الكذب بين فلسفة العرق والسيادة.!!

0 19

كان البشر على أخلاق متساوية من الفضائل في بداية النشأة الآدمية وبهذا تميز الإنسان عن الشيطان من منظور الفضيلة والقيم التي استمسك بها الإنسان وانفصل عنها الشيطان.. ثم بدأت صناعة العبودية تتكون مع الظروف البيئية وخصوصا تلك التي تنتجها العلاقات الاجتماعية والسياسية والعسكرية.. وبدأ التمايز الطبقي انطلاقا من وقع التنشئات المختلفة.. وميزت النفوس عن بعضها إلى طبقات النبلاء وطبقات العبيد.. ومن ثم التنوع يتفاوت ويتأصل بالفعل وفي الذاكرة ونشأت على إثرها جهويات مختلفة دفعت بطبقات النبلاء أن نستبعد الطبقات العبدة..

كان الكذب ونقل الأخبار وعدم الاتقان والالفاظ المشينة وإضحاك الناس من الرذائل المنبوذة أو هي من صفات العبيد.  بينما كانت النبالة تتحلى بقيم الصدق والأمانة والعدالة ليس في حالات السلم فحسب بل وفي المعارك العسكرية مع الخصوم، ومن تلك الأخلاق ألا يُقتل طفلا ولا امرأة ولا تُحرق أرضا ولا يُقتل مدبرا، وعلى أساس هذه المعايير كانت المعارك تلتحم ولا تقبل الأطراف أي منضو تحت رايتها مالم يتخلق بنبالة الفارس..

كما كان الفيلسوف يتسم بالعدالة والعدل والصدق والعلم والحكمة والحكم فهو حارس الفضيلة والمجتمع من الأخلاق الرديئة وهو الذي يقرر درجاتها فالنبالة تتفاوت كما تتفاوت طبقات المنبوذين.. على أساس ذلك تميزت المجتمعات الإنسانية بين مجتمعات النبالة والفضيلة ومجتمعات العبيد والرذيلة..

ومع التطورات الحضارية بدأت تصنيفات أخرى للطبقات المنبوذة، فاعتبر أرسطو فيلسوف الدولة الإغريقية أن العبيد معطيات اقتصادية طبيعية لخدمة الطبقات النبيلة ومن ثم بدأ آلية تنظيم العبيد وتقنينها داخل دولة المدينة .. ووضعت تشريعات لتنظيم أسواق الرقيق.. وعلى درجة النبالة يكون عدد امتلاك العبيد، وتروض العبيد على الخدمة بعد أن كانوا مطرودين خارج الحضارة.. كانوا يدربون على الصمت واتقان الأعمال، ويمنعونهم من مخالطة الأطفال أو خدمتهم ويمنعون من القراءة والخطاطة، ويصنفون بين عبيد المزارع وعبيد المنازل.. حسب مستويات النظافة واللون والطاعة..

أما الحروب العسكرية فقد نشأت لفرض قيم النبالة التي تعني سيادة هذه الطبقة على الأجناس الأخرى وتبعا لذلك كان السيطرة على ثرواتها.. فالنبالة هي القيمة الأيدلوجية أو البنية الفوقية التي تتحكم بتصرفات الإنسان. كانت الأحكام قاسية تصل إلى حد الموت إذا تقلد العبد سلاحا أو دنا لطلب العلم أو قلد سيده في هيئاته..

من هنا نتبين أن منشأ الطبقية من كان متطلبات الواقع التي فرضتها الضرورات الاجتماعية.. وكانت تلك القوانين الصارمة من أجل تحقيق ما يلي:

الأول: حماية مجتمعات الفضيلة من الرذيلة الأناسية البشرية المنحرفة عن فطرتها السوية والتي تمثلها في بيئة العبيد.

الثاني: تأديب عبيد الخدمة على ثقافة الصمت و الاستذلال الطوعي.

الثالث: تكريس الصفات المنبوذة في طبقات العبيد كضرورة أمنية لحفظ مجتمعات النبالة من اتحادهم..

الرابع: تقسيم المجتمعات بين ثقافتين: ثقافة المستعمر بكسر الميم وثقافة المستعمر بفتح الميم وتأصيله أخلاقيا وعرقيا ودينيا..

ونظرا لهذه القوانين طوعت هذه الطبقات على أخلاقها الجديدة، وتميزت النبالة كقيمة مرجعية للطبقات الدنيا داخل المجتمعات، والشعوب المتخلفة، أو الشعوب اللاحضارية..

