المنهجية وأزمة التفكير

0 24

المنهجية وأزمة التفكير

د. جمال الهاشمي   

يمر العالم في حالة من التكثيف العقائدي- الإيدلوحي  في أكثر دوائر الأزمات الجغرافية ضيقا وأكثرها اتساعا، ذلك أن الأزمات التي يعاني منها العالم البشري لا يرجع إلى اختلالات  القيم الإنسانية بما في ذلك القيم الدينية. وإنما إلى اختلالات تكوينية تؤثر على النفسيات، وإشكالات في فهم النص والتراث والتاريخية؛ بمعنى أخر اختلالات في آليات التواصل مع النص أو التاريخ المدون، وهذه مقدمة بالضرورة للتعاطي المنهجي، وندرجها تحت مفهوم الشرط الإجرائي ، وهذه الشرطية التي تعد مدخل للمنهجية تتحول إلى آلية تفعيلية تؤسس لمواقعة المعارف المنهجية في الواقع.

تعد المنهجية المعاصرة محنة فكرية وتنموية  وإدارية في الوقت ذاته، وتمكن بين محنتين: محنة التراث الفقهي الذي برز بصورته السياسية والنظامية في المدارس النظامية الشيرازية والبغدادية في عهد نظام الملك، أو مع فقهاء النوازل المعاصرين وهو تجديد لنفس المدارس النظامية وأحد قوالبها المعاصرة.

وبقدر ما تقدم المدارس الفقهية التنويرية المعاصرة وفقهاء النوازل نقدا للتراث أو استرشادا به وتبريره،  فإن منهجية التعاطي غائبة عن الواقع لاختلالات الشرطية القبلية والبعدية، وهو ما أدى إلى ابتعاث المعتقدات القتالية، والتطرف والإرهاب والتعصب العقائدي ورفض الآخر.

ليس الأمر مرتبط بالتراث الفقهي فحسب، وإنما هي اختلالات في سياقات العقل الإنساني العالمي، تمكن العالم الغربي من تهذيبها خلال فترات الشعور بالعاطفة الإنسانية التي خلفتها الحروب، لكنه لم يستطع التخلص منها، إذ صرفته الحضارة المادية عن تأريخية الفكر وماديته، وهنا تأتي إشكالية الاختزال، وهي حالة مرضية عالمية على منوالين؛ أحدهما تمارس الإكراه، والآخرى تقاومه، وبين الإكراه والمقاومة تحولت الخصوصيات إلى موانع نفسية وثقافية لم تنسجم مع ذاتها، كما استشكل عليها التواصل والتعايش مع الآخر، ولأجل ذلك اشتهر كتاب صدام الحضارت كتعبير مفكر عن الحالة النفسية الكامنة في التراث الأمريكي – الغربي من جهة، والفعل السياسي الأمريكي – الغربي مع العالم الآخر.

وقد أشرت إليه على أنه أكثر الكتب المنسجمة مع الثقافة والواقع السياسي الأمريكي، وقد اعتمد مؤلفه على الاسقاط وهي أحد حالات الإلتباسات المنهجية، كما اعتمد على الاستقراء الواقعي وهي واحدة من أهم إشكالات المنهج الوصفي، بمعنى آخر التلبيس المنهجي.

يرى البعض أن المنهجية تعنى بدراسة الظاهرة ووصفها وبناء الأحكام على نتائجها، وهذه لا تعد في نظري أكثر من خارطة بيانية (جمع معلومات) تندرج ضمن الشروط المنهجية التي أشرت آليها آنفا، وهي مرحلة متقدمة على الاستعمال المنهجي.

إذا قلنا بالمنهجية فذلك لا يعني الانسجام مع الواقع وإنما التناغم مع الذات لخلق نوع من التفاهم مع المتغيرات التي يفرزها الواقع، وهذه مقدمة ضرورية للتعاطي مع الواقع.

الإشكالية في العالم الإسلامي كما هو العالم العربي  والغربي والشرقي، يمكن في إشكالية التناول المنهجي مع الخصوصية كأحد الشروط المنهجية، أو التعاطي مع الخصوصيات كمسلمات أو مقدسات أو مبادئ كلية.

وقد يذهب سكر المتمنهج إلى دمج النص في الخصوصية أو جعله أحد معالمها وثوابتها الجامدة، وهذا ما يعرف بالتحيز المطلق الذي يتعارض مع استعمالات المنهج، وهذا هو ما أدى إلى خلق جيتيوهات ثقافية إثنية فكرية معتقدة، شكلت أهم أزمات التاريخ والعالم المعاصر.

