العبودية الحضارية

0 27

د. جمال الهاشمي 

دائما ما تشير الآيات والكتب الدينية القديمة وحتى كتب التأليهيات الطبيعية إلى أن الإنسان كائن وكينونة وكونٌ صغير متحرك وعنصر في هذا الكون يتحرك فيه ويتفاعل معه للدفاع عن نفسه أو للاستفادة منه.

والمتتبع للسياقات الأممية السابقة يجد أن الحضارات والدول تحتضر إذا تمظهرت المادة بالصور الآتية:

  • عبودية المدنية: وهو المقدس الذي صُنع بأيدي الإنسان وتحول بفعل الإنسان إلى إله متضمنِ أو إلهِ صريحِ وقد تحولت المدينة اليونانية إلى مألوه مقدس وظهر فيها إله الجمال و”الموسيقى الإلهية وإله المتعة، وكانت من منتجات الفلسفة الاقتصادية العنصرية التي جعلت من الإنسان الآخر معطى اقتصادي وصناعة القطبية الاقتصادية في نظريات أرسطو الشهيرة ” وصناعة القوة القاهرة التي أصلتها الفلسفة الأفلاطونية المتمحورة على قدسية الكواكب الإلهية وقطع تلاميذ الحكمة المشائية العلمية السقراطية تعاليم أستاذهم المعلم الأكبر، الذي انتصر عسكريا وفشل إداريا وثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا، ولم تدم دولته العالمية بعد موته أكثر من بضع سنوات، ولم يتبقى من مآثره سوى مدنا تتسمى به بقاء للعبرة “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة ..”
  • العبودية العقارية -تأليه الفنون المعمارية وهي تجعل من الإنسان أدوات مادية لإنسان آخر سواء كانت هذه العبودية باستخدامه بأقل من أجره، كما هو شائن في العبودية الحديثة في إطار نظام الشركات العالمية وعبودية استغلال الدولة البيروقراطية، أو كما كان سائد بنظام القنانة وعبودية الإقطاع، وقد بني بهذه المعطيات المستعبدة الأهرام والحدائق المعلقة والهياكل المقدسة والعقارات الجبلية الفارهة “وتصنعون من الجبال بيوتا فارهين” في القديم والبنية التحتية للدول المعاصرة باستغلال العمالات خارج نطاق التشريعات العادلة، وخصوصا في بلدان دول الريع المترفة والدول النامية التي تستغلها الشركات العالمية كما هو في دول الصين وآسيا وأفريقيا خارج نطاق حقوق الإنسان المعمول بها في بلدان العوالم المتقدمة.
  • العبودية المالية: هي عبودية رمزية حديثة قطبيتها (الدولار) وتتشكل  عبر سلسلة من البنوك والبورصات العالمية التي تتحكم بأسعار الفائدة وقيمة الذهب والسلع العالمية وفق نظام عالمي متقن هدفه إعادة عبودية الإنسان بنظام العولمة المالية قبل أن تتطور استراتيجيات عولمة اقتصاد الأصول الثابتة من خلال مراكز الأسواق الاقتصادية المالية المرتبطة بمراكز البورصات العالمية الشهيرة تمهيدا لعالمية الطبقة المالية السياسية الحاكمة، وتستمد شرعيتها من الكتب المقدسة في اليهودية والفيدانتية والبروتستانتية والكاثوليكية والفلسفات الطبيعية وقد عارضها الفيلسوف المعروف أفلاطون بقوله إن النقود لا تلد نقودا، حذر منها الأنبياء، واعتبروها حربا مباشرة مع الله، وقد استمرت الحروب المالية بين الله و متألهي المال عبر التاريخ، حيث كانت اليهودية أشهر الطبقات المالية التي تحدد جوهر العقيدة وقيمة الإنسان بما لديه من مال؛ وأنها الأساس العقائدي لميلاد المدنية الألفية التي تتقاسمها مع الطائفتين الإنجيلية والبروتستانتيات الأمريكية. إلا أن هذه السيادة الطبقية أو طبقة القراصنة الاقتصاديين يتصلون بالعالم من خلال اصطناع طبقات عبودية قطرية مطاوعة ومتناثرة تستعمل لاستعباد الطبقات المقاومة كعامل وسيط يقوم بوظيفة الاستعمار المباشر، ويجنب هذه الطبقة من الصراع المباشر مع الطبقات المتحررة.
  • العبودية الثقافية: وهي عبودية سلوكية وفكرية تتجسد في طبقات وسيطة تحاول أن تتشبه بثقافات الطبقات العليا سلوكا ومظهرا وتنظيما وفكرا وحضارة، ولكنها تفشل في تقليد المظاهر الإدارية والفكرية والتنظيمية لافتقارها لقيم النبالة التي تدعيها الطبقات العليا ولم يعد بوسعها سوى أن تتحول إلى معطى وسيط يحاول فرض هذه الثقافة الطبقة العالمية دون جدوى، وعادة ما يجتهد العبد المطيع في تعلم لغة سيده وعاداته وتقاليده ويحاول فرضها على تابعيه وجماهيره ليتجمل بصورة العبودية الخاضعة التي تمنحه شرعية البقاء في دور الوسيط أمام سيده، ولكي تتشكل العبودية العالمية الواعية لا بد من تقديم لغة الطبقات النبيلة في المعاملات الإدارية الرسمية وإهمال اللغة الأم داخل المجتمعات بعد أن تم إقصاء دورها القديم في حضانة  العلم والسياسة والثقافة والدين والعلوم التجريبية برمتها، وأدى إلى تخلف العلوم وتدميرها، وصناعة التخلف العلمي كما هو التخلف السائد في المجتمعات، وما المواطن وفقا للثقافة السياسية الغربية إلا من جينات سيده في التفكير والثقافة والسلوك، أو من جينات رموزه في الطوائف والحزبيات والإثنيات.
  • عبودية العلم: العلم من أهم طقوس العبادة التي ترعى المصالح البشرية، ويتحول العلم التجريبي والحضاري إلى قطبية محتكرة ليكون وسيلة من وسائل وأدوات تراكم الثروة، أي توظيف العلم كما هو توظيف الدين لتراكم الثروة واستغلال الناس، ومن قبل كانت الكنسية تحتكر الطب القديم كما تحتكر الدين وكلها من العلوم التي تحولت إلى شركات استغلالية عندما انفصلت عن المصلحة الإنسانية والرحمة البشرية.

