الفلسفة التجريبية والمثاليّة النقدية
د. روضة المبادرة
باحثة في فلسفة التنوير والحداثة
يبدو أنّ الاستغراب الأهمّ في تاريخ الباحث هو تقصّي تجربة الآخر الفلسفيّة و هو نتاج ثالوث فكري يبدأ بالفرنسي رينيه ديكارت، ثم يليه الاسكتلندي ديفيد هيوم، ليُختتم بالألماني إيمانويل كانط بالرغم من أن هذا الأخير كانت حياته الفكرية ذابلة إلى أن تجاوز الخمسين حين أيقظه هيوم من سباته الدغمائي و ما إن انطلق في مشروعه النقدي حتى أدرك بسرعة أن تاريخ الفلسفة لن يعود كما كان: بغرور لا مثيل له، يقول إن عمله يشبه ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك .
إنّ مقصودنا في هذا البحث هو التحقيق في القراءة النقديّة الكانطيّة لفلسفة هيوم و لعلّنا سوف نتوقّف عند المشروع الميتافيزيقي و الفلسفي لكلّ منهما .
فما يمثّل مدار بحثنا هنا هو : كيف يرى كانط فلسفة هيوم ؟ و ما المزيّة البالغة الأثر الّتي قام بها هيوم لصالح فلسفة كانط ؟ و بأيّ معنى قرأ كانط هيوم ؟ أيّ قراءة نقديّة يمكن أن نستشفّها من دراسة كانط للمشروع الفلسفس الهيومي ؟
لابدّ من الاعتراف أنّ فضل الفلسفة و الفيلسوف لهو العظيم في زمن تغافل فيه الإنسان حتى عن ذاته ولم يعد يعترف بها حتّى. لكنّ مبدأ الاعتراف هذا حين يجعله الفيلسوف حقّ وواجب هو الفضيلة عينها , وبما أنّ إيمانويل كانط هو فيلسوف الأخلاق النموذجيّة يرى أنّه من الواجب الاعتراف بفضل من علّمنا أو من أيقضنا من سباتنا الدغمائي ولعلّ المقصود هنا هو الفيلسوف الأنجليزي دافيد هيوم و هذا ماصرّح به في بعض مؤلّفاته على غرار ” نقد العقل المحض ” و”مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا ممكنة يمكن أن تصير علما ” .
ولكن ” كيف تلاقى مشروع هيوم مع مشروع كانط في موضوع الميتافيزيقا ؟ “[1] هكذا تساءل الدكتور محمد عثمان الخشت عن العلاقة بين المشروعين الهيومي و الكانطي .
وفي هذا المقال سوف ننقصى برؤية نقديّة مواجهة فلسفيّة بين عظيمين من عظماء الفلسفة و الميتافيزيقا بالرغم من انتمائهما إلى حقبتين زمنيّتين مختلفتين إلاّ أنّهما يجتمعان في الحقبة الفلسفيّة , وهو ماجعل النقاش شيّقا .
يبدو أنّ هيوم يمثّل قامة من قمم الفلسفات الحديثة وكان تأثيره كبير على الفلسفة الغربيّة و على الفكر التنويري خصوصا , و أغلبيّة المفكرين.
إنّ تصريح من هذا النوع ” و أعترف صراحة أنّ تنبيه دافيد هيوم أيقضني أوّلا من سباتي الدغماطيقي من عدّة سنوات مضت ووجّه بحوثي في الفلسفة النظريّة وجهة جديدة تماما ” [2].
إنّ قيمة مفهوم “الفضل ” تتأتي من معنى آخر ” للفضل ” إذ بفضل النقص الحاصل في نظريّة هيوم استطاع كانط أن يستوعبه و أراد أن يجعل منه مصدر تأمّل و بالتالي مصدر حثّ على التفكير و توسيع نطاق البحث أو بعبارة أخرى نستطيع أن نفهم أنّ كانط قد رأى في الجانب الناقص من فلسفة هيوم الجانب الّذي به حقّق وثبة فلسفيّة في تاريخ المثاليّة , و بالتالي قد مثّلت فلسفته ثورة كوبرنيكيّة تمثّلت في النظريّة النقديّة .
