النظم العربية بين فوضى الحرية ومفهوم السيادة

0 16

د. جمال الهاشمي

نشأ مفهوم السيادة في أوروبا كضرورة واقعية واستمداد تاريخي لتجسيد مفهوم الهوية القومية وحماية الدولة من التدخلات الأخرى خلال فترة الصراع الثقافي العقلاني العرقي اللغوي الأوربي. وبناء على هذه الديباجة المرجعية تشكلت السيادة القومية الأوربية وفقا لفلسفة كتاب الأمير والقيم الرومانية والعقلانية اليونانية وتأسست على عدة مبادئ أهمها:

  • مبدأ المقاومة الوطنية: لتعميق مفهوم التماسك المجتمعي وحماية الفرد والأمة القومية والنظام والدولة من تدخل القوميات والقوى الدولية أو التدخل في شؤون الحكم .
  • مبدأ القوة: لتحقيق التمدد العضوي وتوسيع نطاق الأحزمة وثقافة التمدد العرقي.
  • العدالة لتعميق الهوية ومفهوم الأمة وتأسيس نموذجية الفرد والمجتمعات النموذجية العالمية.
  • مبدأ القانون: لفرض الأمن وتنظيم العلاقات الأفقية بين الأفراد وبعضها والرأسية بين الشعوب والحكام.
  • مبدأ الرحمة: لأدلجة مفهوم القيم المقدسة والولاء والوطنية وتجفيف التحيزات الطائفية والحزبية والجهوية.
  • مبدأ المساواة: للقضاء على العنصرية والطبقية والإقطاعية واحتكار النفوذ والثروة.
  • مبدأ الهوية: لربط المجتمعات بالجغرافيا والدين والعادات واللغة والقيم، والرمزية التاريخية.
  • مبدأ التعليم: لتنمية الثقافة والعقلانية وتعميق مفهوم القومية والإدارة الرشيدة والتنمية.

ومن ذلك الوقت والقومية الأوربية لم تنته بل تحولت من قومية تاريخية الى حضارة قومية نموذجية  تحت إطار منظومة حضارية أوروبية شبه واحدة  تتداخل مع بعضها في قضايا واهتمامات مشتركة متعلقة  بقيم الأمن الأوربي الجغرافي وقيم  الجوار والقيم الدينية المشتركة وذلك بالتزام المعنى الشمولي للمسيحية العالمية، أوالتداخل التاريخي الفلسفي والفكري والثقافي والعرقي بين مجتمعات القارة الأوربية  التي أعادت في ذهنية المجتمع والسلطة السياسية والنخب المثقفة تاريخية  القوة العسكرية  لمواجهة الغزوات الأخمينية والفارسية أو المغولية خلال العهدين الأغريقي والروماني.. أو تحت إطار المنظومة الصليبية التي جففت العنف المحلي ومهدت لتحولات المجتمع الأوربي وصناعة النهضة الحضارية المعاصرة .. ومن هنا تعتبر القومية المقدسة أو الصليبية القومية أو المسيحية الأوربية أو القيم الفلسفية التاريخية.. أي أن هذه المترادفات هي الإطار المرجعي الناظم للوجود الغربي الحضاري النموذجي وقوته المعاصرة..

 وقد انتقلت القومية الأوربية كمصطلح أوروبي ونموذج قابل للتطبيق إلى عوالم الدول المتخلف نفسيا وذهنيا وتنمويا.. وإلى العالم العربي المنفصم عن شخصيته السوية التاريخية والمضطرب بقيمه وأخلاقه المعاصرة عبر منظري القومية العربية كقيم معيارية سفسطائية لم تتلامس مع الواقع أو تجد طريقا إليه..

بمعنى أن معايير تجسيد القومية في الواقع لم يلج إلى الواقع العربي عبر معايير الارتباط التي هي من الضرورات الإلزامية النظامية للتقريب بين المفاهيم المعيارية وتجسيداتها الواقعية..

وبنفس الخطوات تبنت الدول العربية كاليمن ومصر وغيرها قيم الديمقراطية عبر منظريها دون إدراك للمعايير الارتباطية التي ترسم قنوات التواصل بين الفكر والمفكر والواقع، وإن وجدنا مفارقات معينة مشابه للديمقراطية في دول إسلامية؛ لها خصوصيات لم تكتمل معاييرها بشكل كامل..