كانت اليسوعية هي أول حركة دينية وظفت الطب في إطار الرحمة الإنسانية على غرار ما كان سائد في العصور الإسلامية أو الحكماء الذين كانوا يعلمون الطب ويقدمون الدواء مجانا من خلال مساعدات حكومية وأخرى اجتماعية ولم يكن الدواء وسيلة من وسائل الثروة أو وسيلة للاحتكار بل تتلمذ  الكثير من أطباء الغرب على أطباء العرب وظلت فرنسا تدرس الطب باللغة العربية حتى القرن الثاني عشر قبل أن تتجه اتجاها نهضويا بفرنسة العلوم العربية وتعميم التعليم بلغتها كأول أداة انتقالية لتطوير العلم وبقية العلوم الإدارية والأخلاقية والمنطقية الأخرى التي تؤسس لثقافة مدنية عادلة، حيث تمكنت العلوم الإسلامية من فصل المعتقدات الكنسية عن الحياة الفرنسية، وتغيرت معها أفكار النخب الغربية بشكل عام.

وقد برزت على الساحة العالمية تجارة الطب المعاصر وتوسعت في استغلال معاناة الناس أولا ثم استغلال معاناة العالم، واحتكار صناعة الأدوية عبر قرون الامتداد الحضاري بعد أن كانت صفة نبيلة رفض أبقراط تعليمها للطبقات اللاخلاقية أو الدنيا في العرف اليوناني خشية أن توظيف بطريقة سلبية كصناعة الجراثيم والسموم والأمراض البيولوجية أو أن تستخدم لمراكمة المال وجمع الثروة. وهذا الأنطاكي في كتابه التذكرة لما رأى استغلال اليهود للطب نذر نفسه له لتعلم هذا العلم وتعليم المسلمين ومعالجتهم مجانا وبهذه الطريقة كان ابن سيناء وابن النفيس وغيرهم ممن أخذو الطب، أما الفلسفة التي دخلوا بها وذلك أن الطب كان من أهم علوم الفلسفة التجريبية القديمة التي يمارسها النبلاء ولذلك كان لا بد من تعلم مهنة الطب من مدخل العلوم الفلسفية.

كانت الأخلاق من المسلمات البديهية المطلقة لمقاصد العلم، وكان العلم الديني وعلم الطب من علوم الطبقات الأخلاقية النبيلة التي كانت قبل تلقيها العلوم تتميز عن بقية الطبقات بالقيم الأخلاقية أو صفات النبالة التي كان أشهرها “الصدق، الأمانة، الرحمة، النجدة، الكرامة، والأنفة والنشامة.

كانت الأخلاق عملية تربوية متوارثة في بيئات طبقية معينة من المجتمع دون أخرى، فتميزوا بأصولهم التربوية الفاضلة ونالوا بأخلاقهم السيادة الكاملة، ولهذا كان الأنبياء والفلاسفة على رأس النظم الاجتماعية والسياسية، لأنهم حماة الأخلاق ومعيار الحقيقة.

