جدليات الخطابين الديني واللاديني, قراءة في تجديد منهجية الحوار

0 19

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

يمكن التأسيس لمفهوم الخطاب الديني عبر ملاحظة مراحله الثلاث, والتي تبدأ بالنص الديني نفسه (قرآنا وسنةً) منذ عهد النشأة والتكون, ومن ثم مرحلة الفهم العلمي الذي اقتصر على العلماء في قراءتهم للنص الديني, على مستوى الكلام والفقه والتفسير.., ومن ثم بدأت مرحلة جديدة لتكون الخطاب الديني لها ما لها وعليها ما عليها, بملاحظة : (مجمل المرئي والمسموع) الواصل إلى المتلقي (غير المحدد في فئة), عبر مصادر مختلفة ومتنوعة للمعرفة الدينية, نشأت في العالم الجديد, متمثلة بوسائل التواصل الاجتماعي, والإعلام الرقمي, بنحو أصبحت فيه المعرفة الدينية تنتقل عبر قنوات متعددة عابرة للمركزية متوسلة بأدوات بالغة التنوع والتأثير في الوقت نفسه, مما جعل مسألة الخطاب الديني مسألة خاضعة إلى مجال التداول وكثافة العرض المرئي.. لم يعد الخطاب الديني اليوم ناشئ عن المدارس الدينية او المؤسسات فقط وإنما ينشأ كذلك من بيئة التداول المفاهيمي على منصات التواصل الاجتماعي.

إن الخطاب الديني الإسلامي بالذات يجري تحوله من خطاب نخبوي إلى خطاب (مختلط/ متكون بـصيرورة تلقائية بفعل تعدد المصادر من جهة ووسائل الوصول الى المتلقي من جهة أخرى), ومن تبعات ذلك ارتباك الخطاب ذاته, وهي مسألة مستقلة -نوعا ما- عما نحن بصدده, وهو ما يعانيه الحوار أو اللاحوار بين الديني واللاديني, على نحو جدليات متواصلة ومستمرة من دائرة إلى أخرى, تكرس أزمة التواصل وتستتبع أزمات أخرى من قبيل التعايش والانسجام الاجتماعي..

  والخطاب اللاديني من جهة مقابلة يمكن وصفه بالخطاب الذي ينطلق من موقف ناقد الى حد الرفض للمعرفة الدينية من خلال أرضيات معرفية تخلو من أية جهات غيبية أو أفكار وحيانية بشكل متجاوز لكل ما هو مقدس وبمنحى فكري نسبي لا يستند إلى ثابت فطري, ويمكن عده خطابا يستند الى قيم بشرية انسانية متوسلا بكل ماهو واقعي يلامس الالم الوجودي الذي يعانيه الوجود الانساني, وكذلك لم يعد الخطاب اللاديني ناشئ عن رؤى فلسفية بشرية متأثرة بالمادية أو بعض الاتجاهات الفلسفية بل ينشأ كذلك من ردود أفعال وأوساط تخلق نمطا من التفكير الذي ينافي الفكر الديني.

من أهم خصائص هذا الخطاب أنه خطاب متفاوت من حيث المنشأ والنمط, يتوسل القيم الإنسانية الواقعية وأزمة الوجود الإنساني, يسأل عن الجدوى أكثر مما يسأل عن الدليل, يتجاوز المقدس ومنطق التعبد, ويعاني عقدة الإيمان والاقتناع, ويعاني من مشكلة التعميم ..

 وبعد افتراض وضوح الخطاب اللاديني الذي يتضمن الالحاد وما دونه من مواقف الرفض وتجاوز السلوك الديني, يمكن القول أنه اذا لم تتم قراءة الخطاب اللاديني بكل تفاصيله ومستوياته فإن من العسير الادعاء بإمكانية توفر ارضية سهلة للردود والإجابات.. في الحقيقة أن المسألة ليست بهذه البساطة بل تحتاج الى المزيد من الجهود المعرفية التي تعالج المشكلة بموضوعية وتجرد, فثمة تساؤلات مهمة لابد من طرحها حول صمود التراث الديني بوجه الكثير من الاشكاليات الجادة التي يتضمنها الخطاب اللاديني كلائحة نقدية متفاوتة في العمق والجدة, فمن اشكاليات الالحاد مثلا ما هو مجرد ردود افعال ازاء الاسلام السياسي من جهة وممارسات التدين السلبي من جهة أخرى, ومن الاشكاليات ما يمكن عدّها ذات منطلقات معرفية تستهدف مستويين من البناء الديني عموما يتمثل المستوى الأول بأصل فكرة الدين من حيث ضرورته ومحوريته في الحياة الانسانية, فيما يتضمن المستوى الثاني الموقف من النص الديني من خلال رصد بعض الثغرات المعرفية وفق التصور النقدي الذي ينطلق منه الخطاب اللاديني.