فما توقّف عنده هيوم استغله كانط لصالحه و ذهب في إتّجاهه و قام بإتمامه؛ فإذا كان الفيلسوف الأنجليزي (هيوم) قد رأى أنّ المعرفة خبريّة تجريبيّة أو لا تكون فإنّ إضافة كانط كانت النظريّة العقلانيّة و كأنّ كانط قد جاء بعد قرن من الزمن حتّى يتمّم ما تغافل عنه أو بالأحرى تناساه أو ربّما عجز عن اكتشافه هيوم ألا وهو العقل مصدر المعارف , ولكن ليس كلّ المعارف .
و مرّة أخرى يكون اعتراف كانط في محلّه حين يقول : ” لقد كنت أبعد ما أكون عن التسليم بنتائجه الّتي نجمت من أنّه بكلّ بساطة لم يتمثّل المسألة بكلّ جوانبها و سعتها و أكتفي بتناولها من جانب واحد فقط , وهي بالطبع لن تفسّر لنا شيئا إلاّ إذا تناولناها في جملتها . وعندما نبدأ بحثنا بفكرة مبنيّة على أساس سليم قد نقلناها عن شخص آخر لم يتوسّع في بحثها فإنّا نستطيع أن نأمل بأنّنا سنسير بفضل التأمّل المستمرّ شوطا أبعد من هذا الرجل النابه الّذي ندين له بأوّل شعاع من النور ” [3] . يبدو أنّ شعاع النور هذا الّذي أنار دروب كانط الفلسفيّة لذو فضل عظيم لفيلسوف عظيم ومن فيلسوف لايقلّ عظمة عليه .
فجّر هيوم أسئلة وشكوكاً لم يُجَب عنها بعد: لا يوجد تبرير مُقنع لإيماننا بمفهوم السببية، ولا بالاستقراء العلمي؛ لا نعرف شيئاً عن النفس. كما شنّ هيوم حملة شرسة على القائلين بأن المشاعر تخضع للعقل، بل اعتبر العقل عبداً للمشاعر، وهو ما تغافل عنه أو بالأحرى تناساه نقاد التنوير وجماعة ما بعد الحداثة، لجهلهم، حين ينسبون لعصر التنوير الإيمان الأعمى بالعقل.
يعترف كانط بأنّ ريبيّة وشكوك هيوم شكّلت أوّل تحدّيا له حفّزهُ لبناء فلسفته النقدية. فيتساءل هيوم كيف باستطاعتنا القيام باستنتاجات بشأن التجربة، كيف يمكنني التنبؤ بما سيحدث في المستقبل اعتمادا على أحداث الماضي؟ ، يذهب هيوم، في هذه الحالة إلى أننا يجب أن نكون على معرفة بمبدأ الانتظام الذي يقرّ بنقطة أساسيّة تتمثل في أنّ : الأحداث في المستقبل تخضع لنفس القوانين العامة التي اُتبعت في الماضي.
ولكن كيف يمكن معرفة هذا المبدأ ( مبدأ الانتظام ) ؟
إنّ هذا المبدأ ليس حقيقة منطقية أو ضرورية، إذن لا يمكن افتراضه سابق للتجربة مثلما هو ممكن في الرياضيات. لأنّه يمكن أن يؤدي بنا في نظر هيوم إلى الوقوع في دائرة مفرغة لو ندّعي أننا نعرف المبدأ من التجربة، لأننا نحتاج سلفا لمبدأ الانتظام لكي نستدل بان مبدأ الانتظام كان صائبا في الماضي وسوف يستمر صائبا في المستقبل. وهكذا يكون استنتاج هيوم التالي :
لا نستطيع معرفة أنّ أحداث المستقبل ستتبع نفس القوانين في الماضي, نحن فقط اعتدنا على توقّع ذلك, أي بناءا على مبدأ العادة وليس العقل.
