افتتاحية العدد (1) من مجلة توازن للدراسات الحضارية والتنموية والاستراتيجية
بقلم رئيس التحرير: د. جمال الهاشمي
مرت المجتمعات البشرية بعدة تحولات تاريخية ومن خلالها انتقلت مراكز الحضارات على الساحات الجغرافية، وكل حضارة شكلت فيها قيما ومفاهيما وثقافات أسهمت في صياغة الأفكار والتصورات والسياسات والطبقات والسلوكيات وأنماط العلاقات داخل المجتمع الواحد وعلاقته بالمجتمعات الأخرى. وخلال تلك المحطات المتحولة كانت الحاجة للأمن والاستقرار والرفاه من متطلبات المجتمعات التي كانت غالبا ما تؤصل لتلك المقاربات النفعية وتترجمها إلى الواقع بعد سلسلة من الصراعات والعنف والإرهاب داخل المجتمع الواحد، أو بينه وبين المجتمعات الأخرى، وخلال فترات السلم تسعى كل حضارة لصناعة النموذج الذاتي لتأخذ به صدارة الأحادية العالمية، أو أن تكون أحد مراكز القوى الحضارية التنافسية مع حضارات أخرى، وغالبا ما يتخللها فرض القوة، بينما تنتهج السياسات الناعمة إذا كانت ضمن مراكز قوى متعددة تعمل من خلال وسائلها الاقتصادية والثقافية على توسيع دائرة نفوذها الثقافي في الدول القابلة للاستهلاك الثقافي.
والظاهر من التحولات التاريخية أن المفاهيم الإيجابية للمقاربات الحضارية غالبا ما كانت تندمج في علاقات تعاونية مع القيم السائدة، بينما كانت المفاهيم السلبية المتولدة عن الصراعات الاجتماعية تتعارض مع القيم الدينية، مع أنه في كليهما تأخذ القيم الدينية موقع الصدارة عبر التاريخ الإنساني، وكل قيمة جغرافية تجعل من خصوصياتها الذاتية أهم معالمها الحضارية في القوانين والسلوك والأفكار والقيم الحاكمة، ومعيارا حاكما للعالمية باستثناء بعض الديانات الأصولية.
ولم تخرج أوروبا من عصورها الوسطى إلا بعد أن تكاملت الأفكار الدينية مع العقل الفلسفي، وأصبح العقل معيارا لتصحيح ونقد المدونات الكنسية أو معيار للاجتهاد فيها، مما دفع المعتقدات التجديدية نحو العودة إلى أصول المقدس الأولى، وذلك بالرجوع الى التوراة والتفسيرات الحرفية للإنجيل، ولتفادي النقد الفلسفي تخلت عن المقولات البابوية والمؤلفات التفسيرية للمقدس كونها من التاريخ الإنساني المدون لا تصل إلى رتبة المقدس، وسعت لإعادة اعتبار المقدس بالأصل الأول الذي نشأت عنه تلك المقولات المخالفة في المدونات الإنسانية.
فالحضارات في طبيعتها بنوية إنسانية غير مقدسة أنشأتها الحاجة الإنسانية في مواجهة الطبيعة أو استثمارها ومن خلالها تطورت الثقافة الناشئة كبنية تابعة للتطور الحضاري كالثقافة الاستهلاكية العالمية التي انتقلت عبر العولمة الى العالم المعاصر، أو ثقافة الأمركة السائدة كمنتوج للحضارة الأمريكية المعاصرة، كالصيننة التي تعتبر من الثقافات المعاصرة الوليدة للعمق الصيني القيمي المنافس للثقافة الأمريكية الاستهلاكية.
أما الديمقراطية فقد كانت الوجه الآخر للحضارة وأحد وسائل الخبرة الإنسانية لمعالجة ظاهرة الصراع على النفوذ والسلطة، ومن ثم برزت كمعلم حضاري جديد انتقلت إلى العلم عبر وسائل الاتصال التي انتجتها الحضارة الأوربية التقدمية.