 ولم تكن الطبقات متساوية أو حكرا على اللون فقد كان في كل سلالة عرقية عدة طبقات مختلفة من أبناء الجنس ذاته لكنها لم تكن تخرجه من النبالة وإنما تتفاوت مراتبة بحسب ما لديه من قيم العلم والفروسية والأخلاق، ومن ثم استحدثت الرتب العسكرية الأوربية المعاصرة على أساس هذه المعايير الفضيلة والحكمة أو حماية الأمن والدولة والنظام والشعب.. بمعنى أن هذه الرتب العسكرية كانت ولادة أخلاقية طبيعية لتاريخ المجتمعات الأوربية..

وقد تمكن هتلر وموسوليني والعسكرية اليابانية والإنجلكانية البريطانية والبيوريتانية الأمريكية من تطبيق معايير الجندية أولا باحتكارها على طبقات تاريخية معينة.. ثم استحدثت مدارس عسكرية لخلق معايير الجندية في طبقات العامة من الشعب ثم من شعوب أخرى كرتبة أرقى من رتبة العبيد والحرفيين ولكنها أدنى من طبقات النبالة التي تتكون من ثلاث طبقات متسلسلة تبدأ بطبقة الفلاسفة، ويليها الفرسان، فالتجار، وفي الدرجة الرابعة تستقر طبقة العسكر.. أو أقدام الطبقات الثلاثة..

هذه الثلاث الطبقات الرئيسية قد تتداخل مع بعضها ولها معايير أخلاقية صارمة وعادات أخلاقية مختلفة تعيش منعزلة عن بقية الطبقات الشعبية، ورغم ارتباط الجنود بالفرسان إلا أن هناك معايير صارمة في العلاقات بينهما.. وكذلك في المعلوماتية .. فمن يمتلكها يمتلك سلطة الأمر والتوجيه.. بمعنى أنه ليس الجندي أكثر من معطى عسكري على غرار المعطيات الاقتصادية لعبيد الزراعة والخدمة..

ولهذا كان السباق الأوربي على احتكار المعرفة والعلم والتقنية .. فهم من يمتلكون الأقمار الصناعية والتقنية ووسائل التواصل الاجتماعي.. ويصنعون المحتويات ويضعون المعايير ويتحكمون في توجيه المعرفة أو استكشافها.. فهم السادة من منظور المعرفة أو الحكمة الفلسفية…

هم الذين يسيطرون على الاستخبارات ويتحكمون بالخطط العسكرية والثورات والاغتيالات.. فهم السيادة من منظور الفروسية..

هم الذين يمتلكون الشركات ويتحكمون بمعادن الأرض مواردها والصناعات والموصفات والمقاييس والقوانين التجارية فهم أصحاب السيادة من منظور التجارة والقوة الاقتصادية..

هم الذين يحررون المجتمعات العالمية من الاستبداد السياسي ويدافعون عن المجتمعات المستضعفة، وهم الذين يحررون المرأة من السيطرة الذكورية، وهم الذين يضعون قوانين حماية الطفولة وحقوقها للحفاظ عليها من العنف الاجتماعي، وهم الذين يدافعون عن حقوق الأقليات والمهمشين فهو السادة من منظور الفضيلة والقيم الإنسانية.

هذه المعايير المعاصرة كانت من أهم وسائل فرض السيادة وفرض الطاعة الاختيارية ، وأكتسبت الدولة الأمريكية والدول الأوربية الراعية لها شرعية  دولية وفردية ومجتمعية وعالمية..

تمكنت هذه الطبقات الحاكمة من وضع معايير مجتمعية وفردية محلية للطبقات الأدنى تحت غطاء نظريتين أو فلسفتين واقعيتين وعقلانيين ..

  • فلسفة العدالة كأداة لحماية الطبقات الأوربية الدنيا من تهديد النظام  والتنمية..
  • فلسفة الحرية: لضمان حرية التعبير والتدين كضرورة شرعية لدراسة الظاهرة المجتمعية وتحولاتها ومن ثم السيطرة عليها واحتوائها..
  • فلسفة المساواة: والتي تمنح المواطنين القدرة على الخلق والإبداع والتنافس كضرورات مهمة من أجل تحقيق التقدم الحضاري.. واستغلال العقل البشري.
  • فلسفة الحقوق لحفظ النظام وتمكين المجتمعات من الاحتكام لقيم خفية تديرها الطبقة أو قيم روحية يديرها الإله عن بعد، وتلعب تخصصات علم الاجتماع وعلم النفس الدور الأبرز في استغلال القيم والرغبات المجتمعية والفردية.

