النظام السعودي في السياق والصيرورة التكوينية للدولة السعودية الثالثة

0 16

النظام السعودي في السياق والصيرورة التكوينية للدولة السعودية الثالثة

د. جمال الهاشمي
g.alhashimi@yahoo.fr
تحدثنا في مقال سابق أن الملك عبد العزيز أبرز وجوده وأسس دولته –السعودية الثالثة-من وعي بمدركات التحديات الاستعمارية، ووعيه بتناقض حركات التحرر العربية، والصراعات القومية داخل المنظومة الإسلامية العالمية، والتهديدات الأمنية، وظهور الطموحات القبلية والجهوية والطائفية داخل الجزيرة العربية التي لم تكن مهمة آنذاك للقوى الاستعمارية. وكان هدف بريطانيا من تقديم الدعم المالي للملك عبد العزيز، لعدة أسباب أهداف استراتيجية:
– القوة العسكرية المتنامية التي تميز بها الملك عبد العزيز وقدرته على التهام أكثر مناطق الصحراء العربية وانقياد غالبية القبائل العربية لزعامته.
– خشية بريطانيا التي كانت حينها منشغلة بقيادة جبهات قتالية متعددة في أوروبا والشرق الأوسط والهند وعلى مسرح المياه البحرية العسكرية الحيوية في مياه العالم القديم، من الحركات المؤيدة للعثمانية داخل الجزيرة العربية.
– منع الملك عبد العزيز من التوسع في منطقة الشام لا سيما بعد النداءات المتعددة التي تلقاها من حركات أحرار الشام آنذاك.
– الحيلولة دون طموحه في السيطرة على الخليج العربي بموجب اتفاقية حماية طويلة المدى بين شيوخ منطقة الخليج والمملكة المتحدة.
– الحيلولة دون وحدة الجزيرة العربية بقيادة الشريف حسين شريف مكة لا سيما أنه كان يتميز بشعبية جماهيرية عربية وشرعية دينية ممتدة في التقاليد التاريخية، وهو الذي مكنه من تجميع غالبية العرب وخصوصا قبائل الجزيرة العربية تحت قيادته إلى جانب الحلفاء في الشام ضد الدولة العثمانية.
– خشية بريطانيا من الإمامة في اليمن وطموحاتهم في السيطرة على منطقة الجزيرة العربية الشمالية مما قد يهدد مصالح الاستعمار البريطاني في عدن وحركة الملاحة في البحر الأحمر.
– توقيع اتفاقية حماية بين دولة الأدارسة وبريطانيا في منطقة تهامة القريبة من الملاحة الشمالية للبحر الأحمر كان يهدف إلى تشكيل دولة هشة ضعيفة تفصل طموحات الإمامية في اليمن وطموحات الملك عبد العزيز في شمال الجزيرة وستكون هذه المنطقة وفصلها ذات أهمية أمنية للمصالح الاستعمارية المسيطرة على الملاحة البحرية الممتدة من البحر الأحمر وحتى المحيط الهندي في المنطقة والسواحل البحرية الاقتصادية الممتدة على البحار نفسها.
– تجزئة الجزيرة العربية بين مناطق حيوية كاليمن الشمالي والجنوبي وسلطنة عمان وبين مناطق أكثرها صحراوية كالسعودية والإمارات الخليجية، انطلاقا من الوعي الاستراتيجي الجغرافي والأمن للذهنية البريطانية من مخاطر استغلال العامل الديني ومنطقة الحجاز لأهميتها المقدسة ودورها الكبير في توحيد شعوب الجزيرة العربية وتعبئتها تحت قيادة سياسية موحدة لا سيما أن القبائل العربية القبلية تتميز بقوة قتالية مشهود لها في تاريخ الفتوحات الإسلامية ومكتوب عنها بإسهاب في كتابات المستشرقين.
– محاولة بريطانيا استدراك الملك عبد العزيز وتشجيعه على تلقيب نفسه خليفة المسلمين، وهو ما رفضه الملك عبد العزيز فطنة منه بمدى التأثير السلبي لمفهوم الخلافة التي قد يدخله في صراعات دينية وشرعية مع النصوص الدينية، وهذا يعكس مدى أهمية علماء الدين المحيطين به وانقياده للتعاليم السلفية.