من المشاكل التي تواجه الفكر الديني عموما هي المشكلة المعرفية, فتستبطن الأخيرة الكثير من التحديات على مستوى البناء المعرفي, فالفكر الديني المستند الى تصور إيماني ليس بإمكانه مجاراة التحديات المعرفية, ذلك أنه ينطلق من مسلمات ايمانية, ولا يعني ذلك تجاوز الحقيقة الايمانية بقدر ما يعني اخضاع الحقائق الايمانية الى التأسيس المعرفي المساوق للعقلانية, لذا لابد من اعتبار نمط المعرفة الدينية من ناحية كونها معرفة ايمانية مبرهن عليها, وعلى هذا الاساس لابد من تحديد الاجراءات التي من شأنها أن تمهد لعلاج مشكلة الخطاب اللاديني:

1– تحديد منطق التواصل:

المشكلة في التفكير الديني وخصوصا الاسلامي هي غلبة المنطق الارسطي في عموم المعرفة الدينية, هذا المنطق الذي بات يعجز عن حل الكثير من الاشكاليات التي ينطلق منها الخطاب اللاديني, فالمنطق له اهمية كبيرة في التواصل مع العقل البشري, واذا كانت الاشكاليات عصية على المنطق الارسطي وليس للأخير حيلة في تفكيكها وتفتيت بنيتها فلا بد من التوسل بمنطق اقرب الى الواقع الذي تنطلق منه تلك الاشكاليات, اذ تنطلق الأخيرة من اسلوب التفكير الوجداني الذي يلامس مختلف الاحاسيس البشرية ملاحظا العديد من نكبات التاريخ البشري.

وإذا ما لا حظنا منطلقات الشبهة والنقد حول المعارف الدينية, نجد ان المنطلقات القديمة تدور حول أزمة الدليل, والاساس المعرفي للقضايا الدينية, في حين تبدو المنطلقات الجديدة مختلفة عن السابق, فهي تدور حول الفائدة والمغزى, وأزمة المعنى, فقد تجاوز الخطاب الديني مثلا أهمية انكار الإله, متسائلا حول ماهية الجدوى من الدين..

2-محاولة التأسيس لفكرة الإيمان بمستواها المجرد:

يستهدف الخطاب اللاديني فكرة الايمان بالأساس, وهي بإطارها العام او المجرد لابد ان تتم حمايتها بعيدا عن القبليات الدينية التي يتم تداولها في التراث الديني, ومعنى ذلك هو ضرورة الانتهاء إلى حلقات جديدة في التأثير تتبع لغة تواصل خاصة وجديدة في الوقت نفسه, تلامس الواقع الانساني الداخلي (الوجدان/القلب).

اذ لا يمكن حصر ظاهرة الايمان الديني في دين واحد بل يتحتم على المتصدي في ان يتجاوز مستوى الايمان الديني من اطار الاديان السماوية الى مختلف الديانات الوضعية ليصل إلى مستوى الايمان المطلق الذي يستهدفه الخطاب اللاديني بنفس مستواه المطلق, لذا لابد من البحث في المنطق الايماني وسبل تغليبه على المنطق الرافض له من خلال تكريس الجهد المعرفي واعادة صياغة الاسس المعرفية للإيمان البشري بوصفه ظاهرة بشرية عامة تواجه تيارات مختلفة على مستويات متفاوتة من التضاد والتحدي.

3– تحديد أولويات الاثبات:

قبل كل شيء لابد من تحديد الاوليات, في عموم المعرفة الدينية ذلك ان الاخيرة تتضمن طبقات مختلفة من المعارف والاصول الفكرية قد يستهدف الخطاب اللاديني صنفا محددا منها, مع أن ساحات النقد تختلف في طبيعة التناول, فمنها ما يتناول حافات التراث ان صح التعبير, فما يطرح من شبهات على مستوى المعارف التي تنضوي تحت اطار المعرفة الاجتهادية لا يمكنه خطرا مثلما يواجهه النص الديني الموحى به, ذلك أن الأخير أجدر بالاهتمام من غيره الذي يتضمن اجتهادات العلماء والفهم الديني, ومن هنا يمكن القول ان التأكيد على يقينية الاصول الدينية للإسلام لهو من أولويات الحوار مع الخطاب اللاديني, أما بقية التفصيلات التي تتفرع عن تلك الأصول فلا يمكن فتح الحوار فيها مع ما تواجهه من تحديات داخلية على مستوى الاختلاف المذهبي والايديولوجي في الاطار الاسلامي.

4-   تحديد دائرة الخطر:

من المهم جدا تحديد نطاق الخطر من اجل ان يكون الحوار موضوعيا وفاعلا, فالخطاب اللاديني لابد من اخضاعه الى عملية اختبار وتحليل ليتم تحديد الاولويات من خلال تشخيص المشكلة بدقة, فالمشكلة معرفية بالدرجة الأولى بغض النظر عما يساق إلى كونها ناتجة عن مؤامرة غربية, فالمنطلق يبقى في الجذور المعرفية والبنية الفكرية للمعارف الدينية, فالملحد مثلا جعل من العقل والمعرفة العلمية ملاذا وسبيلا لموقفه وميزانا لمحاكمة الاديان واتهم من يضاده بالجهل, واعتبر ان كل ما يساق من أدلة على وجود إله مدبر ليس إلا قصورا وجهلا والعقلانية سبيل ينحصر بالمعرفة العلمية المبينة على البحث والتجريب وبذلك شكك في صحة المنقولات الدينية معتبرا طريقة الفحص عنها فاقدة للمعايير العلمية الدقيقة فيما يرى النسبوي أن العقل دليل على عجزه, وهو راضٍ بالعجز, مؤمنا أن المشكلة لا تحل بالحسم, بل هي عصية على القطع, وهذا النمط من التفكير قريب من الموقف اللاأدري بل هو أرسخ من حيث تسليمه وإصراره على استحالة الوصول إلى أي نتيجة سواء على مستوى الإثبات كما هو موقف الأديان أم على مستوى النفي كما هو موقف الملاحدة, وبذلك يعطل فكر الإنسان مستسلما لعجز العقل عن إدراك الحقائق أو حتى إنكارها[1].