في اليمن بعد تجربة الديمقراطية الصالحية والتحزبات السياسية وأسلمة الديمقراطية عبر قنوات التأصيلات الدينية للمفاهيم الغربية، سقطت قدسية النظام بفتاوى دينية وقومية ووطنية وأيدلوجية.. وسقط معها الوطن والأمن والمجتمع  تحت أقدام الديمقراطية الرعناء والتقليدية العمياء، وحدثت تحولات متسارعة لقيم المجتمع وثقافته وبرزت أيدلوجيات الفوضى كثقافة تاريخية قديمة بأيدلوجيات قومية أممية وتدينية وطائفيات معاصرة.

ومن خلال هذه التكتلات الحزبية والجهوية برزت ثقافة النفوذ المتعدد داخل حكومة الشرعية دون معايير عدلية تنموية وأخلاقية..  وتعمقت أيدلوجية الجبر لدى المكونات الأخرى كأحد الضغوط والأدوات المستعملة لمواجهة السلطة الشرعية أو استضعافها.. وقد تحولت سياسة النظام بين عهد الرئيس صالح الذي كان يمنح المناصب للأطراف كهبات إقطاعية أو حالات نفسية مزاجية، ونظرا لتلك التصرفات الإمتلاكية اللامسؤولة خلق مجتمعات وشخصيات نفعية كانوا أول من تخلى عنه عندما احتدمت الظروف ونازعوه السلطة.. أما الرئيس عبد ربه فله سلوكا مختلفا فهو لا يستخدم المعايير الوظيفية وإنما يمنحها بالقوة..

عندما برزت دعاوي الانفصال في جنوب اليمن منحت سلطة فخامة الرئيس ظانا أنه يستطيع بهذه معالجة الاختلالات الأمنية وتحقيق التنمية.. وهيهات.. لأنها تفتقر للمعايير العلمية المنهجية. 

وفي السودان برزت الظاهرة الديمقراطية بنمطية أخرى وانتهت بانفصال جهة ..وعلى إثرها نشأت جهات أخرى.. واكتملت ثقافة الثورة الملتهبة والكامنة.. ورغم قناعتنا بإرادة النظام السابق ورغبته بمعالجة الاختلال.. إلا أنه كان يتقمص ثقافة السيادة المفقودة ويقاتل بها عنها.. فوسع الفجوة بينه وبين نظامه .. الشخصيات المقربة منه و أدرى الناس به إذ هو معهم كبقية الناس إن لم يكن أحقرهم وأدناهم، كما وسع الفجوة بين النظام والشعب وبين المجتمعات وبعضها وهذه الأخطر في تاريخ الصراعات الفوضوية؛ لأن الخلل ظاهر  في الإدارة والتنمية والثقافة والعدالة والمساواة، ووهناك في الدول العربية أزمة الشعور بالحرية الفردية ولا أقصد الحرية بالمفهوم السياسي والاجتماعي.

وعندما نتحدث عن الأمن المجتمعي في الدول الغربية على وجه من وجوه المقارنة والتوصيف ، نجد أن  الحرية مكفولة للفرد ما لم تمس حرية الآخر، أو تهدد الكيان و الأمن المجتمعي أو تهدد التنمية والنظام..  أو القيم العامة للدولة ..

ولتحقيق ذلك استحدثت محاكم الفصل العنصري، ومحاكم إدارية لحفظ قيم الوظيفة العامة من الانتهازية والتصرفات الفردية؛ وتمنح هذه المواطن الحق في محاكمة الموظف العام وقد يترتب عليه سجنه أو فصله، وفي أقل الاحتمالات تغييره إلى مكان آخر ليخضع لنفس الاختبار، وكلما رفعت عنه شكاوي أصبح متهما.

بينما تخضع الوظيفة العامة العربية لتسلط الموظف العام والرشوة والانتهازية و انتهاك الأعراض وإذلال الأفراد وامتهانهم.. كما توجد محاكم متخصصة للفصل المدني ومحاكم متخصصة بالأموال العامة.