أما العوامل المحلية التي قلصت طموحات الملك عبد العزيز من الاستمرار في التوسع يمكن إجمال أهمها بما يلي:
– ضعف إمكانيات الدولة الوليدة وشحة مواردها المالية في الإنفاق على تنظيماتها العسكرية التقليدية.
– اعتمادها على النفقات البريطانية إلى جانب سياسة الجباية بموجب اتفاقية بين الملك عبد العزيز وبريطانيا تقتضي احترام حلفاء بريطانيا من المشيخيات الخاضعة لنظام الحماية في عمان والخليج العربي، أو المناطق الخاضعة للمعارك بقيادة دول الحلفاء في العراق والشام.
– الصراعات المحلية المتعددة داخل الجزيرة العربية والصراع مع الشريف حسين وأمراء عسير والإمامية في جنوب الجزيرة العربية، والوجود البريطاني في الساحل العماني وجنوب اليمن.
– محاولة الملك عبد العزيز الاستفادة من التسليح البريطاني وتقوية جبهته الداخلية لمواجهة الخصوم في الداخل وتوطيد أركان حكمه.
– انشغاله باتفاقيات حماية مع دولة الأدارسة من الإمامية في الجنوب وكان هذا التحول من أهم أسباب تفكيك الجزيرة العربية وإضعاف قوتها بموجب اتفاقية الطائف التي أسهمت سياسيا من توسيع الفجوة بين مناطق وشعوب الجزيرة العربية.
– انشغاله بتعميق القيم السلفية وتهيئة القبائل لعقيدة التوحيد والمفاهيم والمصطلحات الجديدة، وتأسيس قيم العدل والأمن داخل الدولة.
– توجه اهتماماته نحو الاستفادة من التقنية والمفاهيم الحضارية والإدارية والعسكرية الغربية.
كانت هذه التوجهات في بداية إرهاصات تحديد معالم الدولة السعودية الثالثة، وهذه الإرهاصات من أهم عوامل تماسك وبقاء الجبهة الداخلية موحدة للدولة الناشئة والتي كانت حينها كانت تمر بأزمات اقتصادية وأمنية وثورات قبائلية وجهوية وعقائدية متعددة.
وبعد تأسيس الدولة ونهاية الحرب العالمية الثانية وبداية عصر الاستكشافات النفطية ووعي الدولة السعودية بمعالم العلاقات الدولية
ومن جهة أخرى إحلال بريطانيا دولة لولايات المتحدة الأمريكية الصاعدة وريثا شرعيا وعقائديا لها في منطقة الشرق الأوسط للسيطرة على الملاحة البحرية وتأمين النفوذ والقيم المسيحية والثقافة الغربية السلمية في المنطقة وردع القوى الأسيوية التي تشكل في المعتقدات الغربية محور الشر التاريخي المعروف في معتقدات الجغرافيا الدينية. وتأسيس القواعد العسكرية الاستراتيجية في قلب العالم الإسلامي وتفكيك عرى وحدته وتماسك شعوبه، وتشجيع النعرات الإثنية والطائفية والصراع على الثروات الطبيعية.
كان إحلال أمريكا في المنطقة بداية حقبة جديدة من حقب الاستعمار الاقتصادي الناعم ومن ثم بدأت تتشكل العلاقة السعودية – الأمريكية حيث كان هدف الملك عبد العزيز الاستفادة من الثروات النفطية، والتقدم العلمي الأمريكي، بينما كان هدف الولايات المتحدة توطين شركاتها النفطية الاقتصادية في المملكة العربية السعودية.
وبدأت القيم الدينية تتشكل في اتجاه، والقيم السياسية في اتجاه آخر مع بداية الاتفاقية الاقتصادية الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية مع شركة عالمية ترعاها دولة قطبية كبرى.
بدأ الصراع داخل المنظومة الكلية التي تأسست بها المملكة العربية السعودية بانفصال جماعة البدو والقيام بثورة داخلية، وفي المقابل قدم الفقيه الداعية المعروف عبد العزيز بن باز احتجاجه ونصحه للملك عبد العزيز وفتواه بحرمة الإقامة في شبه الجزيرة العربية وكان حينها شابا.
