أزمة الفقه المعاصر وإشكالية تكوين الأئمة
العقل هو المحدد الكلي من جهة الرؤية والفعل والسيرورة وفيه مسارات التغيير، أو من جهة النظر والعمل الذي يرتب مسارات الواقع، وفيه مساقات التصيير
د. جمال الهاشمي
تشكل الفقه ضمن أطره النظرية مع الإمام الشافعي صاحب الأصول في الرسالة، وهي أول نظرية ارتبطت بواقع الحال والمكان ومتغيرات الزمان، حيث بدأت في عصره بوادر أزمة الاجتهاد وانحرفت عن أصولها الأولى، فكان هذا الإنحراف هو الداعي والسبب الأول لتأسيس هذه النظريات انطلاقا من مستجدات الواقع ومتطلباته وبناء على احتياجاته.
ومن ثم نشأ مفهوم الحد النظري، والحدود الأصولية، هي المجالات النظرية التي أصلت لقواعد وأدلة الفقه من أجل ضبط المعقول بالمنقول، وتجريد ما لم يكن فيه نص عن المنقول.
كانت وظيفة الشافعي هي وظيفة العارف الذي أدرك مميزات الوظائف وضوابطها، ومن ثم كان القياس مدخل من مداخل فهم النص، ومؤسسه الشافعي بلا منازع. أما الإجماع فقد سبقه بذلك الإمام مالك، وأطلق النعمان العقل، بينما أعاد ابن حنبل تجديد الأصول بالنص. وكان من أهم أسباب ابتعاث علم أصول الفقه ظهور الفرق وتعددها.
ومن ثم كان لا بد من ضوابط لحلقات العلم وضوابط أخرى لضبط الإمامة وتزكيتها، قبل أن تتسع الأزمة ويتربع القصاص على موائد الدرس والخطابة.
وإذا عدنا إلى التقسيم الأولي سنجد أن الأصول تنوعت في النشأة الأولى إلى أصول مجملة فيها تفصيل، وأصول مفصلة فيها إجمال، وهذا مقيد في الكتاب (القرآن الكريم)، وتتلوه في الرتبة الثانية الأصول التفسيرية، ومقيدة بالسنة النبوية بمراتبها القولية والعملية والإقرارية، وبذلك تكتمل الحدود الضابطة للعقل والحكم والفتوى، والربط بينهما يسمى اجتهادا، والاجتهاد منضبط بالنص أولا، والعقل فيه مفسرا، وليس مستقلا أو مساويا، كون البحث في الشيء مدار النص، والبحث عن الشيء مدار العقل.
ويقابل الشرع (الكتاب والسنة) الأصول الأولى، ونقصد بها (الفطرة)؛ وفيها مجالات ومدارات العقل الكلي، وهي مطلقة من جهة التقييد الشرعي، ومقيدة من جهة العقل السوي، وقولنا السوي نخرج منه الجاهل والسفيه والمجنون والصبي والغافل والسكران، وبهذا يكون العقل هو المحدد الكلي من جهة الرؤية والفعل والسيرورة وفيه مسارات التغيير، أو من جهة النظر والعمل الذي يرتب مسارات الواقع، وفيه مساقات التصيير .
والربط بينهما يسمى فكرا، والفكر أكثر إطلاقا من الاجتهاد، لأنه منضبط بالعقل وخارج إطار الشرع، ولهذا جاءت القاعدة الكلية في الفقه لتميز الفروق المنهجية؛ إذ أن “الأصل في الأشياء الإباحة” وفي هذه القاعدة يدخل الواقع كأحد محددات العقل؛ وعلى أساس ذلك نميز بين رتبة الاجتهاد، التي يحدد فيه شروط المجتهد، ورتبة التفكير، الذي يحدد فيه شروط المفكر، وهنا يأتي دورنا في تحديد مصادر الاجتهاد وضوابطه، مصادر التفكير وضوابطه، حيث يرتبط المجتهد بعلمي الأصول الثابتة وعلومها الموصلة لفهمها من علوم الآلة.
أما المفكر فيستقي مصادره إلى جانب ما سبق من أصول الشرع، التجربة الإنسانية والتجارب السابقة، والواقع ومتغيراته، والسياسة ونظمها، والإنسان وأحواله، والجغرافيا وحقائقها، وهو أشبه من جهة السياق والسيرورة بالعلوم التجريبية كلما استحكم العقل في النظر استقام العمل.
