الفقه المعاصر بين التراث وتحديات الواقع
د. جمال الهاشمي
تحدثنا في المقال السابق عن المستجدات النظرية لعلم أصول الفقه، والذي ظهر لظروف معينة منها أن العرب بالإسلام خرجوا من العزلة إلى العالمية، وأن الثقافة العربية المجتمعية أخذت طريقها نحو السيادة والتأثير العالمي، وفي المقابل دخلت الثقافة السياسية العربية في حوارات فكرية متعددة مع الثقافات الأخرى، وصاحبتها صراعات سياسية وعسكرية حولت الحوار إلى صراع ثقافي – اجتماعي ، ونحت الصراعات القومية والدينية والعرقية المعاصرة منحا مؤسسيا تحت مظلة الدولة المعاصرة، ورسمت الحدود البينية بين الدول الحديثة وانخرطت تحت مظلة القانون الدولي والمؤسسات الدولية المعاصرة، وترتب على مفهوم الدولة الحديثة قطع أواصر التواصل الاجتماعي والجيني والجغرافي بما فيها من جغرافيات متداخلة ومشتركة، وترتب على خصخصة الجغرافيا والحكم خصخصة الدين الإسلامي، وتحول من دين إنساني عالمي إلى أديان عرقية وجهوية وعقائدية وفلسفية تتناقض في الفروع فتعوق الفروق قواسمها الكلية المشتركة، وغدت الفروع مدخلا للكليات مخالفة بذلك الكليات التي نشأت وتأسست عليها الفروع.
وهكذا نشأت المعتقدات الدينية القومية الفرعية منفصلة عن أصولها الدينية الأولى، وتقاربت هذه المعتقدات مع الثقافات الدينية القديمة في كونها أعرافا حضارية قومية خالفت بذلك المفاهيم الإنسانية الكلية لأن المعتقد الناشئ من عقل الإنسان دون أصوليات يبني عليها يزيد من صناعة التطرف والعنف بين المجتمعات المختلفة وداخلها، وقد تحولت نظرية الإسلام مع أنظمة الحكم الرجعية (العسكرية) من المفهوم الإنساني الذي ضبط الصراع المنهجي مع إمبراطوريتي الروم والفرس ، والذي ترتب عليه تداخل ثقافي أدى إلى إحداث تحولات عالمية خدمت الإنسانية، إلى المفهوم القومي وصنائعه الاستبدادية التي غيرت معالم الإنسانية وضوابطها وحدودها، وهو ما أدى تخلف العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط تخلفا إنسانيا وأخلاقيا وترتب عليها نشأة الأنظمة الاستبدادية بكل صورها الدينية والقومية والحزبية والسياسية.
وانخرطت المجتمعات في هذه المجاري الملوثة تاركة ينابيعها الأصولية الثابتة، وعممت الخصوصيات بطفرة من الجينات النخرة في مجتمعات العالم العربي الإنسانية، وبدأت اليوم أنسابا على الساحة تهيمن على الفكر الاجتماعي، وارتبطت هذه الأنساب بالجنسية والدولة، وهو تطور ديني تطور في تصنيفات المعتقدات والمذاهب الفقهية.
لأن الغاية من التصنيف هو بناء الحكم المسبق دون محاكمة، والشهادة دون بينه، فأدى إلى تغييب العدالة الأخلاقية والموضوعية في بناء الحكم الشرعي أولا، والمقاربة الإنسانية ثانيا.
كانت الثقافة السياسية متحددة الأصول الكلية للإسلام، بينما كانت الثقافة الاجتماعية متحددة بالاتباع والتقليد الواعي، ومن هنا جاء مصطلح التابعين، إذ كانت مساحة التعاليم الإسلامية مبنية على النص، والنص قائم على الإسناد، وشهادة عدلين، وما لم يرد فيه حكم أو نص شرعي كان العرف والعادة المضطردة تتعاطى مع خصوصيات الواقع، وكان الاستصحاب والقياس يقارب الظواهر الكلية بالنص.