وخلاصة ذلك أن السيادة ترتبط بالقيم والأخلاق والعلم كمعايير سيادية ذاتية، تدفع بالمجتمعات للقبول بها لحاجتها إلى قوة ناظمة روحية وواقعية، ونظرا لهذا الافتقار؛ افتقار الحكمة، والعدل والنظام والتنمية والأخلاق، تبحث المجتمعات عمن يسودها بتلك الصفات أو تتحول الى قوى ثورية فوضوية.

 مع أن المجتمعات تتحدث عن تلك القيم وتنشدها إلا أنها تفتقر لها كسلوك ذاتي وخصائص عدلية في الأغلب لشعورها بالنقص أمام الطبقات التي أصلت لهذه الظاهرة الاجتماعية تاريخيا وأيدلوجيا وعقائديا وفلسفيا وإخباريا..

بمعنى واقعية النظريات الاستسيادية فمن يمتلك العلم والمعرفة والقوة يختلق المعايير الذاتية لنفسه ويفرضها على الجنس الآخر. وتتنوع النظريات الإستسيادية إلى : – السيادة العرقية، السيادة الثقافية، السيادة اللغوية، السيادة الذكورية، السيادة الاقتصادية، السيادة العسكرية ..

ومن هنا نشأت أزمة خطيرة على مجتمعات العامة ومجتمعات النخبة العربية تسببت بالثورات وتحولت التفاهة المجتمعية المتنادية على الانفتاح إلى قيمة ثقافية عشوائية أو تقليدية..  

بدأت الظاهرة الثقافية الأولى داخل الإسلام مع بروز ظاهرة القصاصين الذين حذر منهم العلماء بقولهم إياكم وحلق القصاصين، لأن القصص الموضوعة أو الأخبار المنتشرة تعكس دونية الطبقات المنبوذة بمعايير القيم الدينية وقيم الفطرة السوية.

وتحول الكذب الى ثقافة اجتماعية مع انتشار ظاهرة العبودية وسيادتها على مقاليد السياسة والمعتقدات خلال فترات حكم العبيد داخل الدولة العباسية وسلطة المماليك بعد ذلك لأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي ثم تحولت هذه الرذيلة إلى ثقافة سياسية ودينية وأيدلوجية ومجتمعية وفردية معاصرة، أسهمت وسائل التواصل والإعلام المعاصر في تدوينها أو تحويلها إلى ظاهرة عالمية عبر الآليات التالية:

  • الشهرة: تعتبر الشهرة من الأمراض المجتمعية والنفسية ومن الرغبات المجتمعية، وقد أسهم الإعلام عبر قنواته الدينية من إبراز ثقافة القصاصين، في الإعلام وقنوات التواصل، كما أبرز الإعلام ظاهرة التفاهة الفردية والمجتمعية.. للمفكرين والساسة والإعلاميين والمرأة والشذوذ الاجتماعي الجماعي والفردي..
  • الثروة: كان المماليك والعبيد أول من أسس للمكانة المجتمعية من مدخل الثروة، وكان أول من أصل لها سياسيا وقيميا المعز لدين الله الفاطمي.. عندما قال: من سألني عن حسبي فهذا حسبي وأخرج صرة من المال وأنفقها على أتباعه.. من هنا نجد مدى تفاهة الأفراد على صنع محتويات كاذبة ومظللة ومحتويات الحياة اليومية من أجل الحصول على الثروة..
  • القوة: ظل السيف هو المعيار الذي تميز به الفارس ولكنه انحرف مع المماليك واستخدمت النساء والجواري والاغتيالات كوسيلة من وسائل القوة .. وقد أجاب المعز لذلك بقوله ومن سألني عن نسبي فهذا نسبي وأخرج السيف.. ونقف هنا على أزمة الأفراد والمجتمعات العربية في توجهها نحو الاستقواء بالدول الكبرى لمواجهة مجتمعاتها وقيمها ودولها دون معايير علمية واعية، تدفع بمجتمعاتها نحو الفوضى والانقياد لثقافة الاستعمار كالنموذج اللبناني.
  • النقص: أخرجت عقد النقص كثير من الأمراض المجتمعية المعاصرة ومن ثم كانت الفرصة مفتوحة لاستكشاف هذه الظواهر المرضية، من خلال المحتويات المقدمة كالمطالبة بتطبيق القيم والنماذج الغربية أو بروز ظاهرة الأدواء الاجتماعية كنشر الحياة اليومية، والتوكتوك،، والآفات المبرزة للناشطين الحقوقيين والسياسيين والمثقفين والشواذ.

.. كل هذه التوافه كشفت لنا عن مدى تفاهة المجتمعات الرقمية والتقنية تمييزا عن المجتمعات النقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.