ووفقا لرؤيتنا المعاصرة في الفقه، فإن القانون مطلق من جهة المصلحة، وهو أحد صور العرف وأوسع منها، لأنه يرافق التجربة الإنسانية المعاصرة، ويحولها إلى أعراف مستقبلية، ويستحدث منه قواعد وقوانين لحفظ المصلحة، وهي وظيفة المفكر. أما تقيديها من جهة الشرع فتكون من وظيفة المجتهد، والجمع بين الرتبتين تحل منزلة العارف، والعارف أعلى رتبة من العالم، لأن العارف يجمع بين نص الكتاب وهو مجال الحكم والبحث، وعلم الكتاب وفيها خصوصية الحقيقة و الوصف . قال تعالى: “الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم” .
أما العلم فقد يكون بالعقل، وقد يكون بالأماني، وقد يكون بالظاهر، وقد يكون بالواقع، وقد يكون بالخشية، وهذا الأخير هو الاستثناء المحمود وما دونه مذموم ، و قد يكون بالتكليف وهي وظيفة الأنبياء وقد يكون بالممارسة وهي وظيفة العبد الصالح، وهذه الأخيرة أعلى رتب العالمين، ولهذا كان الضلال والزيغ من جهة العلم أعظم من الزيغ والضلال من جهة الجهل، لأن الأول لا يزول مع وجود السبب، والثاني يزول بزوال السبب. فقال تعالى : “وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم”(البقرة:213) ” إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم” (آل عمران: 19).
والجهل بالشيء عندنا؛ قد يكون بنفي العلم مطلقا، وهم من أصحاب الفترة الذين لا يحكم عليهم بشيء، لأن مدار الأحكام والأقضية إنما يكون بالعلم بالشيء لا بنفي العلم عنه. أما النوع الثاني من الجهل وهو أسوأ أنواع الجهل فيأتي بالتقليد والمشابهة. قال تعالى: ” وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذي من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم” (البقرة:18).
والأعراف متغيرة فما يكون عرفا في الماضي قد لا يكون في الحاضر، لأن الواقع من أهم عناصر بناء العرف، وهنا يأتي دور المجتهد ليوسع بالواقع والحال من مدارك اجتهاده بالفكر ليحل إشكالية التناقض، فإن جمد وتصلب تحول العلم من العدل إلى الظلم، ولهذا كانت رتبة العلماء أعظم الرتب لعظم مخاطر التحول عن الوظيفة العلمية إلى التوظيف الديني.
ومن الأعراف التي هي مصادر العقل المقر بالشرع، لون اللباس ونوع غطاء الرأس، وهذا التقييد يكون بالعرف، وما كان عرفا في الماضي قد يكون منكرا في الحاضر أو منبوذا، و يقاس بالذوق الاجتماعي ويتماهي في الذوق العام ذوق الفرد ويصبح حاكما عليه، و يعاقب في حال المخالفة بالعرف والقانون، ويأتي دور السياسي الذي يجب أن يكون مفكرا ليحدد عرفية اللباس من عدمه.
أما من جهة الشرع فإن الضابط فيه سترة العورة وحدودها نفي الشف والوصف، فلا تكون الشفوف لباسا، ولا الوصافة منها، وما فوق ذلك، وأن لا يكون لون الأحمر للرجال وغيرها من الضوابط الشرعية، ويأتي دور المجتهد بهذه المقاييس ليحدد شرعية اللباس من عدمه.
وهنا نجد أن أزمة الفقه المعاصر جاءت من جهة ضبط المفاهيم، ومنها مفهوم العارف الذي يتكون من ثنائية الفكر الذي تشترك فيه العقول من جهة الكليات الأولى وهي وظيفة المفكر، ووظيفة المجتهد الذي يجمع بين العلم بالنص، ويسمى باكتسابه عالما، والعلم بالواقع والحال ويسمى بعلة الربط بينهما مجتهدا و مفتيا، ويخرج عنه الحافظ الذي وظيفته حفظ العلم ونقله، والمقلد الذي وظيفته التقليد والشرح واتباع الأدلة وقد يكون قاضيا.
وإذا عدنا إلى ترتيب الأدلة فسنجد ترقية بعضها وتأخير بعضها أو نفيها إنما أتى من جهة الجهل بالمفاهيم والعي بها، وقد اجمع على الأصول الثابتة ، الكتاب والسنة، بينما اختلف اختلافا نسبيا في الإجماع و القياس، وتوسع الاختلاف فيما عداها من الأدلة؛ الاستقراء، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ، ومذهب الصحابي ، والاستحسان، وأحدث في عصرنا أصولا جديدة عند البعض كالعلم بالواقع وعلم الحال وغيرها.
والمختلف فيه إنما يأتي من جهة تغير الحكم به في الواقع والوظيفة وتعددها، وقد يصل فيه إلى التناقض، ولكل من هذه الأدلة مبحث خاص يقاس فيه رتبته ومسافته بين الأصل والواقع والثبوت والتغير.