يردّ كانط أوّلا على شك هيوم ومن ثم سعى للتوفيق بين التجريبية و العقلانية وذلك في أشهر مؤلّفاته ” نقد العقل الخالص”. و قد واصل كانط عمله التوفيقي في كتابه المقدمة كرسالة تمهيدية من أجل أن تكون أفكار العقل المحض قابلة للفهم أكثر . و يريد صاحب الثلاثيّة النقديّة أن يجعل من شكوك هيوم حافزا لفلسفته و خاصة فيما يتعلّق بالمبحث الميتافيزيقي .
إنّ مشكل الميتافيزيقا الأعظم هو في رأي كانط إمكانيّة أن تصير علما قادرا على كشف حدود العقل في مجال المعرفة وهذا ما تفطّن إليه كانط بفضل هيوم إن فضل يقظة هيوم هو أنها جعلت كلّ تفكير كانط تقريبا منعطفا حول حقيقة التّصوّرات العقليّة ومصادرتها من جهة والبحث في مبدأ العليّة من جهة أخرى.
لقد اعتمد صاحب الثلاثيّة النقديّة على العقل في كلّ تأمّلاته النظريّة ودافع عن مقرّراته خاصّة تلك الّتي تنطلق من مجال معرفة وهو ما يعني أنّ تصورات العقل هي تصوّرات عقلية محضة قبليّة وهي عمليّة شاقّة في مجال المعرفة.
إنّ تغافل الفيلسوف الانكليزي (هيوم) عن دور العقل مقابل انتصاره لدور التجربة في المعرفة هو ما جعل كانط يدافع عن مبادئ العقل بشراسة كمصدر أساسي لكلّ معارفنا، فالكانطية لم تنح منحى هيوم حين أراد من النّقد أن يكون نقدا مؤسسا وكعلم موضوعه الميتافيزيقا، إن فضل هيوم كان اكبر حين نبّه فيلسوف كونيسبرغ إلى التنقيب عن حقيقة التمثّلات العقليّة الّتي كانت متجسّمة في مفهوم الميتافيزيقا. لكنّ السؤال الفلسفي هنا هو عن كيفيّة إمكان التّصوّرات القبليّة أي كيف تكون الميتافيزيقا ممكنة؟
يطرح كانط الميتافيزيقا كضرورة يكون العقل الإنساني في ألحّ الحاجة إليها فبالرغم من قدم المفهوم[4]
إذ يطرح كانط السؤال حول ما إذا كانت الميتافيزيقا ممكنة وكيف تكون كذلك. محاولا معالجته فالميتافيزيقيون لم يتفقوا أبدا على حلّ محدد بل ولم يقوموا بتأسيس قاعدة للاتفاق على الأحكام.
إنّ السؤال الّذي يتعلّق بما إذا كانت الميتافيزيقا ممكنة أم غير ممكنة ؟
هو سؤال يبطن فكرة مركزيّة مفادها: أنّ الميتافيزيقا عرضة للشك. و ربّما يثير الاستياء لدى القارئ و الباحث حين يوضع في اعتبارهم أن الموضوع الذي يبحث فيه و الّذي درسه بكثافة هو بلا نفع و بلا قيمة.
غير أن كانط أصبح على وعي بأنّ الميتافيزيقا تحتاج هي بحد ّ ذاتها إلى أساس متين مقارنة بما هي عليه الآن إذا ما درست بجديّة و هو واثق كلّ الثقة بأنّ الذي اطلع على مؤلّفاته بعناية وخاصة مؤلّفات النضج سوف يلاحظ ذلك.
