الوعي المنهجي وأيدلوجية النهج

0 41

 

الوعي المنهجي وأيدلوجية النهج

د. جمال الهاشمي

يختلط على الكثير التفريق بين وعي المنهج وأيدلوجيته، وبين الضرر والضرورة، وبين المعوقات والإعاقة.

وإذ عدنا إلى الجدلية العقلانية التي هي من لوازم النفس الإنسانية، فإن بدايتها كانت قبل بداية الإنسان كما تشير النصوص الدينية، بمخلوقات ليست من جنس الإنسان، إلا أنها تختلف بين جدلية العلم، وجدلية الكبر، وفي الأولى كانت مع جنس الملائكة وفي الثانية كانت بين جنس الأبالسة.

وبقي الإنسان بين الجدلتين، جدلية تبحث عن الحقائق وعلى أساسها يتشكل الوعي المنهجي أو وعي المنهج ، وجدلية تتملكها وهنا أيدلوجية النهج أو فساد المنهج.

والمنهجية تعني الطرق الاستدلالية التي تعيد تصحيح العوارض العقلية والنقلية وتحريفتها عن الأصل.

وإن قلنا أن المنهجية هي أم العلوم، فإن العلم لا يسمى علما ما لم يكن فيه منهج ومحددات وأصول وضوابط ترتبط بالأبعاد المكونة للنفس الإنسانية؛ الجسد، العقل، الروح، وعلى أساس هذه الثلاثية تتسع المجالات وتتكامل، وتنفصل وتتواصل.

لكل مجتمع خصوصياته وأصوله ومراجعه وثوابته، ومن هذه الأصول ما هي كليات إنسانية مشتركة بأصل بداية الإنسان، وتكوينه، ومنها ما هي ثوابت تميزه بتجاربه وثقافته.

وفي الأولى محددات المنهج، وفي الثانية مميزاته، وبين هاتين وعي، وتتجذر الوحشة بين الإنسان ومنهجه عندما يخشى الباحث الربط بين العموم والخاص، والجزء والكل.

وفي كل منهج لوازمه وضروراته ومستلزماته وهنا تبدأ رؤية أخرى من حيث مقاربة الاختلاف والأصل وذلك من خلال تحولات الأمكنة والأزمنة وتأثيرها على الإنسان.

فالأبعاد الزمنية تراكم الوعي الإنساني في حال المنهج، لكنها تطمسه وتغيبه عندما يتحول التاريخ إلى مقدس، وقومية وقطرية ووطنية تخرجه عن إنسانيته وعالميته بإخراج أحاسيسه عن معاني الرحمة.

ومن ثم أصل ان القيم الجوزية لمفهوم الشريعة بأنها رحمة كلها وعدل كله ومصلحة كلها، هذه الثلاثية ليست من المنهج وإنما مقاصده، ومحدداته وضوابطه، فإن خرج الفكر الإنساني الوضعي المقدس عن الرحمة كانت القسوة مدخل لنزعات التطرف والعنف والإرهاب، ولكنها تتخذ من القيم الإنسانية والدينية وسائل للتبرير والتمرير لإخراج فطرة الإنسان وضميره عن أصوله الدينية والإنسانية، وكان لا بد من إغلاق وعي المنهج، بتشريعات وتأويلات مقدسة تتكمن الحقيقة وتطلقها، وتحرك الأتباع بإرشادات المستقدس المجهول.

ومن هنا جاءت الضرورة العلمية لتؤكد على علمية المنهج، وقبل علميته لا بد من مدخل وهو الوعي به، وقد أشار الحديث النبوي الوعي المنهجي بحديث “افترقت، وتفترق” فيه وعي بالتاريخ ووعي بالمستقبل، ومن هنا كان الفعل المضارع في أحد شقيه ماض، وفي الشق الثاني منه مستقبل، وبهذا التماهي سمي مضارع لغلبة المشاكلة والمحاكاة،  وهاتين المفردتين من الأسس العلمية لصياغة الفرضيات بالمنهج.

وهنا نميز بين الباحث، الذي ينقب وينقد ويقارن ويستقصي ويحقق في مجال الفكر والمعرفة والواقع، ويكشف بالنسب الدقيقة والأمينة عن السلبية والايجابية في منهجيتي النقد والمقاربة والمقارنة  بطرق الاستدلال والبراهين العلمية لإنارة العقول بالوعي والمجتمعات بالتنمية.

