اليمن بين أزمة العسكرة وتحديات المستقبل

0 17

اليمن بين أزمة العسكرة وتحديات المستقبل

د. جمال الهاشمي

تقع اليمن بين إشكالية الواقع وإشكالية فهم متغيرات الواقع بما لهما من انعكاسات على المستقبل، وتأتي إشكالية الواقع في عدم معرفة طبيعة المجتمع اليمني نفسيا وتاريخيا وعقائديا وجغرافيا، إذ أن المتغيرات لها دلالات وظيفية: سياسية واستراتيجية، وقد يتمكن في توظيفها من يمتلك ناصية المعرفة ويدرك بذهينته السياسية تلك المعايير التي تحدد أنماط  المجتمع ومتغيراته بدقة علمية.

ومن هنا تأتي إشكالية التعامل مع حصائد التنوع الجغرافي والعقائدي والنفسي للشخصية اليمنية التي تعد واحدة من أعقد المجتمعات في دراسات علم الاجتماع السياسي، ذلك أن علم السياسة والاستراتيجية والعلوم العسكرية تسقط علميا وواقعيا عندما يستقي صناع القرارات العسكرية والسياسية على المنطوقات الصحفية والتعبئات الافتراضية.

وبعد تتبع منهجي لدراسة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر) لكبار القادة السياسين المؤثرين والشخصيات المؤثرة  في اليمن، لم تعدو أو تجانب الشحن الحزبي – الطائفي في جانب، والتمظهرات المثالية من جانب آخر وجميعها تشير أو تحدد ملامح و مستقبل الأزمة اليمنية.

ذلك أن التنمية وتدهور العملة اليمنية وغياب الرؤية الاقتصادية وأزمة الخلط بين اختيار مركزية الجغرافيا المدنية والجغرافية العسكرية يجعل من فكرة الحلول السياسية مستحيلة، ذلك أن الحروب اليمنية تعتمد بالأساس على سلسلة من المعلومات المضللة، الناقصة، المشوهة، كما تتخلها مؤثرات النفوذ.

لهذا يغلب على الجبهات العسكرية اتباع أساليب قتالية تعتمد على سياسة الأرض المكشوفة التي لا تكون في المناطق الجبلية، وهذا من أهم أسباب تعبئة الضعفاء والمحتاجين في الصراع  الأهلي بين قوى النفوذ المحلية، وكذلك تعتمد جبهات الجهات على أساليب التدفقات القتالية المتمركزة على جغرافية واحدة، مع عدم قدرتها على فتح جبهات أخرى، إضافة إلى غياب المجال المدني المنظم الذي لا يقل أهمية عن المعسكرات القتالية، إضافة إلى أسباب أخرى تجسدها التناقضات وصراع النفوذ العسكري كما هو صراع النفوذ المدني على مراكز القرار.

وهنا تأتي إشكالية ضعف الجغرافية المدنية التي تشكل الطوق الرادف لأحزمة المناطق الملتهبة، ومناطق المجالات المفتوحة.

إن من يعتقد القوة هي وحدها كفيلة بحل الصراع في اليمن فإنه لا يصح منه أن يكون خبيرا عسكريا أو محللا سياسيا، ويكفيه أن يدور في دائرة المهنة الصحفية.

في اليمن لا يعول على القوة كوسيلة أحادية لتحقق التفوق والانتصار، ولا يتحقق النصر بالقوة الجوية وحدها، ذلك لأن القوة هي من أهم أدوات التوسع، ما لم تتكامل مع متغيرات الواقع، تكون لها ارهاصات سلبية.

من جهة أخرى  فإن اعتماد مركزية القيادة  في الحروب العسكرية يعد إشكالية من إشكالات  الفكر العسكري، والذي اقصد به دور الوعي العسكري في توظيف المعرفة الثابتة للمنطقة المستهدفة كالجغرافيا والإنسان و…، وأزمة في الذهنية الجيوعسكرية والتي من أهم عناصرها القدرة على التخطيط والتكتيك ، وليس التخطيط فحسب، لأن القدرة جزء من الواقع والتخطيط هو جزء من التصور لذلك الواقع.

