لا رأي لمن لا يطاع ..

العداوة السياسية تزول بالمصالحة والمصالح المشتركة ..

1 23

 

د. جمال الهاشمي 

بهذه العبارة نعى الإمام علي ابن أبي طالب نفسه وودعها واستودعها بعد تسعين وقعة استمرت مائة وعشرة أيام  قضاها في صفين؛ مدينة الرقة المعاصرة.

بهذه العبارة اقتضب التجارب واختزلها بعد ما يزيد على التضحية بمائة ألف من الضحايا من رؤوس الناس والصحابة والتابعين والعامة.

بهذه العبارة وصف هشاشة النظام السياسي للدولة الإسلامية وهو يرى أفول نجمها بعد تجارب خاضها لتصحيح مفهوم القيادة والعقائد والعامة ..

بهذه العبارة  أشار إلى فوضوية المعتقدات وانحرافها عن الأصول الكلية التي شُيدت بها دولة إسلامية حررتها من صراعات الوثنية والعبودية والقبلية والنزعات العصبية.

بهذه العبارة أدرك عبثية المجتمعات وانحطاطها  وعبوديتها للمنافع الشخصية والمصالح المادية.

بهذه العبارة ودع الخلافة الراشدة والدولة العدالة وقيمها النبوية وخلافتها الراشدة ولم يمض بعد على زمن التأسيس ثلاثين عاما وفقا للأحاديث النبوية.

بهذه العبارة تنبأ بالتوظيف السياسي للدين والصراعات العقائدية وانشطار المجتمعات إلى دول عقدية متفرقة لم يدرك حينها أنها في عصرنا هذا تحولت إلى قطريات جهوية وثنية بوطنية لا قيمة فيها للمواطن ولا للإنسانية.

وبهذه العبارة أدرك واقعه السياسي والمجتمعي والعقائدي وأدرك أن مشاريع تجديد بناء الدولة لم يعد ممكنا  لأن الفرد فيها لم يعد عدلا ولم تعد فيها المجتمعات عادلة.

وبهذه العبارة ادرك أن رفع المصاحف أسلوب سياسي من أساليب كسب المعركة لتدارك الهزيمة العسكرية، وأن الدين سيكون مطية الدنيا والحكم والدماء والظلم والاستغلال والعبودية وليس حاكما لها.

وبهذه العبارة أدرك  أن دور المعتقدات في عسكرة المجتمعات المؤمنة إنما يكون بجهلها المعرفي وعاطفتها الإيمانية على الطريقة الفرعونية..

بهذه الطريقة أدرك أن الفسق والإيمان من أدوات استعباد المجتمعات فبالأول تدار بها نفوس المجتمعات المنحطة من أجل متعة الجسد وأهوا ء النفوس ، والثانية تدار بها نفوس المجتمعات الجاهلة بلذة المعاناة واحتياجات الروح.

بهذه العبارة أدرك أن القيادات المتعددة و تعدد النفوذ تحت قيادة واحدة مفسدة مطلقة تضر بالدنيا والدين والأمن والسلام والتنمية..

بهذه العبارة أدرك أن القوة والنجاح بالتنظيم والعدل وليس بالتعبئة والكثرة، وأن الكثير هو الفوضى وليس النفير.

بهذه العبارة أدرك أن العامة مطية الهوى والمنى والخداع وأن جهلها واختلال معارفها كفيل بانقيادها أو تدميرها وإضعافها أو استئصالها.

بهذه العبارة أدرك أن  النهايات ببدايتها و أن ما لا أس له لا أساس له وأن المجتمعات الصالحة والفرد الصالح أس لأساس القيادة الصالحة..

ومن خلال النتائج نستخلص بداية النهاية . ونهاية البداية..

أولا: بداية التحكيم وخلل التكوين والتنظيم.

بدأت إرهاصات تقويض الشرعية السياسية من داخل الخلافة الراشدة ومن أنصارها،  فبعد أن أخذ أجبر على البيعة ليكون حاكما، كانت هناك جماعة شاركت في تنصيبه بعد مقتل عثمان بن عفان، فالذين قتلوا الأول شاركوا في تنصبه للحكم، وقد ذهبوا  قبل إكراهه على البيعة إلى طلحة والزبير، ولم يكن عليا إلا الخيار الأخير.

شارك أهل الحل والعقد في البيعة من أجل إعادة ضبط المجتمع المدني والدول الإسلامية ورتق ما انفرط من عقد الأمة، ولكن مقتل عثمان كان أساس فرقة الصحابة، ولم يدرك الصحابة بأساليب الشعوبية في تغير النظم السياسية الذي لن يكون إلا بثورات مجتمعية ، ولن تتحقق الثورات العقائدية إلا من خلال التوظيف الديني، وتوظيف المظلوميات الإنسانية، وبقدر ما تمسك أنصار عثمان بمظلوميته ، الذي دفع دمه حصنا لوحدة المجتمعات وتماسكها، ساهم أنصاره في التضحية بالمجتمعات ومجتمع الصحابة وخيار هذه الأمة، وهو ما أدى إلى اصطياد أهل بدر من صحابة رسول الله في هذه المعارك ابتداء بالزبير وطلحة وانتهاء بعمار بن ياسر، وبقدر ما سعى الحسن بالمصالحة للحفاظ على وحدة المجتمعات وتماسكها استدعى أستدرك أنصاره أخيه الحسين ليصنعوا به مظلومية أخرى كمظلومية عثمان لتوسيع رقعة الصراعات المجتمعية وتمزيقها، وقد أدرك زين العابدين ومحمد النفس الزكية خطورة المظلومية فاعتزلوا السياسة واتسعت فيهم مساحات العفو لحفظ ما تبقى من مجتمعات العالم الإسلامي والمدينة المنورة، وإن التاريخ يتجدد في كل عصر برموز صالحة في الأمة يستغلها الغلواء من أصحاب المصالح والمنافع الشخصية.