هذا الفرز الأولي يتيح للمتصدي أن يلاحظ مواطن القوة والضعف لدى الآخر, فالنسبيون لا يمتلكون نهايات معرفية ليتم الحوار معهم مع ما يمتلكونه من انكار نسبي, فكما اتضح ان الاثبات والانكار لديهم نسبيان, ومعنى ذلك هو ضرورة التجاوز وتغيير اتجاه الحوار عنهم باتجاه الالحاد المؤسس على منطلقات معرفية واضحة قابلة للحوار والنقد.

5-  الخطاب الديني الايجابي:

تعد مفردة (الخطاب الديني) من المفردات الشائكة نوعا ما, بما تحمله من معان متعددة, وتجنبا للإطالة يمكن القول أن الخطاب الديني يعني (المدون والمرئي) من المعارف الدينية الذي يصل إلى ثقافة الناس ويؤثر فيها وربما يخلق رأيا عاما في بعض الأحيان, لذا لا يمكن عد جميع ما ألف وكتب وصنف على انه من الخطاب, بل يكاد ينحصر الأخير في المعرفة الواصلة إلى أذهان الأفراد بشتى الطرق, فالمنبر أهم رافد للخطاب الديني, والفضائيات كذلك, وبالعودة إلى صلب الموضوع لا بد من ملاحظة اهمية دور الخطاب الديني الذي يتم تسويقه من خلال قنوات مختلفة في خلق انطباعات عامة عن الدين بشكل عام, وهذه الانطباعات ربما تتحول إلى ردود أفعال إما إيجابية أو سلبية, وتؤول الأخيرة إلى تشكل ظاهرة الإلحاد, فالخطاب الديني المتشنج الذي يخلق الفرقة ويبث الكراهية بين ابناء الدين الواحد سوف يؤدي بشكل حتمي الى ردود افعال سلبية, لأن الخطاب الديني المتشدد تجاه الاخر مهما كان سوف يكون بنظر البعض منشأ للصراعات المجتمعية وحتى السياسية, وبذلك يعكس نظرة سلبية عن الدين على انه سبب المشاكل الراهنة, وهو ما ينبغي ادراكه برحابة وواقعية.

6– محاولة إعادة صياغة نظرية العدل الإلهي

تنطلق أعقد اشكاليات الخطاب اللاديني من الاشكاليات المثارة حول العدل الالهي, وثمة أسئلة وجودية لم تحسم إلى الآن, وهي تمثل عقدة عسيرة إلى الآن, والملاحظ هو ضعف الخطاب العقدي فيما يتعلق بأصل العدل الإلهي, والإجابات لم تستوعب كافة المتغيرات المعاصرة في الفكر الفلسفي الذي يستمر في انتاج الخطاب النقدي الحاد, ومن هنا تظهر ضرورة وضع خطوط عامة لمعالجة الاشكاليات التي تتعلق بالعدل الإلهي, من خلال إعادة فهم النصوص المؤسسة لأصل العدل الإلهي وصياغتها بالشكل الذي يبرّز النزعة الانسانية في الخطاب الديني, تلك النزعة التي اندثرت بين ركام الصراعات المذهبية التي افرزها تنوع الفرق والمذاهب الدينية, لأن ضعف حضور  الإنسان وأهميته في الخطاب الديني كان عاملا هاما في انطلاق اشكاليات الخطاب اللاديني.

في الختام يسعنا القول أن الخطاب اللاديني يمكن أن يُدرس بوصفه ظاهرة ذهنية عامة تنطلق من أرضيات فكرية ذات منطق خاص متجاوز للمنطق الديني والمعارف الغيبية, فالتقاطع مع الغيب يعد السمة البارزة والاساس في الخطاب اللاديني, وبوصفه باللاديني يتيح للعقل الديني معالجة الثغرات المعرفية التي يعاني منها الخطاب اللاديني الذي ينتج ظاهرة الإلحاد وما دونه من أشكال النقد المختلفة التي تطال المعرفة الدينية, ولا يتم ذلك الا من خلال رصد ثغرات الخطاب الديني كذلك فهو ايضا لم يخلو من إشكاليات معرفية تستدعي المراجعة والتصحيح.

[1]– محمد ناصر, تجاذب العقلانية بين الملحدين والمتدينين, ط1, ومضات للترجمة والنشر, بيروت, ص 10

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.