وبين الباحث اللجوج، الذي  يؤسس منطلقاته على الخلط من جهة والخصومة من جهة ثانية وعنهما ينشأ الاضطراب، وهو ما نشير إليه في كتاباتنا النقدية باضطرابات المنهج.

فأيدلوجية النهج، تنطلق من مسلمات وضعية، بينما الوعي ينطلق من كليات إنسانية، في الأولى تتصدر التجارب النفسية ووقائع التاريخ، وفي الثانية تتصدر الكليات وصنائع التاريخ، فالصنعة رؤية تجريبية تصقل الذهن والعقل بالقيم المعيارية والقيم الواقعية، أما الوقائع فإنها تنطلق من وقيعة تاريخية تستنبط من ععقده مسلمات الفكر العقائدي، وللباحث أن يعود في ذلك إلى المنطلقات العقائدية التي ولدت عن وقعة صفين وموقعة الجمل.

ومن هنا نميز بين مساحات البحث:

مساحة المصالح: وهي المساحات التي تتعلق بأمور الدين في الدنيا، والدنيا في الدين في علاقة تداخلية تارة وانفصالية تارة أخرى، أي العلاقة التاريخية والصراعية والتكاملية والتداخلية بين السلطتين الدينية والزمنية، وفيهما مساحات العفو وسعة الاختلاف، والوعي بها يمنهج المقاربة في كليات تتعلق بالأمن والعدل والتنمية والسلام.

مساحات الجدل: وهي التي المساحات التي تخرج الإنسان إلى النقائض، وفيها تعطيل مصالح الإنسان بابعاده عن الأصل.

ومن يعد إلى تاريخ الوحي يجد أن  أزمة الدعوات النبوية وكذلك المصلحين  – التي هي في نظرنا أزمة الوعي المنهجي – كانت مع المغاليق والأقماع.

والإغليق: هو الذي لا يمتلك ثوابت عقلية وعلمية تؤهله للإنفتاح والتواصل مع الآخر، وهذا النوع يكسر عليه الباب أو يقتل به، وفي قصة نوح عليه السلام ما يشير إلى هذا النوع الأغاليق.

كان الانفتاح على الآخر والدعوة إلى الحوار والجدال من أصول الأنبياء ومن النصوص الواضحة، وعندما ضعفت الحجج العقلية داخل الأفكار التقليدية أو المحافظة، وانطمست قيم النصوص فيها، نشأت مصطلحات غسل العقول، والغزو الفكري،  ومع هذا كسر الباب عليها، وخرجت منه شطحات كانت تبعة لمخالفة فلسفة النقد والعقل والجدال.

أما القمع، وهو النوع الثاني من فصائل اللجاج، فيتميز بالأناذية والإصرار وهذه فلسفة معيارية، مرائية  يفسرها النص القرآني “ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير” وهذه الآية تحدد مصادر الاستدلال التي يتجنبها القمع، هذا من جهة النظر، أما من جهة العمل، فهو بمنى الأقاويل الفلسفية المثالية المنفصلة عن متطلبات الجاجة والتنمية والواقع، وفي الحديث “ويل للمصرين، ويل لأقماع القول الذين يقولون ما لا يفعلون”.

إن العالم البحثي في أكثر شواهده ينطلق أو يتجه إلى أيدلوجية النهج، وتملك الحقائق المطلقة، التي تنزله منزلة القيم الإنسانية أو تنزله منزلة الإله في الدين، وهو ما يشير إلى غياب الوعي المنهجي ووعي البحث والطلب.

وانطلاقا من الوعي المنهجي للمعهد الفرنسي فإن مشاريعه في طرح جميع القضايا الإشكالية في المؤتمرات أو في برنامج قيم وحضارة، ينطلق من وعي بالواقع ووعي بالإنسان ووعي بالجاجة والقيم الدينية والأخلاقية .

وفي إطار هذه الرؤية الاستكشافية يتميز بالباحث عن الباحث من خلال فرضيتي الوعي بالمنهج وأيدلوجية المنهج، بين الباحث عن الحقيقة والباحث بها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.