ولا إشكال فيما يتعلق بهذا التكامل الحضاري بين الأمم وإنما هناك إشكاليات فرضتها الهيمنة السياسية التي تقوم على احتكار جغرافية العالم والثروات البشرية لمصالحها وتحويلها النموذج الحضاري إلى أحد المسلمات التي يمكن اخضاعها للتطوير والنقد والمسائلة أو محاكماتها بخصوصيات أخرى، مما أفقد القيمة الحضارية عقليتها الاجتهادية.
فإذا كانت الفلسفة السياسية الغربية قد تمكنت من إلغاء فكرة التعصب الديني في النصف الثاني من القرن العشرين بعد الحروب العالمية الدامية بين القوميات الأوربية والفاشيستية وكذلك الصراع الديني والصراع بين مفهوم الحضارة الفرنسية والثقافة الألمانية وسعي كل فريق للفصل بينهما و أشكل على الباحثين التمييز الدقيق بينهما‘ بينما تمكنت أمريكا من الجمع بينهما وصناعة النموذج الأمريكي الغربي وبناء عليها اخضعت مفهومي الحضارة وثقافتها الأوربية بعد سلسلة من حروبها الأهلية للخصوصية الأمريكية التي تختلف عن النماذج الحضارية الأوربية الأخرى من هذا الجانب المتعلق بالبيئة والخصوصية.
ومن ثم ساهمت في تشكيل الفكر المتسامح مع الإنسان كإنسان وألغت فكرة الوصاية الدينية الأحادية وكرست ثقافة الاندماج الاختياري داخل مجتمعاتها وفتحت حريات التدين ودافعت عن الليبرالية الأمريكية وبذلك فارقت أوروبا التي ترفض الدين وتقصيه عن الحياة الاجتماعية والسياسية تماما، مع بقاء الإطار الكلي للحضارة والتي تختلف باختلاف القيم السائدة للحضارات كالصينية واليابانية والهندية وغيرها من الحضارات التقدمية التي استطاعت توظيف النموذج الحضاري الإنساني العالمي وشكلته وفقا لقيمها وأخرجت ثقافات حضارية متنوعة.
فالجمهورية والملكية والخلافة والإمبراطورية والإمامة والإمارة كلها أنظمة حضارية إدارية ليس لها صفة دينية أو صبغة عقائدية وإنما هي حاجة ابتدعتها التجارب الإنسانية في التاريخ لخدمة المجتمعات والدول والحاجة الإنسانية.
ومن ثم اندمجت بعض الديانات في الجمهورية والملكية القائمة في أوروبا لتواكب الحاجة المادية بينما انطوت بعض منها على نفسها مؤكدة على التصادم بين الحضارة والدين، ومن ثم تطورت عنها جماعة ترى الدين والعلم يتناقضان وفي الوقت ذاته وظف الدين توظيفا سياسيا.
أما في مجتمعات الشرق الأوسط فقد برزت المعتقدات الدينية ليس في صناعة الطوائف والتطرف والعنف بين المعتقدات الأخرى فحسب، وإنما وجهت سياسيا واستخدمت كأداة مطلقة للإطاحة بالسلطة أو لقمع المعارضة أو لإعلان الحروب القومية من منطلق أيدولوجيات وضعها الطبقيون والسياسيون في إطار العقيدة؛ ورغم انتشار الفكر الفلسفي عالميا، إلا أن تميزه في أوروبا عن المعتقدات الدينية كان واضحا بينما اندماجه حتى التماهي في معتقدات ومنظورات إسلامية أكسبها الفكر الثيوقراطي أو الانفتاح الحضاري الشامل دون قراءة للخصوصيات النفسية والشعبية والجغرافية وبعضها تجاوزت المنظور الإسلامي إلى التاريخية الماقبلية.
على العكس من أوروبا التي جمعت بين تجريدات الفلسفات القديمة وجمود الاعتقاد الفلسفي أو التحول البطيء نحو الفكر الغربي بآليات العنف التي كانت أول ارهاصات الصراع الديني الديني، والقومي القومي في أوروبا، ومن ثم أخذت بعضها بالعقل المتطور للحضارة البيئية تاركة الدين خصوصية فردية، بينما تماهت بعض المعتقدات كالبروتستانتية في السلطة السياسية واستخدمت كأداة عملية لصناعة الحضارة وتدوير المجتمعات وإدارات العلاقات الدولية.