واضح أنّ كانط يعترف بضرورة البحث عن أساس صارم و متين للميتافيزيقا بعدما اطلع على أبحاث و مقالات هيوم، الذي أيقظهُ من سباته.
إنّ الفلسفة الترنسندنتاليّة هي الّتي تبحث في الأحكام القبليّة التي تهمّ الميتافيزيقا فهي تتساءل عن إمكانها:
- كيف تكون الرياضة البحتة ممكنة؟
- كيف يكون عمل الطّبيعة المجرّد ممكنا؟
- كيف تكون الميتافيزيقا بعامّة ممكنة؟
- كيف تكون الميتافيزيقا بوصفها علما ممكنة؟[5]
إنّ فضل هيوم هنا هو أنّه حفّز كانط من خلال نقده للمفهوم الساذج للسبب والنتيجة، وهو يتساءل كيف نعرف أن حدثا ما يمثّل سبب لحدث آخر.يبدو أنّ هيوم يريد أن يبيّن أننا لا نمتلك معرفة قبلية بالسببية: إذ لا نستطيع معرفة العلاقات السببية بين حدثين قبل تجربتنا لهما بوسائل العقل وحده. بدلا من ذلك، يقترح هيوم أن ما نسميه “معرفة” بالسبب والنتيجة هو مجرد توقّع بان حدثا ما سيتبع آخر بناءا على العادة وليس العقل المحض ..
النتيجة الّتي بلغها هيوم كانت مصيريّة بالنسبة للميتافيزيقا. إذا كانت “معرفتنا” بالسبب والنتيجة تقوم أساسا على العادة وليس على العقل، عندئذ كل النظريات الميتافيزيقية التي تحاول توضيح كيف يقودنا عقلنا لهذه المعرفة ستذهب هباء. وفي فحص آخر،يقول كانط ” ثمّة ما هو أجدر بالقول من كلّ ما تقدّم و هو : إنّ بعض المعارف تخرج حتى عن حقل جميع التجارب الممكنة , و يبدو أنّها تتوسّل ما صدق أحكامنا فيما يتعدّى جميع حدودها بواسطة أفاهيم لا يتناسب معها أيّ موضوع قد يعطى في التجربة ” [6].
لاحظ كانط أن كل الميتافيزيقا مرتكزة بالأساس على الفكر القبلي، رابطا بين المفاهيم بدون أي إشارة للتجربة، لذا فان جميع الميتافيزيقا عرضة لهجوم هيوم.
إنّ قراءة كانط النقديّة لهيوم استطاعت أن تبني منهجا آخر غير الّذي نهجه و اختاره هيوم , و ذلك بتجاوز المعنى الضيّق و التطلّع إلى أفق ما بعد حسّي ألا وهو : الميتافيزيقا .
إنّ عيب أو بالأحرى فضل هيوم بالنسبة إلى كانط يكمن في أنّ هيوم قد حدّد أبرز المبادئ المعرفيّة الأساسيّة التي تهمّ النوع البشري وهي :
1 – أنّ الأحاسيس والمشاعر والانفعالات هي التي تحكم معظم تصرّفاتنا و أفعالنا وتوجهاتنا , و ليس العقل و الذهن سوى تابع لها .
2 – وحدّد أصل السببية التي يعتمدها العمل العقلي بشكل أساسي .
3 – و أنّ الذات أو الأنا متحوّلة نسبيّة متغيرة ومتطوّرة وليست ثابتة , وبدون جوهر .
4 – وأصول الدافع الديني .
لقد أثبت هيوم أنّ كلّ معرفة جديدة تأتي نتيجة للخبرة، وأنّ كلّ الخبرات لا توجد إلاّ في العقل على شكل وحدات فردية من الخبرة، وكان يعتقد أنّ كلّ ما مَرّ به الفرد مباشرةً من خبرة لم يكن أكثر من محتويات شعوره الخاص، أو ما يتضمنه عقله الخاصّ.
