضت السلام والتنمية والأمن في المنطقة وهو ما أدى إلى تأسيس الدولة السعودية التي أصبحت بعد ذلك حليفا لبريطانيا ومن بعدها أمريكا، بينما بقيت  منشغلة ببعضها في دولتين وبثقافتين منفصلتين ومتناقضتين وبنظامين متغايرين، وكانت الوحدة مدعاة لخلق هذه الصراعات المحلية والحروب الأهلية، ذلك أنه ليس لأن دولة اليمن فقير وبسبب غياب التنمية وإنما بسبب عدم القدرة على إعادة تشكيل الشخصية الحضارية وتجفيف المجتمعات من الشخصيات الأسطورية الأكثر حضوار بين الثقافتين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.