وكانت علوم السياسة والطب من العلوم النبيلة لأنها مجال إدارة شؤون الناس وأموالهم وحماية أجسادهم وحفظ ثرواتهم وتأمين أقواتهم، والقيام بأمنهم وتنمية مصالحهم، “وأذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا” حيث تتجسد النبالة بالقيمة والشرق والمروءة وليس بالحكم والقوة والقهر والثيوقراطية، بدليل “يذهب هذا الأمر على أيدي أغليمة سفهاء من قريش” . السفيه هو المبذر المبدد لأموال الناس والخائن لأماناتهم، أو يجعل علاقته قائمة على المال، دون معايير أخلاقية.

هذه الأخلاق هي التي صنعت النبالة في اليونان والأنساب في الجزيرة العربية، وقد فسدت عندما تحولت علوم الدين والسياسة والطب إلى أداة اقتصادية ووسيلة من وسائل الثروة، فالمعلم والطبيب والموظف لا يرى من مهنته إلا وسيلة من وسائل الترف والجاه والمال، وليست مسؤولية وأمانة وعمل وجدارة وكفاءة واتقان،  فسقطت به الأصول الأخلاقية والتربوية داخل المجتمعات وسقطت مع علومه قيم الطبقات النبيلة، وشارك بما سعى إليه في تخلف الإنسان والمجتمع والدولة والإنسانية.

إن النبالة والأنساب ليست صفة ذاتية تاريخية مقدسة ” إنا خلقناكم من ذكر وأنسى” ” وليست ثيوقراطية تأليهية “نحن أبناء الله وأحباؤه” بل هي قيمة أخلاقية وكلمة طيبة وفضيلة ربانية ورحمة إنسانية تنمو على أصول التربية وتتغذى بمعاني العلوم الربانية “ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ” ” إذ أن الأخلاق أصل العلوم وأشرفها ولا تقوم النبوات والممالك ولا يقام تقام العلوم الشرعية والعقائدية والإنسانية إلا بها “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

فالسياسة قيام بالأمر بما يصلحه فهي رحمة أخلاقية والدين قيم سلوكية فهو رحمة وهداية، والطب قيمة أخلاقية فهو رحمة وإنسانية.

أما أن يكون الطب وسيلة من وسائل الابتزاز فيتحول إلى بأهله ومتعلميه إلى علوم دنيوية وأخلاق دنيئة، وهذا الحاصل في العالم العربي، فكم من نسب تقام بين الأطباء وبعضهم، وبين الأطباء وشركات الدواء، وكم من العمليات قررت من أجل المال وكم من الأعراض هتكت، وكم من الأروح زهقت والثروات نهبت. ومثلهم التجار المضاربين والعلماء الجشعين.

كان في المقابل يقع في الخطوط الدنيا الجندي والتاجر وفي التنظيم كانوا من معطيات الإدارة والدولة والنظام، ليس لهم من الأمر شيء، بالمفهوم أن الرأسماليين ليسوا من أهم أسباب انحطاط المجتمعات لأن في سياستهم اكتناز وهذا الاكتناز مرفوض ومدمر لاقتصاديات المجتمعات في جميع الشرائع والأديان، وكذلك حيازة العقارات وتعطيلها من أهم أسباب تدمير الاقتصاديات المحلية.

، ولذلك حذر الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية من سيطرة التجار والعسكر، ومن اليهود ومن شاكلهم أن ينخرطوا في مؤسسات القرار والوزارات السيادية أو أن يسيطروا على الأسواق المحلية، أو أن يكون لهم تأثير أو تهديد لقيم الدول قوانينها مع ضرورة الالتزام بالعدالة معهم لأنها قيمة والقيمة لا تتحيز لفئة، أو توظف لجهة على جهة أخرى.

وقد كانت هذه النبالة متوقدة في شخصية ديجول الفرنسي الذي رأى أن بقاء الجامعات بعيدا عن الفساد والصراعات المحلية يعني أن الجامعات ما تزال حامية وراعية لقيم النبالة الفرنسية الغربية، هذه القيم النبيلة كانت سائدة في بلاد الأندلس وهي التي أخرجت نموذج الغطاريف في العالم الغربي،  كانت تنبع من المساجد وجامعاته الإسلامية الموازية للجامعات الأوربية، إلا أن المعمار دائما  ليس مقياسا لبقاء القيم، وإنما الإنسان هو المعمار الحيوي والقياس الأخلاقي  التي تتخلق به المؤسسات عند بداية التأسيس، “لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه””

لم يوجد في تاريخ العصور الحضارية الإسلامية مساجد طائفية ولا حزبية ولا قومية ولا سياسية، ولم تكن مغلقة ولم يكن الأمن يتدخل في شؤونها ومناهجها وإنما كانت وظيفة اجتماعية، وكانت من أهم المحاضن في صناعة الطبقات النبيلة، وكانت القاعدة التأسيسية” “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا” بعيدا عن الصراعات السياسية أو استغلال التدين في تدمير عواطف الناس.

التحرر من العبودية لا ولن تقوم دوان قواعد أخلاقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.