ولكن الفطنة السياسية للملك عبد العزيز وثقافته القبلية وقراءته النفسية للمجتمع السعودي وتمسكه الشديد بالتقاليد والقيم الدينية قد دفعته لإقامة المناظرة بين هيئة العلماء القائلين بالجواز وابن باز الشاب العالم المعارض الوحيد للوجود الأمريكي في الظهران، واستطاع العلماء محاججة ابن باز فاضطر للقبول بذلك براءة للذمة وتحميل العلماء وزر أو أجر ما توصلوا إليه، إضافة إلى أن الملك عبد العزيز بدأ مرحلة جديدة من تحديد معايير طاعة ولي الأمر أو الطاعة السياسية المعروفة في لدى المفكرين المعاصرين.
وبدأ هذا التوصيف يتبلور في طرفين متناقضين الأول الطاعة لولي الأمر باستدلالات شرعية، والثانية الخروج على ولي الأمر، وبين الجانبين عدة تبريرات وأيضا شرعية، فأنصار الطاعة السياسية يبيحون استعمال القوة لمواجهة القوى المعارضة لولي الأمر، وأنصار الخوارج يبيحون استعمال القوة لإزالة النظام السياسي المخالف للقيم الدينية.
وبين هذين الطرفين تلاشت تدريجيا المنطقة الوسطى أو منطقة المعادلة بين الطرفين التي تتمثل بالمناصحة ومن ثم التدرج، ويليه العصيان في حال القدرة.
وبالفعل بدأ العالم الإسلامي برمته يتشكل على صنفين، صنف معارض بإطلاق يتصيد أخطاء النظام السياسي في كل صغيرة وكبيرة كآلية ووسيلة من وسائل التعبئة الكامنة للطاقات المجتمعية ويؤسس للثورة الجماهيرية ضد النظام في أول فرصة ممكنة وقادرة على هز شرعية النظام وكشف عورته ونقائصه ومن ثم مواصلة الدور الذي قد يزيد الفجوة ويوسع الهوة مع النظام.
وصنف آخر ممالي للنظام وعلى موائده تتنامى ثرواته السلطوية، ويوظف الدين توظيفا سلبيا ويحوله من قيمة أخلاقية واجتماعية وتنموية وأمنية إلى قيمة سياسية مطلقة.
وبين الصنفين تضيق المسافة وتنكمش حلقة السعة إلى الضيق وعلى إثرها تتردى مكانة الدولة تضعف شوكتها ويتضرر أمنها واقتصادها وحينها تتعرض للصراعات المحلية والتهديدات الإقليمية والمطامع الدولية، وتدفع بالمعارضة أو النظام إلى اتباع سياسة الاحتضان.
واقصد بالاحتضان طلب الحضانة الأممية والدولية أو حضانة الأعداء الحقيقين ضد أعداء وهميين في الداخل، وهي بالنسبة للغرب مفهوما آخر وتعني لهم سياسة الوصاية التي تعني رعاية السفهاء والقاصرين حتى لا يضروا أنفسهم ولا يسعون للحصول على السلاح النووي أو الاستقلال بصناعة الأسلحة التقليدية لكونهم سيستخدمونها لقتل أنفسهم وهذه الوصاية تندرج تحت حقل أو مسمى السياسة الأممية الرحيمة، أو سياسة السلام الدولي.
ما زلنا على عهدنا في مواصلة مقالاتنا عن الدولة السعودية والوقوف على أهم المحطات التاريخية التي لها تأثير عميق في سياسية الدولة المعاصرة ، ومن خلالها سنحدد ملامح الدولة المستقبلية من خلال المؤشرات والظواهر التاريخية والمعاصرة والتي ستمكننا من تحديد هذه الملامح ضمن معياريين منهجيين الأول يتوقع بالخطط العشرية والأخرى يحدد ملامح الخطط العشرينية ومن خلالها يتشكل للقارئ الباحث منهجا آخر يمكننا من خلاله تحديد ملامح المنطقة العربية عامة ومنطقة الجزيرة العربية بشكل خاص.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.