بدأت القصة بأنصار علي الذين بايعوه على الخلافة وأسقطوا خلافته قبل بداية التحكيم وخاطبوه بالاسم مجردا عن لقبه “يا علي اقبل التحكيم” ولسان حالهم نحن الذين وليناك ونحن الذين نصرناك ونحن الذين قتلناك،  وهم بذلك كانوا يبحثون عن شرعية ظاهرة تدار بمؤسسات خفية، وأن عليا الذي أخرجوه من المدينة إلى الكوفة سيكون أداتهم وإن لم يكن قتلوه..

في بداية التحكيم أكره القائد لقرارات التابعين ، أو سفلة الأتباع من أنصاره بقبول التحكيم فنزل على أمرهم حماية للثلث من المخلصين بعد فناء الربع منهم، وهم الذين عارضوا بنود التحكيم ، وهم قتلة ذريته لكنهم استبدلوا  ولاء المناصرة والنصرة بولاء العداوة والمكيدة، واستظلوا تحت سلطة دولة بني أمية التي تأسست بمؤتمر المصالحة الحسنية، وبذلك مكنتهم الدولة السفيانية من استغلال شرعيتها وانتهت نصرتهم بزوالها وبغض الناس لها  وانتقالها إلى البيت المرواني.

إن الحسن أدرك أن أنصاره أو النافذين فيه من أعداء الدولة المجتمعات المسلمة، وأن المصالحة ستقضي على الصراع الاجتماعي، وبذلك فوت أي شرعية يستظل تحتها أعداء المجتمعات ومثيري الفوضوية.

في هذه اللحظة انتقل أنصار علي والحسن للعمل مع رأس الدولة الأموية “يزيد بن معاوية” ليس حبا في يزيد كما أنهم كانوا مع الحسن وعلي ليس حبا لهما، وإنما لتدمير أسس الدولة الإسلامية من داخلها، وأن قتل الحسين ليس دفاعا عن يزيد وإنما أداة لتدمير المجتمعات الإسلامية وهو ما أدى إلى صراعات دموية أخرى ساهمت في تشكيل دولة بني أمية والقضاء على المعرفة النبوية باستحلال ما تبقى من صحابة رسول الله في موقعة الحرة واستباحة مكة.

ومن نتائج بدايات التحكيم تمرد ثلاثة أرباع الجيش عن الطاعة، وهو ما يعني لا قداسة للصحبة وللقربى النبوية ولا للعلم الذي يحمله أبو الحسن.

 

ما بعد إجراءات التحكيم ..

بعد أن أصر الجيش على قبول التحكيم والتفويض المطلق للمحكمة، عارضوا نتائج الحكم وطالبوا عليا بالرفض أو أن يصفوه بأمير الكافرين،  والوفاء بالعقود من المقدسات القرآنية ومن المواثيق الغليظة التي شكلت شخصية المسلم الأول..

مما يعني أن حملة القرآن تعمدوا تفكيك القيم المجتمعية والسياسية بتدمير أهم محدداتها السلمية، مما أدى إلى فقدان الثقة ونقض العهود والمواثيق في الثقافة العامة، وقد دفع عليا ثمنا لهذا المبدأ أن قتلوه مستحلين دمه بأنه أمير الكافرين وهو تكفير له ولمن تبعه، تكفير عام ومطلق، وهو أول صيغ التكفير المعاصرة التي تكفر المعتقدات بالجملة ..

 

وترتب على التكفير الخروج عن النصرة وتفكك التنظيم العسكري  أو إضعافه كانسحاب المنافقين في معركة بدار والذين خرجوا مع النبي صل الله عليه وسلم ليس لنصرته وإنما لتقسيم المسلمين وإضعافهم، وكان مبرر قولهم أن محمدا لم يأخذ بمشورتنا.

استغلال الشعارات الدينية.   لا حكم إلا لله ، وهذا الشعار هو أساس تعدد العقائد الإسلامية وتفرخها، البعض منها دمر أصولا  كلية وبنى  أصوليته الفكرية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبعض منهم بناءه على الاعتزال والانشغال بالنفس عن إصلاح المجتمع.. وكل عقيدة فيها من العنف خارج أطر القانون الدولة هي من منتجات الحاكمية..

 

النتائج العملية بعد التحكيم

التكفير ، تكفير  علي بن أبي طالب والصحابة وعامة المسلمين والغاية منه تدمير البنية المعرفية والمرجعية الدينية والأصول الكلية.

