التعليم بارومتر ذروة الحضارات أو أفولها
أ: سعاد بن طير
كان لعامل الثورة الصناعية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تشكيل محور تنافس الدول الإمبريالية نحو تطوير الصناعة العسكرية، وتعزيز جيوشها بأسلحة فتاكة عجلت في عمليات احتلال دول المشرق والمغرب العربيين والامتداد داخل أدغال إفريقيا.
تماشيا مع المخطط الاستعماري أعدت أيضا فرقا علمية استكشافية سارعت في التنقيب داخل تراب هذه الأوطان ، حيث تم العثور على معالم أثرية وشواهد مادية وكتابات و نقوش و مخطوطات وأدوات معدنية و فخارية مختلفة وغيرها للحضارات القديمة إلى جانب التراث الإسلامي المترامي الأطراف من أسيا إلى المغرب الكبير وصولا إلى الأندلس ألهمت العديد من العلماء والمفكرين المختصين، انبثقت إثرها مدارس علمية ومناهج أكاديمية سواء في العلوم الإنسانية والاجتماعية كمدرسة الحوليات الفرنسية أو المدرسة التحليلية النقدية الألمانية إلى جانب مدارس أخرى أنشئت بمقتضاها مخابر لدراسة وفهم خصائص تلك الحضارات وعبقرية إنجازاتها، منها ما هدم من قبل الجيوش و منها ما نقل إلى المتاحف بأوروبا وأمريكا.
صدر عام 1922م كتابا في جزئه الثاني للفيلسوف الألماني أوزفالد سبينغلر Oswald Spengler (1880م-1936م) بعنوان ” سقوط الغرب” Le Déclin de l’Occident
وقد قام بترجمته إلى اللغة الفرنسية الفيلسوف الكاتب والمترجم الجزائري محند تزروت Mohand Tazrout(1893م-1973م)، هذا الكتاب أحدث هلعا كبيرا في أوساط السياسيين والحكام الأوروبيين الذين شعروا بمغبة الاندثار حيث تناول الكاتب دراسة تحليلية تاريخية للسياسة الاقتصادية والسياسة والعلوم والرياضيات والفنون البلاستيكية والموسيقى من منطلق ازدهارها واضمحلالها، هذا ما جعل المنظرون الأوروبيون يستغلون كل الوسائل بغية الاستحواذ على الهيمنة، وأولها تمويل وتشجيع التعليم وانتقاء ثلة من الطلبة الباحثين المميزين المنتشرين في المدارس والمعاهد العليا ولا يمكننا ذكر هذه السياسة التعليمية بمنأى عما استشفه هؤلاء من الحضارات السابقة، كذكرنا للمدرسة التي أولت اهتمامها بالنظريات والقوانين التي سنها ابن خلدون والتي أوجزوها في ترجمة كتابه وجعلوها “مقدمة بن خلدون” الذي تطرق إلى الدورة الحياتية للحضارة بمعرفة العلة والمعلول وقد سن مبدأ السببية وشاطره في ذلك المؤرخ الديبلوماسي البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee (1889م-1975م) صدر عن هذا الأخير مجموعة من التحليلات في اثنا عشرة مجلدا عن النسق العالمية للتصاعد والازدهار والأفول إذ أن الحضارات حسب تحليله لا تسقط بل تنتحر، لأن العلة والمعلول مثلها مثل المرض ولإيجاد الدواء للمرض يجب البحث عن أسبابه عن طريق تمحيص العوارض بمعنى ملاحظة الحمى عند المريض ليست بمرض بل بأحد عوارض المرض ولاستئصاله أولا يتم خفض ارتفاع الحرارة ثم البحث عن مصدرها، كذلك الوضع عند الأزمات وتراجع مستويات تنامي المجالات العلمية والاقتصادية إذا ما وجد شرخا في الشبكة الاجتماعية هنا يجب التعامل بعنصرين هامين لمبدأ السببية لتمحيص المتغيرات الثابتة والمتغيرات المتجددة بإلقاء سؤالين: لماذا؟ و كيف ؟
le pourquoi ? Et le comment ? ، هذا المنهج يؤدي حتما إلى التعرف عن ماهية الأشياء. كان البحث فيما مضى يحث الطالب طلب العلم و المعارف من مشارق البلاد ومغاربها للظفر بالمبتغى المنشود من خلال الرحلات الطويلة ما كانت مشيا على الأقدام أسفر عنها انفتاح العقل بالتعرف على شعوب أخرى و ثقافات مختلفة و بالتالي إيديولوجيات متنوعة ، قد تجسد هذا المنهج التطبيقي في الحضارة العربية الإسلامية التي عمرت طويلا لحين أفولها لأسباب سياسية و اقتصادية و عسكرية واجتماعية صبت في وعاء تراجع الوثيرة التعليمية و كانت فرصة ثمينة لمن تقلد زمام التطور العلمي لينقض عليها.
مع تعاقب الأزمنة و ظهور مساعي للتحرر من قيود الاستعمار واسترجاع الهوية والسيادة القومية بمصطلح الوطنية عن طريق الصحوة للضمير الجماعي تبينت رؤى جديدة مواكبة لرواج فكرة الشعور بالانتماء لوطن من الواجب العمل لتحريره والسعي لإعادة بنائه والالتحاق بالركب الحضاري المبدع ، لنرى تجربة ماليزيا وكوريا الجنوبية في الخروج من أزمات خانقة إلى الانفراج المزدهر الأفق بتلاحم العلاقة بين السياسات التعليمية و المؤسسات التعليمية و الشبكة الاجتماعية إذ هي بمثابة ظاهرة التنافذ Le Phénomène d’Osmose الأقل تأثيرا ينجرف للأكثر تأثيرا؛ فالتجارب التاريخية ومبدأ السببية لأبن خلدون أظهرت أنه إذا ما توفرت نفس الأسباب بنفس المتغيرات قد تؤدي حتما لنفس النتائج ولتجنب الوقوع فيها لا بد من دراسة دقيقة لكل الاحتمالات القريبة في بعدها المستقبلي، و من شروط النهضة إعادة النظر في المعايير وتناسبها مع الأوضاع لتكن المعادلة كالآتي:
الثقة بالله + تطوير الذات+ الشعور بالانتماء وحب الوطن+ روح المنافسة الشريفة+ تزكية الإبداع = الحضارة = الإرادة السياسية والمجتمع الواعي خيار أمام أفول ام ذروة الحضارة… |
فإذا كان العلم هو الهدف المسطر؛ فإن التعليم بالمقاييس الصحيحة السليمة هو الأرضية الصلبة التي يوضع عليها أساس العلم.