وتشكلت ثقافة لدى المجتمعات الأوربية بأن الحضور الى المحاكم في قضايا مخالفة للنظام والأخلاق والقيم العامة والقانون نقيصة.. بينما حضور المحاكم في الدول العربية من الامتيازات النبيلة، والمحامي ليس أداة من أدوات المغالطة وإنما من أهم وسائل جمع الأدلة لتحقيق وحفظ العدالة دون تحيزات لموكله..

أما نقد النظام السياسي أو المعارضة السياسية للنظام فإنها قائمة من أجل معارضة السلبيات وتتبع الهفوات من أجل تصحيحها وإصلاحها، وغايتها في الغالب حماية القيم المجتمعية ونظمها وأمنها وتنميتها، وليست معارضة انتهازية تنتهي بثقافة المحاصصة وتقاسم السلطة

بينما المعارضة شريفة جدا ويدان كل من استخدم ألفاظا تمس الشخصية ويحاكم أي فرد أو منظمة أو حزب إذا تبنى ألفاظ مخلة بالحياء كالسباب والتشهير والطعن وكل الصفات المرذولة التي تمارسها مجتمعاتنا أو تتعارض مع قيمنا وحضارتنا وتاريخنا العربي..

كما حصل مع يتيم العراق وانسياب هذه الألفاظ المبتذلة التي تعكس هذه الصفة السبلي التي تعكس طبيعة المجتمع كبيئة عامة نشأ فيها النظام السياسي، ومن المعارضات المنبوذة المعارضة اليمنية التي كانت ترسم صورا للرئيس مخلة بالأدب ومثلها في كل بلد عربي.. منح للسفهاء قنوات الإعلام وحرية التعبير الماجن أو المنبوذ. وكذلك المعارضة العربية في الخارج التي تستخدم مصطلحات يأنفها العربي وتأنفها بشرية الفطرة الإنسانية السوية.

فالمجتمع والتعليم يتقاسمون مع النظام الثقافة والشخصية والحضارة.. ومثلما تكونوا يكون عليكم، وابتذال القيم أيسر من ابتناءها..

ومن جهة أخرى فإن الأفراد والأقليات التي ترتبط بمنظومات عالمية تعاني من انحرافات ثقافية وقيمية لأنها وجدت لتدافع عن مصالحها الأنانية بالتضحية بالدولة والمواطن نكاية بالنظام أو خيانة له.. وفي كل الاحتمالات فإن المعارضة التي لا تتأسس على ثقافة النقد  ووتفتقر لاستراتيجية الإصلاح والمقاربة وصناعة البرامج التنموية والإصلاحية من القوارض المجتمعية المدمرة لأمن واستقرار المجتمعات؛ لأن فلسفة الكلمات يتقنها العبيد ..وهي أيسر عليهم من صناعة التنمية ..والحضارة .. والمقصود بالعبيد ليس كطبيعة جينية وإنما كتربية مجتمعية وثقافية..

في اليمن نشأت ثورة المكونات الفلسفية التي كانت بين خيارين خيار الكسب والتقاسم أو خيار التدمير نكاية بالنظام وبالمواطن .. وفي المقابل فإنها تتشابه مع ثقافة النظام الذي يضحي بالوطن من أجل السلطة.. ومع هذا لم تكن صدامات السلطة والمعارضة إلا صدامات فلسفية لم يستطع أي منهم تقديم مشاريع حضارية وبرامج تنموية.. سوى ثقافة المحاصصة وتقاسم السلطة.

ونظرا لهذه الرؤى العدمية لم تتواجد منطقة وسطى للمقاربات فاتسعت الفجوة وأغلقت كل منافذ التواصل والحوار .. وهذا ما انعكس في مجلس الحوار الوطني برعاية الرئيس عبده ربه الذي أختتم بسقوط الدولة وانهاية النظام والسلطة.

لأن بنية الأساس منقسمة ومظللة فالتربية التي لا تنتظم تحت رعاية الدولة وسياستها المنهجية في مجالات  التعليم والإعلام والثقافة والإدارة تتحول الى الفوضى المجتمعية، وإلى تحيزات عقائدية وأيدلوجية.