هنا يجب علينا قبل محاولة التعاطي المنهجي مع الأزمة والظاهرة أخذ الوقت الكافي لاستكمال الشروط المنهجية القبلية، وإلا قتل المنهج قبل البداءة به.

تعد المعتقدات الدينية المستحدثة بفلسفتها التأويلية وقياساتها التقليدية واحدة من أهم المعوقات المنهجية التي تتعارض مع أصوليتها الثابتة، ومع فطرة الوجود والجبلة الإنسانية، ولم تستطع رغم ابتعاث النظريات المقاصدية للشاطبي وفقه النوزال والفقه بالواقع الخروج عن هذه الإعاقة؛ وتعد هذه النهضويات الفقهية المعاصرة واحدة من أهم مسببات الأزمات الإنسانية والعقائدية المعاصرة، ويرجع ذلك في كونها سفسطة، أو مبررة وقد تكون مؤسلمة في اغلب حالاتها للمنتجات المعرفية الغربية.

وما يزال المقاصدي يشعر بتضخم القداسة عندما يتناول العبارات التقليدية ولم يستطع الخروج عن تلك العباءة التقليدية، تلك العباءة التي جعلته مقدسا على الطريقة الزرادتشية، فهو لا يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق، لهذا أصبح الفقيه المعاصر متضخم بالقداسة، فهو ليس متصالحا مع إنسانيته وطبيعته البشرية، فهو أشبه بالإله المحتجب عند الفلاسفة؛ بمعنى أنه يعاني من معتقدات الحلول أو الاتحاد، وهذه التقادسية قديمة متجددة، كانت ذات صبغة فردية مع الكهنة السياسين والعسكريين كزرادتشت وفيشنو .. الخ أو مع الملوك كالفراعنة والقياصرة .. الخ أو مع المصلحين الاجتماعيين الثائرين ..الخ، وحديثي عن التقليدية لا يعني مطلقا الحديث عن الأصولية الجينولوجية الجذرية.

لهذا تجد في مصطلحاتنا المعاصرة: الرئيس والدبلوماسي والفقيه المحتجب، والفشل يتأتى من عدم معرفة الإنسان والفكر والقيم والواقع،  لأن التخيلات الذهنية والذكريات وحياته الانفصامية بين طبيعته البشرية وطبيعته المهنية أوجدت هذا التناقض وتعد واحدة من أهم معوقات التعاطي مع احتياجات الواقع، ذلك أن الواقع يتطلب منهجا وناهجا في الآن ذاته، والعلاقة بين الناهج والمنهج علاقة أمومية وليس أحدهما ربيب على الآخر.

من الشروط الإجرائية السابقة للمنهجية؛ التعامل مع النص بمعنى  آخر منهجية القراءة، وهذه الشرط لم يعد موجودا في الكتابات البحثية، ذلك أن العلاقة بين النص والقارئ إما اختزالية أو صراعية أو توليفية وهذه كلها أوجدت لنا أفكارا متناقضة وغير واعية متجردة عن التأسيس والمأسسة والتنمية.

إن العلاقات مؤثرة، والتعايش مع البيئات والمهن والأدوار متداخلة، لهذا تجد الموظف العام في الدول العربية محتجب عن العامة ولديه ارتباك مهني، وركاكة فكرية، واضطرابات لفظية أشبه بأقماع جامدة،  وهذه الأزمة تكمن في المنهجية، والتكوين النفسي التربوي والأسري والمجتمعي والتعليمي.

لهذا تجد الغرب يصف النظم العربية بالوجوه المتعددة، ولأجل ذلك تتعدد الاحتمالات التفسيرية في التعاطي مع هذه النظم، لأن الانسجام مع الذات والواقع هو واحد من أهم أزمات الدبلوماسية الإسلامية المعاصرة، وواحدة من أهم أزمات الفقيه والفرد المسلم المتقمقم بنظريات المؤامرات والصراخ والارجاف، ولا يعني أن المؤامرات ليست موجودة، أو دعوتنا لتركها لأنها من عدمية، وإنما في كونها متلازمة نفسية وحالة مرضية مستعصية.

لعل القارئ يوافقني عندما يقف في مطارات الدول وسفاراتها، سيجد مفارقات سلوكية أحدهما عدمية فهلوية تبدأ بالشزرات، والجلبات والطقطقات والهملجات وهذا حال كثير من الدول العربية التي  تعاملت معها في مطاراتها أو سفارتها، وفلسفتها قائمة على الإدانة حتى تظهر براءتك، على العكس من ذلك في بلدان العالم الآخر القائمة على البراءة الأصلية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.