وكانت هذه البداية قد أخرجها فلاسفة التاريخ لصناعة النهضة بالنقد والتحقيق ومحاكمة القيم الدينية والفلسفية التي راكمها التاريخ وأعطاها صفة المقدس قبل أن تتعرض الكنيسة والديانات لهجوم العقل الفلسفي والمنطقي العلمي القائم على المصلحة والتجريب والعلم المناقض لأساطير الديانات التي ذهب ضحيتها أكثر علماء أوروبا الطبيعيين الذين كان منهم فلاسفة خرجوا من الكنيسة وتمردوا عليها. وكانت بداية عهد نهضوي لإبراز نخب جديدة رفضت الجمود الديني وقيوده التاريخية الموروثة الرافضة للتطور بفكر علماني يرفض الأديان ويحيدها أو يحترمها ويفر منها.
وقفت الدراسة على التحولات التاريخية وتطور الفكر الإنساني من جهة والصراع على القيم والأفكار والسلطة والثروة من جهة أخرى وتبين أن الأنساق الفلسفية والدينية ومنظوماتها الفكرية تلتقي كثيرا وتتباين أحيانا وقد تتماهي تماهيا كليا، وتؤطر للواقع وفقا لواقعه وضروراته وغالبا ما تتصادم معه؛ فالأديان التي دخلت في صراع مع الفلسفة والأفكار السياسية تحالفت معها وأعادت صياغتها بمنظور إيماني جديد أكد على شرعية العادات والتقاليد السياسية والنظريات الفلسفية ودمجت ذلك في مدوناتها التاريخية المقدسة، أو الآراء الدينية التي أعادت تأصيل المنظور الايماني بناء على الرأي والمصالح المتوافقة والمتصالحة مع الذات.
وتبين للدراسة أن إشكالية التاريخ والمنهج أضعف لغة الحوار وعرقل مسيرة القربى المفاهيمية والفكرية بين المعتقدات الدينية لتنوع مناهجها ومنظورتها الفلسفية كما أن الفلسفة ارتبطت بتحولات السلطة السياسية وكانت لها محطات حضارية وإنسانية ومسيرات تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية غيرت أنماطها وغيرت رؤى المعتقدات الدينية المتزامنة معها.
وبينما التقى البعد الديني مع الفكر الفلسفي إلا أن الصراع الديني بين اليهودية والمسيحية استمر عبر التاريخ حتى التاريخ المعاصر ومن ثم حاولت كل الديانات السماوية بما فيها المعتقدات داخل الإسلام أن تكون يد السلطان على المعتقدات الأخرى، وكلمة الله في تحديد مصير الحضارة. وتعرضت الشعائر الدينية للمعايير الحضارية، وشكلوا نظاما جديدا في صراع اللوغوس أو صراع الكلمات بين ثنيوية التمييز محور الشر ومحور الخير.
ومن ثم تتباين المعتقدات مع الفلسفات إذ تارة تميل إلى الصراع واستخدام القوة وفقا لمبادئ الفلسفة الطبيعية، وتارة تقوم على أنسنة المعتقدات، وكل تلك التقلبات تؤكد تباين العلاقة الفلسفية المتماهية داخل المعتقدات إلا أن البعد الغيبي في الرؤية الشمولية للمعتقدات أورثت عنف الأديان والمعتقدات الدينية بينما تقاربت مع الفكر الفلسفي. وفي المقابل يتوافق الفكر الفلسفي مع الأديان القريبة معه على نسق القيم الفلسفية ويستخدم العنف مع المعتقدات المخالفة وإن كانت صحيحة.
ومن ثم فإن محور العدد الأول يتناول قضية التحولات العقائدية في التاريخية من السلم والبناء والحضارة إلى العنف والارهاب والمعتقدات السياسية والعكس كذلك. ويركز العدد على الكيفية الفلسفية والاقتصادية والسياسية والدينية التي حددت ملامح الصراع العالمي حول قضايا متعلقة بالسياسة والارهاب وحروب المجتمعات والحروب الحضارية.