لقد كان الرئيس علي عبد الله صالح يقبل الأفكار وينفتح على الشباب ويدعم المشاريع المقدمة إليه حتى حالت بينه وبين مكنته الشعبية بطانة أتت بثقافات مستوردة لتغيير طبيعة النظام برسميات لم تتناسب مع ثقافة المجتمع وتاريخيته، وكان من السهل مقابلة الرئيس علي صالح مقارنة باحتجاب وانغلاق فخامة الرئيس عبد ربه منصور هادي والفرق شاسع بين الإثنين .. في إدارة الحكم..مع قساد قوة الأول في استغلالها، وفساد ضعف الآخر في انقياده للقوة، إلا أن الأمن مع الأول كان ممكنا وضياعه بالثاني من باب أولى.

 أما مكونات المعارضة اليمنية فقد كانت تتقاسم النفوذ والحكم وتعرقل كل مسارات الإصلاح داخل الدولة وعند الإقصاء تتحول الى المعارضة وليست هذه سوى مد وجذب انتهت بلعبة تلك السياسات والتذاكي بنهاية الوطن.

وتتعرض السعودية لنفس السياق والمسار بقوى اجتماعية أو بقوى من داخل النظام، إلا أن لديها مقومات بقاء قد لا تدوم إذا لم تتداركها بسياسات أخرى، فالطبيعة النفسية الجينية للمجتمعات العربية والأفريقية قد تتداخل كما تتشابه كثيرا في أنماط الثقافة والتفكير والعنف والشهرة والنفوذ والالتصاق تارة بالنظام أو معارضته..

من ثقافة المعارضة والإنفتاح المقررة بإرادة النظام الى محاكمة النظام السياسي وانتقاص السيادة والقومية والقيم ورمزية الدولة وخصوصية الثقافة والخصوصية في سابقة تعلن بكل وضوح توجهات السياسة الأمريكية من جهة والنزعات الفردية من جهة أخرى. وطبيعة النظام الإداري للسلطة..

يذكرني هذا العصر المهدور قيميا واخلاقيا بسيطرة العبيد نهاية الدولة العباسية الإسمية بعد انفصالها عن الواقعية السياسية والمجتمعية .. فالعبيد الذين استقووا بالسلطة قاموا بالثورة عليه، وذلك لأن النظام السياسي العباسي ومنذ عهد المأمون ألغي الضوابط المعيارية للوظيفة العامة، وبناء عليها تحولت تلك الضوابط المتلاشية الى ثقافة فوضوية أبعدت الأمة عنها وعن قيمها فتحولت من دولة ذات سيادة ورمزية وثقافة الى فوضوية صراعية بين المكونات والتنظيمات داخل أجنحة السلطة من أجل تقاسم النفوذ والسلطة والثروة.. والتي انتهت حينها بسيطرة المغول ونهاية حكم العباسيين وقدسيتهم إلى الأبد..

إن حالة الدول العربية المعاصرة بين ثلاث:

  • دولا فوضوية تسعى لاستعادة النظام والسلطة والتنمية والأمن في اليمن والعراق وليبيا وسوريا والصومال وأفغانستان من الدول غير الغربية.
  • دولا تسعى لتثبيت النظام والتنمية في السودان والجزائر ومصر وتونس ولبنان..
  • دولا تسعى لحماية النظام كالممالك والإمارات وتركيا وسوريا وباكستان من الدول غير الإسلامية.

ومن خلال ما أشرنا إلي باقتضاب عن تلك الحالات المظلمة تتجه المسارات القائمة للنظم على نفس المساقات وبنفس السياقات كما تظهره المؤشرات السياسية والدولية والظواهر المجتمعية والثقافية والتعليمية والتنموية.. وثقافة المكونات ورجال السلطة ..

وانطلاقا من مسؤوليتنا الحضارية ألمحنا لأهم التحديات والمعوقات باذلين الجهد بأن لا نكون من الظواهر المؤسسية والفردية اللواتي يقتتن بدماء وأوجاع الآخرين والإسهام بتبديد أمن المجتمعات العربية والإسلامية كما أننا نؤمن بأن سياسة التغيير وحفظ أمن الدول واستقرارها يأتي من النظام السياسي وفقا لأصول المعرفة إن وفق بها أو طلبها، وما دون ذلك لن تدوم بقاء الدول ..  ولن تنعم المجتمعات بالأمن والاستقرار فالحلول متوفرة ولا يأس مع مقومات المعرفة ..

رئيس مركز الإصباح للتعليم والدراسات الحضارية والاستراتيجية

g.alhashimi@yahoo.fr

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.