في حين أثبت كانط أنّ ” التجربة ليست ممكنة إلاّ بتصوّر اقتران ضروري للإدراكات ” [7] ومن هنا كانت المواجهة النقديّة ومن هنا كانت المواجهة النقديّة الفلسفيّة بين العظيمين .
إنّ كل ما ينتجه الإنسان من علوم ومعارف في نظر هيوم مشروط بطبيعته المكونة بصفة أساسية من مجموعة من الرغبات والانفعالات والمشاعر والاعتقادات، ومن بنية ذهنية قوامها ملكات معرفية ثلاثة هي الإدراك الحسي ، والمخيلة , والفهم. وهو بذلك يضع نظرية متكاملة تحلّل المعرفة , والأخلاق , والدين , والاقتصاد ، على أساس الطبيعة البشرية فقد كان المشكل الأساس بالنسبة لهيوم هو مشكل المعرفة: طبيعتها وحدودها و هو الهاجس الّذي حمل ثقله مؤسّس الفلسفة النقديّة كانط.
فلئن استفاد هيوم من لوك في حله لهذه المشكلة، ذلك لأنه تمثّل فضل لوك هنا في أنّ هيوم قد استعار منه “المنهج التجريبي في الاستدلال أو البرهان”، واعترف بأن لوك قد سبقه في البدء بدراسة الفهم البشري كنقطة بداية لدراسة المعرفة. لأنّه في نظر لوك ليس في العقل شيء جديد إلاّ وقد سبق وجوده في الحس أوّلا إلاّ أنّ استعمال هيوم للمنهج التجريبي تميّز عن استخدام لوك له في الدقة والصرامة المنهجية، بل والشجاعة الّتي أدّت بهيوم إلى السير مع الفلسفة التجريبية حتى نهايتها المنطقية والتي تمثلت في أنّ كلّ معارفنا نسبية ومحتملة بمعنى خاضعة لمبدأ الاحتمال و ليس الحتميّة و بالتالي الانتهاء إلى نزعة شكيّة نسبية، لا يمكن و لا تستطيع أن تتمثّل حقيقة الموضوعات الميتافيزيقيّة الله , الحريّة و خلود النفس. و كانط بدوره قد اعترف بأنّ هيوم قد سبقه إلى أنّ كلّ معارفنا محدودة أي أنّ كلّ ما نعرفه معرفة يقينية هو ما يظهر أي أشياء العالم الحسي التجريبي الخاضع للإدراك الحسي والخبرة التجريبية، وهي حدود المعرفة و بالتالي حدود العقل .
إنّ ثنائيّة العيب و الفضل الّتي لهيوم في نظر كانط يعلن عنها كانط في عديد مؤلّفاته ذلك أنّ هيوم كفيلسوف حسيّ ليس بوسعه أن يعوّل على المصادرات القبلية الّتي أولاها كانط أهميّة في كتبه النقديّة العمليّة. إذ ليس لديه سوى البحث من خلال التجربة و الملاحظة الّتي عوّل عليها هيوم حتّى تكشف عن مبدأ الضرورة في العلاقة السببية.
وعليه فإنّ النقاط الأبرز في تحليل هيوم للسببيّة، تتمثّل في :
1 ـ إن أساس معرفة السببية يعود إلى التجربة لا العقل، باعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.
2 ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها أو تنفيها.
3ـ على هذا فإن عدم إثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الاستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.
يقرر هيوم انه لا سبيل إلى إثبات الضرورة ولا إلى عدم إثباتها أو نفيها، فهي في كل الأحوال تظل مشكوكا فيها من ناحية الوجود أبدا. والدليل الاستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لإثبات التعميم في العلاقات الخارجية.