وقد بنيت ما كتبته على  تواصل ونقاشات مع قيادات عسكرية وكذلك تتبعي لتصريحات الخبراء العسكريين وجميع ما استخلصته يدور حول ما ما يجب وليس حول الممكن، ذلم أن الأول يعكس ذهنية التخيلات والتصورات المثالية، بينما الثاني الذي هو جزء من الواقع مغيب عن التفكير.

لا شك أنك عندما تسمع حركة مريبة تضع التصورات المحتملة، الأول منها تصورا يستغرق ثانية من الزمن، وكلما طال زمن الحركة مع الريبة تزداد الفترة الزمنية  وهنا يأتي دور  التكتيك المبني على تلك التصورات بحسب الفترات الزمنية وهذه من أهم منتجات الرؤية الاستراتيجية الواعية، وعندما اصنع استراتيجية فإنني  امتلك قبل اصدار القرار وقتا كافيا لدراستها وتجزئتها  إلى خطط جزئية وبدائل يخضع عددها على مدى قدرتي الذهنية في خلق البدائل وهذه تعتمد على ما لدي من معرفة بالظاهرة والإشكالية وما لدي من معلومات التي منها ما تكون يقينية وظنية ومريبة، و من ثم قإن هذه البدائل هي التي تقوم برتق إخفاقات الخطط الجزئية الأولى وتعد  بمثابة القدرة التكتيكية المعالجة لاخفاقات الخطط الجزئية التصورية الأولى.

أما في اليمن فإن التعداد السكاني واعتماد سياسة التبعئة العسكرية حزبية ومالية وعقائدية تكاد تكون متساوية بين أطراف القتال وهنا تتسع مساحة التغرير التي تكشف طبيعة التقلبات والاخفاقات الكامنة داخل النسيج وفيها فجوات لا يحسن كل طرف من الأطراف المتصارعة استغلالها واتخاذ القرارات الحاسمة،  مما يطول أمد الصراع ، وبهذه الطريقة العشوائية تتراجع الإرادة القتالية، مما يستدعي تقدم القيادة في الميدان لرفد خلل الإرادة وقد يؤدي إلى تكاليف كبيرة أو انتصارات معنوية، و قد يترتب عليها سقوط القائد الميداني في بداية التقال فتزداد معضلة استعادة الإرادة القتالية. أما تكرار الهزائم فلا يمكن أن يكون فيها أمل للنصر ما لم تستحدث تكتيكات عسكرية أخرى لاعادة موضعة القدرات القتالية واستغلال الفرص التي تحتاج قرارا لا تتعدى فترته ثانية واحدة لأهميتها في صناعة التغيرات الميدانية .

لا شك أن جميع أطراف الصراع وضعوا تصورات الحرب العاطفية أو المتخيلة بعيدا عن الواقع،  ويرجع ذلك إلى فقدان المؤثر الإقليمي ثقته بالقيادات الميدانية ومن ثم يأتي المتغير الإقليمي والدولي كأهم المحددات الرئيسية في تحديد مستقبل اليمن.

وهنا تأتي إشكالية رسم الواقع وفهمه من خلال مبعوثي الأمم المتحدة الذين عادة ما يبنون قراراتهم على معلومات استقرائية تحليلية تقريبية  تتناقض مع التفسيرات الواقعية، ومن خلال متابعة تحركات المبعوثين الأممين ونظرا لعدم  توفر الأدوات التي تتناسب مع الواقع جعلها في حكم المسكوت حتى تبرز أكثر الظواهر الحاكمة في المشهد لينطلقون من الواقع المتغلب أو حكم الواقع، وهو المعمول به من بداية الحرب، وتبقى قضيتها مرتبطة بحقوق الإنسان، والتهديدات المتوقعة على مصالح القوى الدولية.