ومع هذا لم يكن النص مستقلا بذاته، فقد كان منضبط باستعمالاته وقد أطر منهجية الاستعمال العرفي الإمام مالك، وأصل الإمام الشافعي للاستعمال اللغوي وقاربه بالنص وتوسعت معه مفاهيم الواقع، وهو ما أخرج الاستعمال عن الآراء النظرية التي أصبحت بعد ذلك تنافس الاستعمال المنهجي، وأخرج لغة المعاجم عن استعمالات اللغة، فأصبحت المعاجم اللغوية مشاعة في عصرنا دون ضابطي الاستعمال العرفي والاستعمال المقارب.
ومن جهة أخرى كان العقل منضبط بالأصول الكلية مع النعمان في العراق، وهي الأصول التي توسعت معها المفاهيم الواقعية بمحددات المصلحة، ومن ثم كان للعقل ضوابطه المنهجية والأخلاقية.
أما الإجماع فقد تنوع إلى إجماع متفق عليه، وتلاه في الرتبة الأغلبية المطلقة وهو ما يعرف بالجمهور، ومع هذا شذت عنه بعض الاجتهادات، وقولنا الاجتهاد يتبادر إلى الذهن الطرائق المنهجية الخاصة في النص و طرائق فهم الواقع بصنائع العقل، وتتحدد بالدليل وهو الذي يقوي النظر والاستدلال، ودواعي الاختلاف فيه مبني على مناهجه، وبهذه المنهجية يكون الاجتهاد أحد مزايا العقل ومخرجات النص، أما لفظة الرأي فهي من المستعملات العقلية الاجتماعية ويدخل فيها القوانين المستحدثة التي تتقارب مع الأحكام الوضعية في الكليات العامة كالمصلحة والرحمة والإنسانية والأخلاق السوية.
ومع هذا تنوع الإجماع، إلى إجماع مبني على المقاربات النصية، وإجماع مبني على المقاربات العقلية، وآخر على المقاربات العرفية، ومفهوم الإجماع لم يكن مفهوم ديمقراطيا قائما على موازين العدد، وإنما كان مبني المعايير المنهجية في العلم وهو النظر المجرد، ثم الفقه وهو المقارب للنص في النفس، ثم المآل وهو المقارب التأويلي للواقع، ثم حال المجتهد ومكانته العلمية وهي الشروط التي أسست لفكرة المأسسة الاجتهادية فيما يتعلق بالإجماع، وليس ملزما للمجتهدين، فإذا خرج أحد المجتهدين عن الإجماع انتقل إلى مصطلح الجمهور، ولا يحدث هذا الانتقال والخروج صراعا أو تكفيرا وغيرها من مفاهيم الصراع الديني، ويرجع ذلك إلى أن الإجماع بمعناه العملي لم يكن في إطار مؤسسة يلتقي فيها الفقهاء كما يحدث في عصرنا تحت مسميات المجمعات الفقهية، وإنما كان الإجماع بمنهجية الاستقراء للتابعين الذين جمعوا أراء من سبقوهم فوجدوا اتفاقا، وهذا الاتفاق كان من المقاربات الاجتهادية في النص دون لقاء مؤسسي، وهذه الصفة المؤسسية المعيارية أكثر قيمة من المأسسات الهيكلية المعاصرة.
وما شذ عن الإجماع من أراء، ففيه مصلحة ترتبط بالثقافة والجغرافيا والحكم.
ولم يكن للإسلام مذاهب في عصر الأئمة الأربعة المشهورة، ومع بروز مدارس جليلة القدر لم تشتهر رغم أهميتها، كربيعة الرأي والليث بن سعد وجعفر الصادق وفقهاء المدينة السبعة، فهولاء الفقهاء كان من مرجيعات نشوء المذاهب المشهورة، إلا أن تشكل المذاهب بأئمتها الأربعة ارتبط بالعناصر التالية:
- القواعد المنهجية الذي تميز به هولاء الفقهاء بما يتناسب مع المصالح العامة وحاجيات المجتمع وظهور أقضية لم تكن من قبل.
