تضخم الذات العقدية وأثرها في قبول الآخر

0 17

د. اسعد عبد الرزاق الأسدي

الذات العقدية هي تلك الذات المركبة من العقل المعتقد والاعتقاد, والاعتقاد يتضمن مجموعة من الافكار التي تترتب على مستويين, مستوى الحقيقة الدينية, ومستوى الفهم لتلك الحقيقة, وربما يعاني ذلك الفهم من اضافات شخصانية متمثلة بقبليات الفهم, وارهاصاته وهواجسه, تحت وطأة البيئة والثقافة والمكونات المعرفية المختلفة..

ان تحول المعتقد من الحقيقة الى الفهم يضفي عليه طابعا بشريا تكتنفه نسبية الفهم, وما يضيفه الفهم من معاني قد لا تتسق مع الحقائق الدينية المجردة عن الفهم..

والذات القابلة للفهم الديني قابلة كذلك لانتقال حال القدسية وتسربها اليها, ما يعني كونها ذاتا مركبة من العناصر الفردية والاجتماعية في تركيبتها اضافة الى عناصر المعتقد, والتي بدورها تعمل على نقل الذات من كيانها المستقل الى كيان معقد بعض الشيء, كيان يشتمل على حصانات تمنع تسلل النقد الى الذات, وهو ما يمكن اعتباره ضرب من معصومية الفهم, الناتجة عن معصومية المعتقد, اذن ثمة مشكلة على مستوى عدم التمييز والفرز بين الذات من جهة, والمعتقد من جهة أخرى.

إن حال الاندماج بين الذاتي والموضوعي في المعرفة الدينية يفسر مشكلات الفكر الديني على مستوى الحوار, والتعايش, والتقارب الحضاري, وبسبب خلق ثنائيات حادة تسود الفكر الديني وتؤثر على مختلف علاقات البشر, وتتضح أهمية رصد ومعالجة التضخم الحاصل في الذات العقدية, وما له من أثر في إعاقة التقارب الاجتماعي, ذلك أن سمة الاختلاف في العقول أو الفهوم طبيعية, وتنوع وجهات النظر أمر إيجابي بحدود طبيعته الذهنية, لكن عندما يتجاوز الحدود الذهنية إلى حدود الانسجام القلبي الذي يستلزم علاقات انسانية سليمة, حينئذ تبرز المشكلة, وتأخذ أبعادا اجتماعية وحتى سياسية على مستوى عام.

يمكن ارجاع مشكلات التعصب والتشدد الديني الى ما تنتجه عملية التضخم في الذات العقدية من ممانعات تجاه قبول الاخر, فالآخر اذا كان رأيه غير مقبول فلا مشكلة, وهي من سنن الاختلاف الجارية على البشر, لكن قبول الاخر لا يتوقف على قبول رأيه, وهنا الفارق, فلا ينبغي أن تتعلق مقبولية الآخر على مقبولية رأيه والشراكة معه في الانتماء, وثمة شاهد قرآني ربما يوضح بدقة ما نحن بصدده, فقوله تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (ال عمران/ 103)

ففي الآية فرض من الله تعالى على ضرورة الاعتصام والتقارب وعدم الافتراق, على مستوى العلاقات والتعايش لا على مستوى العقول والفهوم, لأن الأخيرة من سنن الاختلاف لدى البشر ان تختلف عقولهم, لا ان تختلف قلوبهم, لذا أردف قوله تعالى: (..فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..) فمهما اختلف وتنوعت العقول والمعتقدات لا ينبغي ان تستتبع اختلاف القلوب بل تأتلف تحت عنوان التعايش الإنساني, وإذا كان ثمة تباعد للقلوب فهو يعود لجملة من الاسباب التي من أبرزها اختلاط الذاتي بالموضوعي, وتعالي الذات بتعالي المعتقد, واندماجها بالمعتقد على النحو الذي يجعلها تكتسب حصانة المعتقد ومعصوميته الى الحد الذي يجعلها لا تقبل التقارب القلبي مع الآخر, وهو ما أدى إلى تعاظم الإقصاء والعنف بين فئات مختلفة في التفكير وعند مختلف الديانات والمذاهب, حتى انتج مشكلة أخرى كانت من أخطر ما واجه الدين وهي اقتران الدين بالعنف, وبسبب عنف الفهم اصبحت معاني الدين عنيفة, وبسبب عنف المعنى اصبح الواقع عنيفا, وهكذا تتسرب أطراف المشكلة الى الواقع, ليتم توظيف تلك المشكلة سياسيا عبر خلق تلك الثنائيات الصارمة, من جراء تعميم وتطبيق لمعايير الحق والباطل على فئات ومجتمعات بأكملها.  

ومن الجدير أن نلحظ مستويين من التضخم في الذات, أولهما على مستوى الفرد, وثانيهما على مستوى المجتمع, فكما يشعر الفرد بشيء من الحصانة في فهمه وما يظنه من معتقدات, كذلك الحال في المجتمعات وروحها, ووعيها المشحون بممانعات قبول المختلف عقديا وحتى ثقافيا, والمشكلة أن في بعض المجتمعات تعيش مفارقة في الشعور بتضخم الذات والأفضلية على بقية الجماعات رغم تدني واقعها واستلاب هويتها الحقيقية, وضياع جدوى ارثها الحضاري في المبالغة بالتمجيد, والتفاخر الذي يناقض ما هي عليه حال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.