العنف الثوري .. منهجة الاغتيال السياسي لرموز النظام السياسي في الدولة  وعلماء الأمة  وهو إسقاط لقداسة الصحبة والمعرف الدينية.

عسكرة المجتمعات  تحت شعارات الحاكمية  والغاية منه تدمير المجتمعات ببعضها من أجل إضعاف أي من مشاريع التنمية ويقاس على ذلك الجهاد بالمجتمعات في معارك خاسرة تحت مظلة الجهاد والدين وصكوك الشهادة التي تبرر العنف من أجل تدمير منظومة الأمن الإنساني وأمن المجتمعات الإسلامية.

ممارسة العنف الثوري ضد المجتمعات السلمية أو المحايدة  وهو ما يعرف بالعقاب الجماعي للمجتمعات تحت شعار إن لم تكن معنا فأنت علينا.

تجهيل المجتمعات وتديينها بالخرافة والعنف، وينشأ بالعنف المسلح ، وما يتناقض مع مبدأ التضحية بالذات من أجل وحدة المجتمع، اهتداء بعثمان وعلي والحسن والحسين وزين العابدين، وانضباطا بتوجيه النبوة “كن كابن آدم” “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني …”

اغتيال الخليفة في محرابه ورفع القداسة عن حرمة المساجد .. والتي انتهت باستحلال المدينة و البيت الحرام.

اغتيال عشيرته وذريته من قبل أنصاره وأتباعه وهو وسيلة وسائل صنع الذاكرة السوداء لمجتمعات الإسلام وتفكيكا لوحدتها.

التوظيف السياسي للعرق  والمظلومية بعد مقتل الحسين ، وهو توظيف ديني متجدد، وما يزال الصراع المسيحي تحت مظلة الصليب إلا واحدة من أهم أدوات الصراع العرقي وصراع المظلومية المقدسة..

البناء الفكري لعقيدة الخروج والتكفير  وهو ما أدى تعدد فرقها وتفرقها بعد أن كانت واحدة منسجمة  ضحى كل رموزها من أجل وحدتها، وما يزال الوعي الجماهيري  ينقاد لعواطفه التي تحجب الوعي عن عقله وعدله.

البناء الفكري لمعتقدات المظلومية وآل البيت  وهو تطور سياسي إنساني من أهم أدوات التوظيف العرقي للقيم الإنسانية.

البناء الفكري لمعتقدات الناصبية والعداء لآل البيت .. وهو تطور سياسي زرع نشأ من داخل أنصار البيت العلوي وقتلته، وما يزال هذه المفهوم يجري في معتقدات الجهل والانفتاح معا.

الصراع المزمن على السلطة ..وهو صراع يغذى بتوظيف العرقيات والدين والأقليات وقد وجد في القرن الإسلامي الأول قبل أن يتحول إلى قومية بدأت من الحجاز بدعوى هاشمية وانتهت بدعوات الهويات الجغرافية والقبلية وقطرية المواطنة.

الفوضوية المجتمعية.. وهذه الفوضوية من ثمار تطور الفكر مجردا عن الأصول الإنسانية .

الفوضوية العقائدية ..وهذه الفوضوية من ثمار تطور الفكر المجرد عن الأصول الإسلامية.

الفوضوية السياسية.. وهذه الفوضوية من ثمار تطور الفكر السياسي المجرد عن المسؤولية السلطوية.

خلاصة فوائد :

العداوة بالعقيدة لا تزول إلا بضبط العقيدة وتصحيحها بالأصول الكلية..

العداوة السياسية تزول بالمصالحة والمصالح المشتركة ..

التكيف العقائدي من مؤشرات العقائد المتطرفة والأهواء المتبعة  ولا خروج منها إلا بمنهجيتي الاختلاف والانفتاح والخصوصية والحوار.

التصلب العقائدي من صفات المقلدة والعامة والعوام ولا خروج منها إلا بالتزكية وتنمية الثقافة الإنسانية.

الثبات العقائدي من مؤشرات الوعي المنهجي ..

الفرق بين الثبات والتصلب والتكيف  أن الأول من صفات المجتهدين ويقود المجتمعات إلى التنوير  والرحمة العالمية ، والثاني من صفات المتاجرين ويقود إلى الصراع السياسي وتحريف الأصول الكلية،  والثالث من صفات الجاهلين ويقود إلى فساد مصالح الدين والدنيا والمصالح الإنسانية ..

 

تعليق 1
  1. د. مرسلينا شعبان حسن يقول

    مقال موحي بلغته السهلة الممتنعة الوافية لاغراض معالجة الموضوع، العبرة الاهم ان ازمتنا في الفقه المعاصر مماثلة لازمتنا في البحث العلمي والمرجعيات العلمية
    حيث لم يعد هناك من قيمة عليا للرموز والثوابت باتت متحولات .. وبتنا في مرجعيات مؤقتة مما يجعل الفكر هشا منفعي للوقت الحالي وكأننا أمام فكر وفقه نزوي تحركه المصالح والغايات الضيقة..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.