السياسات التعليمية وأزمة القيم المنهجية

0 16

د. جمال الهاشمي

إن الفشل في التنمية من باب أولى لا يحقق الأمن، ومن منظور القيم المنهجية يمكننا الوقوف على دور السياسات التعليمية..

تعتبر السياسات التعليمية رؤية استراتيجية، وهذا مفهوم لفظي أعجمي متداول لأنه في الأساس جاء عبر الكتب الغربية وتناقله الباحثون كقيمة مطلقة.. وقابله البعض بالقول أنه علم التخطيط في العربية وهي من المفاهيم الإدارية أو أحد عناصرها الرئيسية .

وقد صاحب هذا التحول المعرفي الحضاري رؤية جديدة من مخترعي المعاجم اللغوية وذلك باستحداث معاجم لغوية جديدة تناولت مفردات معرفية أجنبية ونشأت كومة من هذه المفاهيم التي أصبحت تتداول بين النخب الجامعية والتسليم بها كحقيقة علمية مطلقة دون اعتبار لأليات التوطين أو ختلاف البيئات ومخاطبة الناس بما يفهمون.

وكان أول علم سقط في الجامعات هو علم المفاهيم، ومن ثم نشأت الثقافة التجريدية أو التخيلية، ومن خلالها تجسد معها القمع المثقف. ومفهوم القمع هو الذي يحفظ الكثير من المصطلحات والمعارف ويرددها ولا يستطيع السيطرة عليها والتي لا تكتمل بتجسيدها في الواقع، وقياس نتائجها.

عند النظر في مفهوم الاستراتيجية من منظور بيئته الحضارية سنجد أنها تعني العمق في كل شيء، فهو ذو ابعاد زمنية ونفسية ومكانية وإمكانية، ونكتفي بهذه المفاهيم الأربعة للتعريف بالاستراتيجية، وهذه مقاربة تحليلية للمفهوم تحتاج إلى إعادة التواصل معها من مداخل متعددة للوقوف على علميتها، ومن ثم قراءة البنية والبناء والفائدة التي تشكلت عنها.

أما عندما تشتيت المفهوم وتحويله الى استراتيجية عسكرية واستراتيجية فردية أو قومية فهذا من السفسطة المنبوذة عند العلماء لأنها لا ترتبط بالواقع المنفصل وإنما هي جزء من الواقع المتصل. وتلغى بين المفهوم والنتيجة هم القواعد الرابطة بينهما لهذا نجد عند الكثير من الدراسات الأكاديمية فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق.

تعتبر النظرية والتطبيق من أهم مقاييس المنهجية لدى الجامعات العربية، ولكن عند ممارسة الربط بين القيم النظرية والتطبيقية نجد الفجوة هي الأزمة القائمة في كتابة البحوث.

وبرأينا النقدي المتواضع أن الباحث ليس أكثر من كشاف أو صياد للمعرفة من وسط الكتب المشهورة القديمة والحديثة ومن ثم يعيد رصفها ضمن خطته البحثية، ولا شك أن هذه المعرفة ذات أهمية معرفية، ولكنها لا تمتلك الأدوات المنهجية التي تحولها الى قيمة تشغيلية.

هذه البيئة الجامعية السلبية ودورها في تبيئة المفردات أو عجزها في تأصيلها أوجد فيها أزمة معرفية، وهي مرحلة سابقة لمفهوم المنهجية لأن هذه لا تستطيع العمل دون معرفة ومن ثم أحدثت ارباكا للتعليم والسياسات التعليمية والإدارية.

وبنفس الطريقة يعاني الوافد لدول العمق الحضاري الغربي من القدرة الذهنية على اصطياد المنهجية أو القيم المعرفية ومن ثم يكتفي بأن يكون قمعا لنقل المعارف والمعادلات المطروحة مكتفيا بتطبيقها، دون أن تكون لها القدرة على تفعيلها أو إعادة تشغيلها أو نقدها وإعادة تفكيكها وبنائها.

لهذا تبقى المعرفة مبتورة ومشوهة في حل التعليم وفي حقول التنمية، ولا تنتج الجامعات علماء أكثر مما تنتج عبيد، وتبعا لذلك فإن المعوقات الإدارية في السياسة التعليمية هي نفس المعوقات المستحدثة داخل المؤسسات السيادية والاجتماعية. وهو ما جعلها تتأزم في وضع الحلول ووضع التصورات والسياسات والاستراتيجيات.

إن أكثر ما يهدد العمق الحضاري للأمة العربية أو يشتتها هو العقل المؤسسي وسياساته التعليمية من داخل الجامعات، فهي البيئة القائدة في الغرب وهي المبددة لدى جامعات الشرق.

إن المجتمع ابن بيئته المعرفية والتعليمية وأن الحضارة هي المولود المعرفي للعقلانية الإنسانية، ومن ثم فإن الحضارة ليست مدونات تكتب، وأن قيمتها ليست بالحديث عنها وإنما في تجديدها وابتعاثها، وهو المنطق المنهجي لمفهوم السياسات التعليمية.

إن أعرق الجامعات العربية والإسلامية تعاني من أول مبادئ المنهجية العلمية لوضع المعايير الحضارية على مستوى الذات والآخر والفرد والمجتمع والإدارة وهو ما جعلها في مؤخرة الجامعات العالمية ومستهلكة للمعارف وتصنع قوالب من الافراد لاستهلاكها على نفس الطريقة والآلية التي تقدم بها المعرفة للطلاب.

وقد ترتب على فشل السياسات التعليمية عدة أزمات.. ما يزال الغالب منها مستكمن ويحتاج الى بيئة أخرى من الأزمات الاقتصادية لابتعاثه مما قد يهدد السياسات الإصلاحية التي يمكن تداركها من الآن.

وترجع معضلة التعليم إلى أن المناصب الأكاديمية منفصلة عن قيمها الوظيفية، وهو ما متمحورة على الفائدة الخاصة (الراتب وبدل السفر والترقيات والتسلط)، كما أن الأنشطة الأكاديمية والبحثية مرتبطة بسلسلة من الحصول على الترقيات الأكاديمية. وبناء على هذا تعتبر القيمة الوظيفية للبحث والتعليم منفصلة عن قيمها المنهجية، وتبعا لذلك فإن هذا الإنتاج المؤسسي ليس قادرا على تقديم المشاريع التنموية كما وأنه يهدد التنمويات التقليدية ويعرقل مسيرة الإنتاج والتماسك الاجتماعي وأمن واستقرار الدولة.

وإذا لم تتدارك المؤسسات السيادية هذا الواقع في ظل هذه الأزمات المتعددة فإنه الدول القائمة ستتعرض خلال السنوات القادمة لسلسلة من الأزمات غير المتداركة.

ولعل هذه المسير قد يكون متحققا لأن غياب الرغبة في النظر لواقع المسؤولية يحجب المؤسسات عن ادراك قيم الدور والوظيفية والوطنية وما معني أمن واستقرار الدول والمجتمعات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.