هذا ما تأسّس عليه المذهب الخبري وقد عرضت هذه النقاط على بعض المفكرين للنقد والتحليل، وأهمهم كانط . ففيلسوف المثاليّة هنا يختلف مع هيوم حول النقطة الأولى المتعلقة بتفسير أساس معرفتنا بمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض أو غيره من المبادئ القبلية، بل اعتبرها تنتمي إلى جنس القضايا الأولية المتضمنة على الضرورة. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، المتجهة بين ان تكون تجريبيّة أمبيريّة أو مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال أن ّ كانط يخرج السببية عن هذين المصدرين.
و هذه المشكلة التي طرحها هيوم موضع اهتمام الفيلسوف الألماني إمانوئيل كانط خاصّة في كتابه النقدي الأوّل ( نقد العقل المحض) الذي حاول حلها بافتراض العلاقة السببية كمقدمة لا غنى عنها، فاعتبر أن موضوعات أحكامنا الإدراكية مبنية على تلك العلاقة، وان كل سببية خاصة تفترض اطراد الاتصال في هذه العلاقة، وبالتالي فإن اطراد الطبيعة يشمل كل العالم الظاهر القابل للإدراك. هذا ماصرّح به كانط في نقد العقل المحض هو تصريح يردّ به على سلفه النابه الّذي يقول عنه : ” لقد أثبت هيوم بطريقة لا تردّ بأنّه يستحيل على العقل أن يفكّر قبليا و بواسطة التصوّرات في مثل هذه العلاقة لأنّها تحتوي على ضرورة و لا يمكن أن نتصوّر كيف يلزم لمجرّد وجود شيء , وجود شيء آخر بالضرورة وكيف يمكننا أن ندخل في العقل تصوّر مثل هذه العلاقة قبليا , و لقد ظنّ خطأ أنّه من إنتاجه في حين أنّه في الحقيقة نتاج مهجّن من الخيال الّذي أخصبته التجربة و الّذي أخضع بعض التأمّلات لقانون التداعي فعدّ الضرورة الذاتية الصادرة عنه( العادة ) ضرورة موضوعيّة قائمة على المعرفة . و ستنتج هيوم أيضا أنّ العقل ليس عنده ملكة قادرة على تصوّر هذه العلاقات و لا حتّى على تصوّرها لن تكون إذن غير مجرّد أوهام ” .[8]
فعند تحليله لعلاقة العلّة و المعلول ومن ثمّ ردّ الميتافيزيقا إلى مبدأ واحد وهو ما يرفضه هيوم ويرفض إعلانه فهذا الرجل النابه في نظر كانط لا يعترف إلاّ بالتجربة و هو ما يقرّ به كانط حين يقول:” و لقد حاولت بادئ ذي بدء أن أتبيّن إذا كان من الممكن أن يتمثّل اعتراض هيوم في صورة عامة , فرأيت توّا أنّ المعنى الّذي يصوّر لنا علاقة العلّة بالمعلول ليس المعنى الوحيد الّذي يستخدمه الذهن في تصوّر العلاقات تصوّرا قبليا , وفضلا عن ذلك فإنّ الميتافيزيقا تتألّف كلّها من هذه المعاني و حاولت أن أتأكّد من عددها , و نجحت في ذلك كما كنت أرجو ذلك بردّها بعد ذلك إلى عمليّة استنباط تلك التصوّرات من هذا المبدأ بعد أن تأكّدت الآن أنّها لا تستمدّ من التجربة , الأمر الّذي لم يقبله هيوم . إنّما هي صادرة عن الذهن الخالص و هذا الاستنباط الّذي بدا في نظر سلفي النابه أمرا مستحيلا لم يخطر ببال أحد من المفكّرين من قبله على الرغم من أنّ كلّ واحد منهم قد استخدم تلك التصوّرات وهو مطمئنّ تماما دون أن يتساءل على أيّ أساس ترتكز قيمتها الموضوعيّة “[9] .