- المصنفات والمؤلفات التي كتبها هولاء الفقهاء وتطورت بالشرح والتفسير والتعليق من قبل التابعين.
- نبوغ تلاميذهم وانتشار الثقافة المدنية للفقه في المجتمعات ونشوء الأوقاف
- ابتعاد الفقهاء عن السلطة السياسية التي تعد بيئة صغرى داخل البيئة الاجتماعية الكبرى، وهو ما جعل المجتمع محددا للسلطة السياسية، والفقهاء مرجعا نظريا ومنظما للسلوك الاجتماعي ومقوما له.
- دعم الفقهاء لأنظمة الحكم بالقضاء مع بقاء وظيفة المفتي وظيفة اجتماعية خارج إطار السلطة السياسية، ومن ثم كانت سلطة الفتوى أقوى من حيث التأثير كونها مجردة من وسائل الإكراه ، فنشأت بها الضمير الفردي والضمير الجمعي لأنها نابعة من الذات والإيمان، وكانت النظم السياسية تسترشد بها مع كونها منفصلة عنها مؤسسيا من جهة الفتوى التي تتمركز في الحاضنة المجتمعية، بينما كان القضاء محددا من محددات المجتمع بالوسائل الإكراهية والبيئة السياسية من فروع البيئة الاجتماعية، وقد تميز القضاء بقوة المؤسسة السياسية، واشتهر بكونه من محددات السياسة الشرعية وبه نشأت علوم الآداب السلطانية لارتباطها بالبيئة السياسية الجامع بين دورها في المجتمع، والدور في بيئتها السياسية..
وقد مات هولاء الفقهاء ولم يدركوا حينها أنهم أسسوا لمدارس منهجية قد تتحول من كونها وظيفة منهجية إلى معتقدات إكراهية وقد تخرج عن مقاصد الشارع إلى البغي وهذا الانحراف لا يكون إلا بمظاهره القومية والعرقية والكلامية التي أوجدت التعصب وبذرت مزارع العنف، ولولا امتطاء السلطة للدين وحرص الفقهاء على السلطة لسلم الإسلام من الصراعات المعاصرة.
وقد تطورت النهضة الثقافية والمجتمعية والسياسية بتطور النظريات الفقهية والمنهجية مع فقهاء القرون الثلاثة الأولى، إذ كان الدليل مرجعا وضابطا ، ونقصد بالدليل هنا؛ الدليل المفسر للقرآن وتفصيلاته الواردة في علم الحديث والقواعد الأخرى، لم يكن للرأي مجالا إلا في مجالاته العقلية المنضبطة بالمصلحة، والمصلحة هنا نظرية وعملية ومآلية.
وبما أن القرآن كان مرجعا بالتواتر ولم يرد الخلاف فيه إلا فيما ورد في القراءات غير المشهورة، التي أنزلت بمنزلة الأحاد في الحجج الاستدلالية، فإن إسناد السنة تعددت وتنوعت بسبب تفرق الصحابة في البلاد بعد الفتوح، وبذلك ظهرت مدارس جغرافية متعددة منها مراجع متنوعة جغرافيا، حيث كانت مدارس في المدنية، ومكة واليمن والشام والعراق ومصر وغيرها من البلاد.
وتعدد معها مركزية الحديث بتمركز الشخصيات الحاملة له، وكانت بدايتها في المدينة ومكة وانتقلت منهما إلى الأمصار الأخرى، وكانت معضلة جمع الحديث تشكل تحديا، لأن بواعث تدوين الأحاديث ارتبط بظهور الكذب في الدين وكانت هذه هي أول بوادر استغلال الدين لمصالح سياسية وتجارية وعرقية وثقافية ساهم في انتشارها التداخل الثقافي، وانشغال أحفاد الصحابة بالسياسة عن العلم.
