الفروق بين النظرية والفقه والواقع.. قراءة في إشكالية التخلف الحضاري

0 79

 

د. جمال الهاشمي

تعد نظرية الفروق من أهم النظريات الإسلامية في الفقه الاجتماعي والمدني والسياسي، إلا أنها لم تتطور خلال الخمسة القرون السابقة لتاريخنا، وبما أن البعض يرى أن الواقع إشكالي ومستقبله أكثر إشكالية إلا أن إشكالية التاريخ هو الأكثر حضورا سلبيا في عالمنا الإسلامي، وقد ترتب عليه إخفاقات اجتماعية وجغرافيا وسياسية ما تزال آثاره تلامس المجتمعات الإسلامية بما في ذلك الذين يدخلون إلى الإسلام حديثا.

هناك  وهنا مجتمعات ما تزال تعاني من إشكالية فهم الأصالة أو الأصولية، وتتعاطى مع هذه المفاهيم انطلاقا من التاريخ بما فيه من تعطيلات لإمكانياتها وواقعها المعاصر، لأن الإعاقة الذهانية تؤثر على الذهنية مما يؤثر على القدرة.

ومن الضرورة بمكان أن تتغذى الإمكانيات بطاقة الفكر وقوة الذهن والتصور، لا أن يكون الفكر انعكاسا لصور الواقع أو العكس، لأن ذلك يؤدي إلى دائرة مغلقة. ومن ثم يكون الواقع والفكر المنعكس عنه هادما للتطور والتقدم انطلاقا من مسلمات تاريخية أو خوفا من تجارب فاشلة، وهذا الحذر المعوق يقود باحتمالات خاطئة إلى فشل متحقق بطبيعة التفكير ذاته.

وإذا نظرنا إلى العالم العربي بمؤسساته السياسية سنجد التفكير ينساب في إطار قوالب مؤسسية غير قادرة على التعاطي مع متغيرات الواقع، وبدلا أن تكون المؤسسة واعية بالمتغيرات البيئة وتعمل على تطوير إمكانيتها بما يتناسب مع الحاجة المجتمعية والسياسية، نجدها تعيق ذلك  بالقوانين المؤسسة التي انتجتها  بما يتناسب مع واقعها، وبدلا من التعاطي مع التأسيس كمرجعية تستوجب المتغيرات تجاوزها  بتطويرات وتحولات تتناسب مع احتياجات الواقع، يتعاطى معها كقيمة مقدسة و أصالة تاريخية.

لهذا وبهذه الآلية الفكرية عوقت  المجتمعات التاريخية التاريخ في واقعها ومستقبلها، وهذه الردة الزمنية فصلت إرادة التاريخ عن سيرورته، وعطلت صيرورته المؤسسية والحضارية والتاريخية، وقد كان من أهم أسباب تعطيل النفسية العربية البكاء على الأطلال ابتداء من الشعر القديم، بينما كان الخيال العلمي يؤسس لحضارات علمية جعلت من الماضي مادة فكرية وطاقة إنسانية أعادته بصوره المعاصرة ومتطلباته الحاضرة  ولم تفصله عن الزمان والمكان بامتداده واتساعه وتسلسله واتصاله.

وإشكالية الفكر العربي يرجع إلى إشكالية الربط بين الأزمنة ، والرجعية هو فصل التاريخ عن واقعه ومستقبله وليس التخلي عنه، ولا يسمى الفقيه فقيها حتى يكون جامعا بين النظر والعمل والمآل، فإذا كان بالنظر والعمل وانفصل عن المال أسس لمجتمعات الردة، ومفهوم الردة أكثر ضبطا من إطلاقنا المعاصر على المجتمعات بالرجعية، لأن الرجوع مهما كونه مرجعا  وأسا يبنى عليه ويواصل السير نحو المستقبل ليس بأدوات الماضي ولا بوسائله وإنما بإمكانيات الحاضر ومقوماته.

أما المرتد فهو الذي يعظم الماضي ويسكن فيه ويجرده عن واقعه بمثاليات مقدسة، وإن كان  فيشنو في الأساطير الدينية الهندوسية يترجم واقعها معاصر في سياقات فكرية تربط التاريخ بالجغرافيا المعاصرة، بعد أن كان تاريخا للمستقبل على أساس فلسفة الانتظار،  وهو ما جعل الهند المعاصرة تتجاوز سلبية التاريخ بما تقوم به من مأسسة زمنية لنظرية المنقذ الهندوسي.