أما الفشل الثاني فيأتي من  الإدارة المدنية  أو فهم السياسات المدنية في ظروف الحرب وأزمة القدرة السياسية في إدارة العلاقات الدولية، ذلك أن القيادات الدبلوماسية لم تعد أكثر من فعل صحفي غير مؤثر، ويخرجون عن مجال اهتمامهم في القدرات الدبلوماسية إلى التعبيرات النفسية على وسائل التواصل، وهنا تتركز السلبية الدبلوماسية مقارنة بالدبلوماسيات الغربية.

منذ زمن التقيت  دبلوماسيا غربيا على الهامش، و سألني عن المشهد اليمني باهتمام، في لقاء لم يستمر أكثر من ساعة، وكان قد طلب مني أن ألتقي بالسفير واكتفيت بما طرحته من رؤية بعد أن أخبرني بوجود مقررين يقدمون تقارير يتقاضون عليها رواتب من السفارة وكان من ضمن أولئك باحثون في سلك الدكتوراة،  وفي اليوم الثاني من اللقاء فوجئت باعلان وزارة خارجية تلك السفارة بتصريحات مبنية على ذلك اللقاء ثم تلته دولة أخرى، وهنا يتجلى مسؤولية السفارة وقدرتها على صناعة التأثير في الدولة المستضيفة لها، كما أن تقارب المعايير الوظيفة المؤسسية للدوليين حتم على الثانية تبني قرار الدولة السابقة.

إن دراسة المتغير لا يعني التحكم به وإنما يعني القدرة في السيطرة عليه، ولا يتأتى ذلك إلا بدراسة جميع جوانبه لأهمية في رشادة القرار، وهنا تأتي إشكالية الجمود على القرار السياسي نظرا لافتقاره لبدائل مختلفة ونظرا لأنه يرتبط بالشخصية الرئيسة في الدولة، وبذلك يتسم بالتصلب، ويتحول القرار إلى أزمة، ومعالجة الأزمة لا يكون بالتراجع عن القرار وإنما بإدارة الأزمة، ولا تكن بالتعتيم لأن هذا يفسر ضعفا ويسلب من صاحب القرار استقلاليته وسيادته، فإذا كان وهو بقمة السلطة يشعر بالعجز والفشل فذلك يؤثر سلبا على ما دونه.

قد يظن البعض جهلا بدور المعرفة المؤسسية أن هذه من التنظريات اللاواعية،و ذلك لأن عقلتيه لم تتعود على العمل المؤسسي، أو تدرك معنى القدرة المؤسسية،  أو لأن مؤسسات الدولة تفتقر للمعايير المؤسسية، كما أن الدول التي تعتمد بصورة أساسية على الدعم الدولي، وتعتمد كلية على خطط الشركات والدول الأخرى في اتخاذ قراراتها المصيرية في موضوعات الأمن والتنمية، تعد دولا فاشلة، وتكاد تنتفي فيها صفة النظام  بحسب المعايير الحداثية وحتى تلك المعايير التقليدية التي تقاس بمؤشر الرضا، كما أن مظاهر المأسسة لا يعكس وجودها، ولهذا وضعت مقترحات حداثية لكيفية التوصيف المؤسسي، على أساس الرؤية والتخطيط والتقنين والخدمة والتنمية والعائد.

وهنا تأتي إشكالية توصيف الجغرافيا والنفسية والثقافة المجتمعية، والمؤسسية، ولعل أبلغ مقولة قيلت في اليمن وهي نفسها في أفغانستان مقولة الرقص على رؤوس الثعابين، وهي مقولة تقترب بوجه  من الوجوه من وصف الواقع، ذلك ووفقا للرؤية أن وجود معايير ثابتة في اليمن مختلفة لعدة أسباب منها أن اليمن دولة متأثرة بالمحيط الإقليمي والدولي والعالمي وليست مؤثرة، ومن يمتلك القدرة على التأثير يمتلك القدرة على التسيير.