وبما أن الكذب نشأ في ثقافات غير الثقافة العربية التي كانت تعد الكذب في الجاهلية من خوارم المروءة ، ثم عد في الإسلام مناقضا للإيمان، فقد برز عدول من واسط الثقافات التي انتشر فيها الكذب، فأصلوا لمناهج علمية في إسناد الحديث ، ومناهج في علم الجرح والتعديل وأخرى في التزكية، لعلمهم بواقع الثقافات والمجتمعات التي ينتمون إليها، ولهذا برز أشهر علماء الحديث من المشرق.
بينما لم يبادر حفاظ الحديث في جزيرة العرب في ذلك، وإن كانوا مصدرا للأحاديث، إذ لم يكن في طباعهم الكذب أو التكذيب، ورغم معاداة قريش وكفار العرب للإسلام إلا أنهم لم يكذبوا في نقل الحديث، أو يعملوا على نشر مقولات كاذبة، إذ كانت معاداتهم مبنية على التعصب والمنافسة على المجد فنشأ بينهم تكذيب المصدر لاستحالة تخيله عقلا مع أنه استيقانه في القلب،
ومما ميز جزيرة العرب حينها أنها لم تستسلم لثقافة الاستبداد السياسي، إذ كانت القبائل تتسابق في الفضائل وتسعى كل قبلية لأن تتصدر بفضائلها القبائل الأخرى، ومن يدرك معنى الحمس في لغة قريش يدرك مدى التمسك بالشعائر الدينية، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا أحمسي” ثم صحح الإسلام طرائق الإسلام فقال تعالى:” ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها” فأبطل شرائع الجاهلية بإعادتها على أصول إبراهيم عليه السلام.
لهذا كان التدوين الحديثي كردة فعل على فشو الكذب، والذي تفشى مع الثقافات الشعوبية نظرا لارتباطها بثقافة الاستبداد السياسي فأدى إلى توسع دائرة الاستبداد الاجتماعي.
وتعد بيئات الاستبداد من أهم البيئات في نشوء الكذب والمكر والاحتيال وانهيار الأخلاق، وتراجع القيم الدينية، من أهم البيئات في توظيف، وصرافه بالرأي عن تأويلاته المنهجيةـ، ومن أهم أسباب بروز العنف والإرهاب وانهيار الأمن المجتمعي.
وبذلك خرجت الثقافة العربية عن خصوصيتها القبلية فأدى إلى فساد قيم القبيلة، وخصوصيتها الدينية وترتب عليها التدين المعاصر والذي تأسس على ثقافة التطرف والعنف والتعصب الديني مع الخوارج، ثقافة السرية والتلاعب الفكري والثقافة السياسية مع المعتزلة، وثقافة الخضوع و الاستمراء والكمون مع القدرية، وغيرها من الثقافات التي ساهمت في تعدد المعتقدات وتنوعها، وحصرت الإسلام في معتقداتها وأخرجت المعتقدات الأخرى عن دائرة الإسلام.
وإذا عدنا إلى استدلالاتها سنجد أنها استدلالات أراتية توظف النص، وليست تأويلية مبنية عليه، فيتقدم النص كمبرر شرعي ثم يتبعه التحريف المعجمي والتلفيق بالرأي ليس من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي، وإنما من أجل إثبات صحة المعتقد وإبطال رأي المخالف، ومع هذه الفرق أفشلت منهجية الحوار وضوابطه لأن أسس تكوينها الأولى لم يكن من داخل الإسلام أو قائمة على أسسه، وإنما كان الإسلام وظيفة تبريرية وتمريرية للحصول على شرعية النص من جهة وقبول المجتمع من جهة أخرى كمصدر مهم لمصادر الاقتصاد والقوة المجتمعية.
وبذلك نشأ التدين الاجتماعي المخالف للقيم الكلية والتدين السياسي القومي والحزبي المناهض لقيم المخالف والقيم الإنسانية، وصدق الله ” وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ”