انحراف مسار الوعي في قضية المرأة من العقل إلى الجسد

0 17

د. عماد علي البريهي جامعة تعز- اليمن
لقد برزت قضية المرأة في العصر الحديث ضمن أبرز وأهم القضايا الاجتماعية والدينية. وقد أنشئت جمعيات وأقيمت ندوات دعت إلى إعادة الاعتبار للمرأة وحقوقها ومكانتها في المجتمع. ولعل الناظر بعمق وإنصاف إلى هذه القضية يلحظ أن الموضوع في جزء منه تم حرفه عن حقيقته الجوهرية، وأُفرغتِ المرأةُ من حقيقتها العقلية والروحية في صورة جسدية فارغة من أي معنى، أي أنه تم تحويل المرأة من كائن إنساني له وعي وكينونة عقلية وروحية إلى قالب جسدي سلعي. وصار موضوع حرية المرأة يرتكز على الحديث عن جوانب هامشية كجسدها والاهتمام بمفاتنه وإغراءاته، بدلا من الاهتمام بعقل المرأة وكينونتها الداخلية، وبدلا من الاهتمام بتكوينها العلمي والعقلي والاجتماعي لتكون هي النصف الآخر المشارك في بناء المجتمع ثقافيا وفكريا ومعرفيا وإنسانيا.
ومن ثم نستطيع أن نقول إن المرأة نفسها وقعت في فخ الاستلاب أكثر مما كانت عليه في السابق، فلئن كانت المرأة في العصور السابقة محرومة من بعض حقوقها إلا أنها لم تُشيَّأ ولم تُسَلّع أي لم تتحول إلى سلعة، خلافا لما هي عليه من العصر الحاضر، حتى أن من يتتبع المجال التجاري والاقتصادي يلحظ بوضوح إلى استعمال المرأة واجهة في أماكن التسوق كوسيلة استقطاب غرائزي كما نجدها في مختلف وسائل الإشهار التجاري وهي حاضرة بصورها وجسدها مما يثير الشك والريبة في الأمر.
وقد كان تركيز الدعوات المناشدة بحرية المرأة واستقلالها على الجسد كقيمة غرائزية دون أي محتوى إنساني، وانعكس هذا الأمر على بعض المذاهب الفنية في علم الفن والجمال بحيث ظهرت بعض المنحوتات التي تجسد الأنثى في عريها الجسدي. وبرزت توجهات فلسفية حديثة تؤيد هذا التوجه وتدافع عنه تحت مصطلحات عديدة منها “النزعة الطبيعية” أو “نزعة العري”. ويرفض أصحاب هذه الأفكار “فكرة أن ظهور الجسد العاري أمام الناس هو خطأ أخلاقي يعتبر المرء تبعا له غير مهذب أو أن صاحب الجسد العاري الذي يظهر أمام الناس هو منحل جنسيا” بل يعتبرون ذلك “حالة صحية طبيعية تعبر عن أنقى صورة بشرية لأن كل الناس ولدوا عراة”. (محمد حسام الدين إسماعيل، الصورة والجسد دراسات نقدية في الإعلام المعاصر، ص209).
ولكن هذا الكلام يحتوي على مغالطات كثيرة، فهل نظرة الطفل العاري يميز في مرحلة الطفولة بينه وبين الجنس الآخر؟ وهل تقوم نظرة الطفل إلى جسده أو إلى جسد غيره على التمايز الذي يحمله الإنسان الكبير؟ أليس الطفل في هذه المرحلة لا يحمل مشاعر جنسية تجاه الجسد الآخر؟ فكيف يتم الاستدلال بأن العري أصل في الإنسان في مرحلة طفولته؟  ثم لماذا العري للمرأة فحسب؟ وليس للرجل؟ أليس هذا الأمر يدعو للريبة؟ فإذا ما كان الأمر إنسانيا فلماذا لا يكون للجميع مثلا؟ أنا هنا لا أدعو إلى العري عند الرجل والمرأة بل أكشف عن المضمر الثقافي المتواري تحت هذه الدعوات التي شَيأت المرأة وحرفت جوهرها وهي دعوات مضللة ومقنّعة بأقنعة خطيرة تحت دواعي النقاء والفطرية والحقوق!
وقد برزت بعض الأفكار النسوية مناوئة لهذا التصور الذي يسيء في حقيقته إلى المرأة إذ يعتبرها “قالبا نمطيا أو موضوعا لتحديق الرجل فيه في إطار التقاليد البصرية للفنون الرفيعة والثقافة الشعبية. وأكثر الملامح الرمزية التي نذكرها في هذه الموجة الهجوم على الرموز البصرية لصناعة الجمال أو الأشكال القمعية للتشيئ. ففي مسابقة ملكة جمال أمريكا لعام 1968، قامت مظاهرة احتجاج نسائية بتحطيم الأدوات القمعية للأنوثة (مثل حمالة الصدر والمشد والرموش المستعارة وأدوات تمويج الشعر والشعر المستعار ومجلات الموضة) بغرض انتقاد النظام الذي يقيس المرأة بمظهرها”. (سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ص178.)
 ويجدر بنا أن نشير إلى أن هناك دعوات وآراء -لكنها كانت طفيفة- قد ركزت على المرأة كجوهر وكيان إنساني وذهبت إلى الدفاع عن حق المرأة في التعليم والتعلم والمعرفة والتجارة وجميع جوانب الحياة مما لا يخالف الفطرة الإنسانية، ولكن تظل هذه الدعوات ضئيلة إذا ما قورنت بالدعوات الناشزة عن هذا الجانب الإنساني النبيل. ونرى في هذا الجانب أن إعادة النظر إلى قضية المرأة ووضعها في سياق إنساني واجتماعي ومعرفي وربطها بحقيقة الفطرة الإنسانية السليمة سيحقق ثمارا في الارتقاء بالمرأة خاصة والمجتمع عامة باعتبار المرأة هي النصف الذي يشكل لبناته ويقيم دعائمه، وما أصدق قول الشاعر حافظ إبراهيم في هذه الحقيقة إذ قال:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.