الرومانسية وسلطة المدينة

0 22
أد. ضياء غني العبودي

أستاذ اللغة العربية بجامعة ذي قار

تقوم الرومانسية بخلاف الكلاسيكية على الإيمان العميق بقدسية العاطفة ، وعلى ضرورة التحليق في عالم الخيال والأحلام هربا من عالم الواقع ، ولما كان الرومانسي يدرك عدم التئام الواقع والخيال ، نراه يسعى دائما إلى جعل عالم المثال عالمه الوحيد . ولكن كل ذلك يجعله يترجح بين العالمين ، بعيدا عن الواقع المادي المحيط به ، وعالم المثال الذي يتطلع إليه  . وغالبا ما يشعر الرومانسي براوبط قوية تشده إلى الطبيعة ، فيلجأ إليها هربا من واقعه الصاخب الذي يقيد روحه ويسيء فهمه . ويأخذ الحب عنده طابعا ذاتيا قائما على الأحلام ، يرسم عالما ذاتيا للحب من نسج خياله ، قوامه الحزن الذي يأتي من انهيار آماله الواسعة ، وربما يقترب من الاحساس بالسعادة ولكن يدرك أنها ستزول فيعاوده الأسى ، فيتعلق باللحظات الجميلة الهاربة . فالقلب هو الأساس عند الشاعر الرومانسي ، وهو دليله الذي يرشده الى الطريق ، وينطلق ذلك القلب من ذاتية مفرطة ، دفعتهم إلى الشعور بالوحدة ، فضلا عن الشعور بالحزن والتشاؤم ، ومن ثمَّ البحث عن مجتمع سليم ليعيش فيه ، مجتمع تسوده الحرية والعدالة بعيدا عن الشر ، فكانت الطبيعة هدفهم المنشود ، بعيدا عن الزيف ولخداع . وهذا لا يعني الهروب عن المجتمع وإن أكدوا ذلك ، بل يعني الثورة والسعي لتصحيح المجتمع من خلال نشر الفضيلة والتسامح والخير والحب العذري والمثالية في كماليتها ، وهي صفات تجمع البشر بشكل عام ، لأنها أساس الوجود البشري ” فالشاعر اذ يتغنى … يتغنى لنا جميعا بحكم ما يجمعنا من مشاركة وجدانية وإنسانية “([1]).

لقد اختلف النقاد في تعريف الرومانسية إلى حد يصعب معه حصر تلك التعريفات ، فقد وردت بمسميات كثيرة فمرة مسمى الرومانسية ومرة الرومانطقية أو الرومانتيكية ، ولعل مصطلح الرومانسية هو الأكثر شيوعا وتداولا ، ولعل في تعريف الرومانسية ” محاولة الهروب من الواقع ” ص23 شلي في الأدب العربي ، جيهان صفوت  أو ” الذاتية وعشق كل ما هو مثير ” ([2])  يعكس ما ذهبنا إليه سابقا .

  اختلفت نظرة الشعراء الى المكان/ المدينة  ، لكن النظر العامة اليها كانت نظرة نفور ، وتعددت أسباب هذا النفور تبعا لتعدد مواقف الشعراء منها ، فهي تارة من رموز الشر والخداع وتارة رمز الغواية والضياع ، سبب ما تتعرض له من تغير في بنيتها الاجتماعية نتيجة لدخول متغيرات خارجية عليها يجعلها على غير ما كانت عليه ، فحين ينظر الشاعر سعد علي مهدي إلى مدينته نجدها قد شكلت لديه بعدا آخر اذ تغيرت الحياة فيها ، وظهرت طبقات اجتماعية جديدة أدت إلى تعقيد الحياة الاجتماعية ،والذي لم يكن لذي قار عامة والناصرية خاصة عهدا بها ، اذ تغيرت من مجتمع بسيط إلى مجتمع معقد ، فظهرت الحيرة في نفس الشاعر والصرع بين قيمه القديمة والقيم الجديدة الحاضرة ، فبرز القلق لدى الشاعر منعكسا في أعماق ذاته التي لا تستطيع أن تتكيف مع واقعها ، فتحاول أن ترسم عالما خياليا أو تلجأ إلى الطبيعة ، يقول :

ماذا جرى لمدينتي ؟

تلك التي تغفو على نهر الفرات

كأنها عصفورة..

تعبت من الدوران والسفر الطويل

….

كانت خيول مدينتي تمشي فيسبقها الصهيل

والأمنيات تحيطها بعناية الرحمن

……..

ماذا أصاب مدينتي؟

كيف استطاع الرعب أن يلغي أنوثتها

لتخلع ثوبها الحضريّ

كي ترضى بأية خرقة شوهاء

يستر عيبها خيط ذليل

كيف استحال غناءها

 يركز الشاعر على وصف مدينته بأوصاف تظهر زهوها وازدهارها ، مستعملا أسلوب التجسيد عن طريق الاستعارة في رسم صورة المدينة ككائن حي يملك قدرة حركية جعلته يغفو على نهر الفرات ، ثم يصرح بذلك التشبيه ( كأنها عصفورة )  وتلك العصفورة بلغت مرحلة من الإجهاد الجسدي متمثلا بالدوران والسفر الطويل مما يجعلها تنام نوما عميقا ، كذلك هي مدينة الشاعر كانت تنام في أمن وسلام متربعة على أرض من الطمأنينة متمثلة بنهر الفرات الذي تداعب مياهه المتحركة ريش العصفورة منحتها الثقة والراحة ، إلا أن  النزعة الحزينة تداهم روح الشاعر فتدفعه للفرار للماضي حيث الفطرة التي لم تفسدها الحياة الجديدة ،  فيطرح مجموعة من الأسئلة ( ماذا جرى لمدينتي ) و ( ماذا أصاب مدينتي ) في فرق دلالي بين اللفظتين ( جرى و أصاب )  فأصل الفعل ( جرى ) من جرى الماء في الوديان أي انساب وسال ، في إشارة إلى التدرج في حدوث الأشياء بما تحمله من أحداث ، وهذا متناسب مع أحداث المقطع التي سرت بتدرج زمني معتاد لتلك المدينة الحية التي آلت إلى ذكريات ، أما لفظة ( أصاب )  فهي من أصاب السهم والهدف إذا أدركه ، وهو مايناسب حالة الرعب التي فرضت سيطرتها الكاملة على المدينة  لتدخلها في مرحلة الضياع بعد أن كانت رمزا للوقار ، فاخذ يبحث فيها عن أشياء غابت عن حياة المدينة، منها  شخصيات اتسمت بالطيبة ، كالفنان داخل حسن وهو من أصحاب الغناء الريفي ليبين نقيض المدينة والصراع الأزلي بينها وبين الريف ، واختار من أغانيه التي تتحدث عن مجافاة النوم نتيجة الحزن ، ثم يذكر معلما من معالم المدينة (سينما البطحاء ) ذلك المعلم الذي كانت تعرض فيه الأفلام بكل أنواعها لتشكل إيقونة لحضارة مدينة ،ثم يعود إلى رمز آخر من رموز المدينة وهي سيدة تدعى ( الست لندا) وهي قابلة مسيحية من أهالي بغداد قررت السكن في مدينة الشاعر ، تلك السيدة التي عرفت بالجمال وحب الشعر والطيبة ومساعدة الفقراء ، وحين يطرح سؤالا يبحث عنها يعني ضياع تلك القيم عن المدينة ، فيقول في نهاية نصه :

أين اختفت تلك المزارع .. والشوراع ..

والمقاهي المعلنات ضجيجها ليلا..

فيسمع عندها صوت لـ ( داخل )

يستغيث من الهوى

( يمه .. يمه .. مانمت ليلي)

أو زفة من ( سينما البطحاء ) معلنة

عن الفلم البديل

أين الوجوه..؟

وقد رأت في وجه ( ست لندا )

الأمومة .. والوداعة

إذ تقبل كل طفل جاء يبصر وجهها

جيلا .. فجيل ([3])

هذه الدهشة التي تدعو للتساؤل عن حال المدينة التي تغيرت بالسرعة غير المتوقعة لتخلع فيه ثوب الأنوثة واللطافة حين اجتاح الرعب أرجاءها مبدلا كل ملامحها المتحضرة ، مرتدية ثوب الاستسلام  والخوف والخذلان فوضوية المعالم . وقد اعتمد الشاعر على أسلوب بلاغي مميز يحث الفكر على التخييل صورة متحركة ومؤطرة تحكي انعكاس حال المدينة بهيأة امرأة بالغة الأنوثة والرقة والهيبة والوقار ، تهدم معالمها ضربة أضعفت قواها وأدخلتها دوامة الأسى في عالم بلا لون ، عالم عنوانه السواد وأصواته النعي المؤدي للموت . وكما لاحظنا أن الشاعر ركز على التحول الذي جمع تناقضات الحياة ، التحضر والجهل ، الوقار والاحتقار ، الكرامة والذل ، والغناء والنعي ، ليؤكد الحال التي آلت أليها الأمور ، ولعل حضور الصور الصوتية جاء لينقل  المشاعر والأحاسيس التي وظفها الشاعر في أسلوبه بصورة تجعل القارئ يسمع في ذهنه صوت ذلك البكاء المسبوق بالنعي ، والشديد على السمع وكأن كل تلك الصور والمتناقضات قد انفجرت في آن مكونة موجات صوتية مثقلة بالهموم تنعى شوارع المدينة .

على أنَّ الشاعر لا يهرب من الواقع بقدر ما هو طموح لرسم العالم الجديد الذي يرغب فيه ، عالم فسيح ينشد فيه الدعة والراحة ، عالم يخلو من الزيف والخداع ، لقد أثقلته الحياة وهمومها ، فترنم بجمال مدينته وما فيها من عادات وتقاليد ولكنها غابت عن الوجود.


[1] محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي ، د. محمد مندور ، معهد الدراسات العربية المالية ، القاهرة ، 1958

([2]) شلي في الأدب العربي،جيهان صفوت : 22

([3])الديوان : 90ـ 95

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.