بالنسبة للسياسة المدنية فهي تعتمد على التصرحيات والخطابات بينما لا تمتلك قدرات مؤسسية، لأن كل وزارة وسفارة ليست أكثر من صندوق لتصريف المستحقات على الموظفين، وفي المقابل تفتقر للشرعية المجتمعية والرضا العام داخل المجتمع، نظرا لغياب مفهومي القدرة والخدمة وما لهما من انحطاطات مدنية ووطنية.

وهنا يأتي إشكالية التركيز على الجبهات القتالية واهمال الأمن المدني للمجتمع، ومفهوم الأمن المدني أوسع من مفهوم تحقيق الأمن والعدالة داخل المجتمع، ومن ثم فإن تعاقب الحكومات اليمنية هو في ذاته أزمة مؤسسية، ويقاس ذلك من خلال مؤشرات الهجرة الداخلية والمحلية,

ويعتبر عام 2012م هو العام التي دخلت فيه اليمن مرحلة الهامش و واحدة من أخطر بؤر الصراعات الدولية في الطرف الجنوبي من قوس الأزمات، الذي يقابله الطرف الشمالي مع دولة أفغانستان وبين هاتين تتعدد مناطق الصراع، ورغم اعتبار افغانتسان دولة حبيسة إلا أن ذلك جعلها بمثابة قلب منطقة القلب الاستراتيجي مما يجعلها دولة اقتصاد حربي، كما كانت ضد السوفيت فإنه من الممكن استخدامها لتكون ضد أية دولة أخرى وبذلك تكون أداة من أدوات القوى الدولية نظرا لتركز دول التأثير العالمي في جغرافيتها المجاورة.

أما اليمن فهي جغرافية متاحة للصراعات الإقليمية، ومجالا خصبا للصراعات الأيدلوجية والعقائدية، وهو ما مهد لدخول المؤثرات الخارجية، ومن ثم فإن تخلي

إيران عن اليمن ليس ممكنا ذلك أنها تعد من وسائل التأثير والضغط على القرارات الدولية والأمن الدولي، وهي ثمرة نصف عقد من الاستراتيجية الناعمة، وثمرة من ثمار دبلوماسية السفارة الإيرانية، كما أن تنازل دول التحالف عن اليمن يعد قرارا مصيريا.

تكاد تتشابه اليمن مع أفغانستان في اضطراب الأمن ومن حيث التأثير على دول الجوار  إلا أن الصراع في الثانية يهدد الأمن العربي في أربع دوائر رئيسية :

  • منطقة الخليج العربي ذلك لموقع اليمن الاستراتيجي والعسكري في المنطقة.
  • منطقة البحر الأحمر وذلك لاشرافها على أهم طرق الملاحة الدولية.
  • منطقة القرن الأفريقي وذلك لأن الصراع في اليمن هو امتداد وجزء من الصراع في القرن الأفريقي.

وهنا نقف على مفارقات وتباينات في صراع دول الإقليم في اليمن، إذ نجد وجود عدة ملفات قد تكون من أهم محددات المستقبل، منها مدنية وحقوقية وتنموية وجغرافية، كما أن تراجع أحد اطراف الصراع يعني فتح مجال المكاسب للطرف الآخر، وهو ما يجعل اليمن واحدة من أهم بؤر الصراع وأدواته في المنطقة، ومن أهم أدوات القوى العالمية المؤثرة في صناعة السياسات الدولية.

 

ولا يعني غياب الحلول ولكن النظر فيها يحتاج إلى عدة آليات أساسيت وأساسية كفيلة بتصفير الصراعات وإعادة اليمن إلى موقعه السلمي الدولي والعالمي وهو ما يعني إعادة تصحيح مسيرة عقد من الصراعات بنصف هذه المدة، وما دون ذلك ستبقى اليمن منطقة ملتهبة تعمل بها  المؤثرات الإقليمية والدولية.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.