النموذج النسوي الخالد أم المؤمنين عائشة بنت الصديق

0 16

د. التار عبد الله- أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة العين – الإمارات

قد تبدو الكتابة عن أمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها، للوهلة الأولى، نوعا من التكرار والاجترار، غير أن من الناس من يبقى ذكره متجددا وتبقى شعلته متقدة تضيء فضاء الحضارة بأنوار المعرفة، ويهتدى بها في ظلمات الجهل والتخلف، وإن عائشة بنت الصديق لعمري من أهم النماذج الحية الخالدة في ذلك، ليس بسبب ما خصها الله به من التربية في بيت النبوة والحظوة لدى سيد البشرية فحسب، وإنما لما خصها به أيضا من رجاحة العقل وكمال الفطنة وعلو الهمة، حتى عُدت في أكابر المجتهدين وهي مرتبة علمية  شبه تعجيزية لا يصل إليها في الشريعة الإسلامية إلا من استجمع من الشروط ما يستعصي حصره، سواء كان في الجوانب الشخصية للإنسان نفسه، كالعدالة وحسن الفهم والتقدير….. أو في الجوانب العلمية كمعرفة الكتاب والسنة واللغة….. حتى قيل بأنها نادرة الحصول أصلا.

استحقت السيدة عائشة تلك المرتبة وأعلى منها بسبب علو همتها وبذلها وعطائها، حيث تركت للبشرية عموما وللمرأة خصوصا نموذجا راسخا يقتدى به ودربا سالكا يسار على هديه، وصورة حية تجسد ما وصلت إليه المرأة المسلمة من حضور ثقافي وعلمي لا ينكره إلا مكابر ولا يتغاضى عنه إلا جاهل، فسدت بذلك مسارب الشك في مكانة المرأة في الإسلام، وحطمت الصورة الجاهلية التي كانت سائدة عن المرأة في مجتمع ما قبل الإسلام.   

فحوت العلم وأصوله لتعطى للمرأة القدوة في التحصيل، ولتنبهها إلى أن تقدم الأمة وحضارتها إنما يقاسان بتعلم النساء وحضورهن العلمي والثقافي، حيث كان الناس يقصدونها متعلمين ومستفتين، بل وتخرج على يديها عددٌ كبير من كبار التابعين وسادة العلماء العظام. بل وكان أكابر الصحابة يرجعون إليها في عويص مسائلهم وجديد نوازلهم، كما قال أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه: ( ما أُشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما ) وقال عكرمة: (ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين. )

وأخذت العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في سن مبكرة من شبابها، إذ توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت ثمانية عشر ربيعا، ومع ذلك بلغت مروياتها من الأحاديث: أكثر مائتين وعشرة آلاف حديث، اتفق البخاري ومسلم على العشرات منها، وانفرد كل منهما عن الآخر بالعشرات كذلك، وهو عدد يبدو عند كثير من الشباب اليوم أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، وما ذلك إلا بسبب تدني الهمم وغياب أو شتات الذهن، فمن حكمة الله عز وجل أن منح كل فرد من عباده من العلم ما يتميز به عن غيره، وإنما الذي يختلف عادة هي حظوظ الناس في نوعية هذا العلم، فبعضنا أوتي نصيبا من علم الموسيقى، والبعض الآخر جعل نصيبه في علم الحيوان، وآخرون في علم الطب، وهكذا، ولك أن تسأل ـ كمثال على ذلك ـ بعض الشباب اليوم: كمن من اسم لاعب يحفظه، وكم من رقم هاتف ورقم سيارة استظهره.

 وقد جعل حظ عائشة رضي الله عنها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظتها في صباها لتؤكد المقولة الراسخة: ( أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر ) ولتعطي نموذجا يتأسى للفتيات المسلمات أن العلم ليس حكرا على الرجال، بل ولا حتى على الكبار في السن من الجنسين، وأن من النساء من هن أهل لحمل مشعل الحضارة وإشاعة نور المعرفة،

( رَوَتِ الْهُدَى وَالْفِقْهَ بَثَّتْ فَارْتَوى  / مِنْ نُوْرِهِ مَنْ نَالَهَ التَّوْفِيْقُ )

كما شاركت عائشة أيضا في الفعل الاجتماعي والسياسي، حيث كانت تفتي الصحابيات والنساء في زمنها في أمورهن الخاصة وترشدهن إلى الأخلاق والقيم الحضارية، وتدافع عن حقوق النساء ومكانتهن في الإسلام من غير ما تردد ولا حرج، فلما بلغها أن هناك من يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول “إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار” غضبت رضي الله عنها وقالت “كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدّث بهذا عن رسول الله، إنما قال النبي كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم تلت قوله تعالى “ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير”

وكان يستشيرها الخلفاء في شؤون الحكم والرعية، ولما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، رأت أنه قتل مظلوما، وسافرت إلى العراق طلبا للقصاص من قتلته رضي الله عنه، فلم تكن رغم تربيها في بيت النبوة ومكانتها عند المسلمين، مستنكفة عن الفعل ولا مستكبرة عن التفاعل مع المجتمع وقيمه والدولة وأحداثها؛ إذ الأمة في فلسفتها جسد واحد لا يتعطل منه عضو إلا وانعكس تعطيله على باقي الأعضاء الآخرين، ولا سبيل إلى نهوض المجتمع وحضارته إلا بتكاتف جهود أبنائه وبناته، فالرجال والنساء في المجتمع أي مجتمع إنما هما مثل الجناحين للطائر، لا يمكنه التحليق عاليا بدون توافرهما معا، ومن أراد الإمساك به ومنعه من التحليق، ما عليه سوى أن يعمد إلى قص أحد ذينك الجناحين ليتركه فريسة لهوام الأرض وقططها السمينة والجائعة على السواء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.