يسعى كانط إلى نقض المبدأ التجريبي الّذي أعلن عليه هيوم فالتصوّرات لا يمكن في نظره أن تستمدّ من التجربة لأنّها نابعة من العقل المحض , فبالرغم من عسر عمليّة الاستنباط الّتي يقوم بها كانط فإنّه يعترف بصعوبة هذه العمليّة فماهو مهمّ لدى كانط هو أنّ الميتافيزيقا ممكنة و نطاقها هو العقل المحض يقول فيلسوف النقد ” أقول إنّ عملية هذه كانت أشقّ مهمّة قمت بها من أجل دعم الميتافيزيقا , وشرّ ما في الأمر أنّ الميتافيزيقا الّتي نسلّم الآن بوجودها كانت عديمة النفع و الفائدة لأنّ إمكان الميتافيزيقا لازم في هذا الاستنباط . ولمّا نجحت إذا في حلّ المسألة الّتي أثارها هيوم لا فقط في حالة خاصّة بل في حالة ملكة العقل المجرّد كلّها . فإني كنت أتقدّم بثقة لكن بخطى بطيئة دائما, لكي أحدّد كلّ نطاق العقل المجرّد حدوده ” [10].
إنّ شرط قيام الميتافيزيقا بما هي المعرفة الاعتبارية هو أن تكون معزولة تماما و مترفّعة عن كلّ تجربة أي أنّ هناك ” معارف قبليّة لا تلك المستقلّة عن هذه التجربة أو تلك بل المستقلّة بالتمام عن كلّ تجربة “[11] و بالرغم من أنّ كلّ معارفنا تبدأ من التجربة ” فإنّها مع ذلك لا تنبثق بأسرها من التجربة ” [12].
خاتمة
إنّ نقد كانط للعقلانيين وخصوصا التجريبين يعبّر عن ثورة في التفكير الفلسفي قديما و حديثا فواضح أنّ كانط يعترض على مثاليّة أفلاطون الّذي أثبت لا جدواها و مثاليّة ديكارت الحالمة دون التغافل عن نقده لمثاليّة بيركلي المغرقة في الرؤى . ومن جهة أخرى يريد تقويض شكّ هيوم من أساسه بل هو يجعل الهدف الأوّل من النقد تفنيد المذهب الريبي و السعي لوضع حدود للمعارف الّتي قام عليها هذا المذهب .
قائمة المصادر
إ يمانويل. كانط، نقد العقل المحض، تقديم الترجمة العربية، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت . لبنان، 2005.
إ يمانويل. كانط، مقدمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة نازلي إسماعيل حسين ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة مصر، الطبعة الأولى ، 1967 .
محمد عثمان الخشت، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم , دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع , القاهرة , ( ورد الكتاب دون ذكر للطبعة و التاريخ ) .
[1] محمد عثمان الخشت , الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم , دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع , القاهرة , ص 49 .
[2] إ يمانويل. كانط، مقدمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة نازلي إسماعيل حسين ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة مصر ، الطبعة الأولى ، 1967 ، ص 48 .
[3] المصدر نفسه , الصفحة نفسها .
[4] إشارة إلى المحاولات التي تناولت مفهوم الميتافيزيقا بدءا بالأرسطية إلى محاولات المحدثين جون لوك، ليبنيتز، …
[5] نفس المصدر ، ص 72 .
[6] إ يمانويل. كانط، نقد العقل المحض، تقديم الترجمة العربية، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت . لبنان ، 2005 , ص 47 .
[7] إ يمانويل. كانط، نقد العقل المحض، تقديم الترجمة العربية، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت . لبنان ، 2005 ، ص134 .
[8] إ يمانويل. كانط، مقدمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة نازلي إسماعيل حسين ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة مصر ، الطبعة الأولى ، 1967 ، ص44 .
[9] المصدر نفسه , الصفحة نفسها .
[10] المصدر نفسه , الصفحة نفسها .
[11] إ يمانويل. كانط، نقد العقل المحض، تقديم الترجمة العربية، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت . لبنان، 2005، ص46.
[12] المصدر نفسه ، ص45 .