وتأتي إشكالية المؤرخ  في كتابته للتاريخ السلبي، ولهذا نجد التاريخ السلبي في العالم العربي من أهم أسباب تخلفنا في واقعنا المعاصر، لا سيما وإن أصبح التاريخ مقدسا متعاليا فوق نصوص الوحي.

وتعاني المؤسسة العربية السياسية والاقتصادية والعسكرية من إشكالية معرفة الواقع واحتياجاته، والذي ترتب عليه المغامرات في اتخاذ القرارات والصراعات دون تقييم المخاطر البشرية والاقتصادية والتنموية.

فنجد الفتاوى الدينية والقرارات السياسية والاقتصادية قائمة على فلسفة الردة والتخيل، وفلسفة الردة تعني ارتباط القرارات بالفترة التاريخية التي تشكلت فيها ذاتية الأنا، والتخيل الذي فصلها عن الواقع، على سبيل المثال فكرة العثمانية الجديدة، وفكرة المهدية في الثقافة الإسلامية، الأولى تسكن ماضي التأسيس، مع أن ماضيها تأسس على أصول  تاريخية كانت هي الـأساس الصلب الذي قام عليه التأسيس المتشكل، وهنا نميز بين الماضي المتشكل الذي يختزل التاريخ فيه، وبين الماضي المؤسس التي تأسست به الحضارات، والمفهوم الثاني هي إشكالية المهدية  التي تسكن المستقبل  وتنفصل عن الماضي وواقعها.

وإذا عدنا إلى مفهوم آخر من مفاهيم العمق الحضاري سنجد أن فكرة الألفية في الثقافة الغربية  قد حولتها إلى مؤسسة عالمية تجاوزت الجغرافيا المقدسة وجعلت لها مراكز جغرافية متعددة وعمقا وأطرافا، وانطلاقا من رؤيتها إلى الواقع قسمت العالم وفق تقسيمات ثنائية؛ الأنا والآخر والعالم المتقدم والمتخلف والمدنية والتوحش، وهذا التقسيم أسس لعلم المخاطر، وهو من الدراسات التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، ويطلق على بحوثه بالدراسات المستقبلية ، ومن خلال الدراسات المستقبلية نشأت دراسة الجدوى في المشاريع الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

ولهذا نجد مدينة الألفية في العهدين والمدينة الفاضلة لدى الفلاسفة قد  ساهمت في  تأسيس الدولة المدنية المعاصرة،  بينما نجد الخلافة في الفكر الإسلامي قد تحولت من كونها فكرة مدنية – إدارية تنموية إلى أداة عسكرية، استغلت لتفكيك العرى وانتهت بها إلى نشوء الدولة القطرية وأشباهها، وأسست لهويات جغرافية واختزلت الإسلام في جهة وعرق وقطر وحزب وقبيلة .

ومن هنا كان التاريخ الغربي والتاريخ الإسلامي يعمل على تداول الأدوار وبطريقة عكسية، فإذا تطور الفكر المدني في العالم الإسلامي سنجد في المقابل تراجعا مدنيا في الفكر الغربي، لضمان استمرار الصراع الفكري بين النموذجين.

إلا أنه قد يحدث تقاربا فكريا وثقافيا ومدنيا ضمن سياقات تحديات أخرى خارج إطار الجغرافيتين وهذا التقارب يعد استراتيجيا وقد يؤدي إلى تغير في حدود الجغرافيا في حال تطورت نظرية المد الجغرافي واستراتيجية الجغرافيا انطلاقا من المقاربة العلمية بين الفكر والعمل والرؤية .

وهذا يستدعي تغذية المؤسسات السياسية العربية وتنقيتها من المعوقات الذهانية والقيود الفكرية بنظريات تتداخل فيها الذهنية مع الواقع والقدرة، وأن تتحول من ثقافة المغالطة والتفكيك والعروض المسرحية ومخادعة العمق الاجتماعي بتوظيف الدين والقيم والمشاريع الوهمية إلى مكاشفة المجتمعات بالتحديات ومشاركتها في صناعة واقعها ومستقبل أجيالها الذي قد يقتضي التضحية بالرفاه لجيل التأسيس من أجل أجيال يحقق لها البناء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.